د. مصطفى أحمد علي - نده...

ممّا ألفناه في نظم المدرسة وتقاليدها المرعية، تسجيل أسماء الحاضرين والغائبين من التلاميذ في "دفتر الغياب"، كل صباح. تلك مهمة كان يُعهد بها، إلى جانب مهامّ اخرى أبرزها حفظ النظام، إلى "الألفة"، الذي "ينده" الأسماء، فيتبيّن له الحاضر من الغائب. وللنديهة ههنا، وظيفة إدارية، وتعني رفع الصوت بالنداء على اسم الشخص، للتأكد من حضوره، في مدرسة أو طابور أو معسكر.
والنده، في الفصحى يعني رفع الصوت للزجر. وفي (لسان العرب): "النده: الزجر عن كل شيء والطرد عنه بالصياح، وقال الليث: النده الزجر عن الحوض وعن كل شيء إذا طردت الإبل عنه بالصياح" وفي (الصحاح في اللغة): "ندهت البعير إذا زجرته عن الحوض وغيره، وندهت الإبل سقتها مجتمعة. وكان طلاق الجاهلية: اذهبي، فلا أنده سربك، أي لا أرد إبلك، لتذهب حيث شاءت".
وأصل "النديهة" في اللهجة العامّية السودانية هو النداء والدعاء في توسّل وضراعة، ويذهب المعنى في سياقات أخرى إلى النذر، في قولهم: "فلان ولد نديهة" يقول أستاذنا عون الشريف، رحمه الله، في (قاموس اللهجة العامية في السودان): "ندهت الوليّ نديهة، أي دعوته باسمه واستعنت به. والنديهة أيضاً، ما ينذره الإنسان على نفسه إذا أجيب طلبه. يقولون: هذا الطفل "ولد نديهة".
والراجح لدينا، أن اللفظ انتحى منحىً صوفياً وبعداً دينياً في مجتمع وادي النيل السوداني، تشدّه في ذلك وشيجة متّصلة، في تقديرنا، بالتقاليد الكوشية المروية القديمة في التوسّل والضراعة، نجد بقاياها في المديح، ومن درر الأقوال والمعاني، ضراعة حاج الماحي، في "نديهته" للاولياء والصالحين في السودان السناري، وتوسّله إليهم في القضاء على التمساح الذي حلّ ببلده، وممّا يدخل في باب "النديهة" أيضاً والتوسّل بالصالحين في اهازيج الشايقية:
"يابا شيخ زمراوي الولي،
شيخ منوّر وولدك علي،
خلّوا بالكم يا سيادي،
للبنية الشايلة بالي.."
على أن اللفظ انتحى بعداً غيبياً أقرب الى الأسطورة، في شمال وادي النيل، في العامية المصرية، في صيغته الاسمية المؤنثة: "النداهة"، بدال مشدّدة، وهي امرأة جميلة فارعة القوام مسدولة الشعر، تظهر ليلاً على شاطئ النيل وتتعرض لمن تلقاه منفردا وتناديه باسمه، وينصرف إليها مشدوداً نحوها فاقداً عقله، وتسير به إلى مصيره المحتوم غريقاً في النيل. وتتكئ رواية ( الندّاهة) للروائي المصري، يوسف إدريس، رحمه الله، على هذه الأسطورة كما لا يخفى على القارئ.
ومن عيون الشعر العربي الحديث، الذي غمطه النقاد حقّه في الإشادة والدراسة والذيوع المستحقّ، رثائية مصطفى سند في رثاء الشهيد غسان كنفاني، التي وظّف فيها لفظ "النديهة" في سياقه وظلال معانيه السودانية. قال رحمه الله:
ثلاثة، ثلاثة، ورنّة المطارق الثقال في ثلاثة كفى،
اثنان من توقّع الحضور للزوال في دمي توقّفا،
جريت لا تمسّني البروق فارتميت منصتاً وخائفا،
عليك لاتهِرّ، لا تحدّ من "نديهتي" وخلّني أقارع الصحائفا،
عليك قبل ساعة العبور أن تكون عادلا ومنصفا...
رحمهما الله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى