عمر أبو القاسم الككلي - قتل وقائي.. قصة

كتبتُ، في فترة السجن، عدة قصص.

أثناء فترة التوقيف في سجن الشرطة العادية، التابعة للداخلية، التي هي، في النهاية، جهة قانونية (إذ إنه “الدهص، ولا العمي.” كما يقول مثل ليبي) كانت الزيارة (صارت مسموحا بها بعد انقضاء فترة “التحقيق” التي دامت أكثر من ثلاثة أشهر-؟!-)، تستغرق وقتا معقولا، ولا تخضع لرقابة تذكر.

لذا، كان ممكنا لنا الحصول على الكتب والمجلات والدفاتر والأقلام.

كما كان يمكننا إخراج كتاباتنا.

كتبت في تلك الفترة (سنة وخمسة أشهر) خمس قصص، أخرجتها مع عائلتي، ونجت من الضياع، إلى أن خرجت (بعدخروجها هي بأكثر من ثماني سنوات)، فنشرت في ليبيا والخارج.

وهي القصص الخمس الأولى من مجموعتي”صناعة محلية”.

فيما بعد، كتبت قصصا أخرى .

لم أخرج منها شيئا.

ذلك أننا نقلنا إلى سجن الشرطة العسكرية، فكانت الزيارات نادرة (في الغالب ليس أكثر من مرتين في السنة) وكانت من نوع الـ micro زيارة، وتتم تحت رقابة مدققة، ثم منعت نهائيا في السنوات الأربع الأخيرة.

كما كانت المطبوعات ممنوعة (سمح بها لاحقا، وفي حدود بالغة التضييق، بعد مطالبات ملحة، شفهية ومكتوبة) وكذلك أجهزة المذياع (سمحوا، فيما بعد، بالأجهزة ذات الموجة المتوسطة فقط، التي غدت في حكم المنقرضة، ولكن تسربت أجهزة بها موجات قصيرة وموجة الـ FM، التي يمكن التنصت من خلالها على بعض الاتصالات اللاسلكية ومكالمات الهاتف).

وكانت الدفاتر والأقلام ممنوعة، إلا أنه لا يعاقب من تضبط عنده ولا يسأل عن مصدرها، كما أنه لم يحدث أن صودرت.

لذا، كان بعض المساجين الحذاق (لست منهم) يتدبرون أمر الحصول عليها، عن طريق بعض الحراس.

في ظل هذه الظروف (القريبة من عصر ماقبل الوراقة) كتبت، فيما أذكر، تسع قصص أخرى ( أرى أنا شخصيا، أن في ثلاث منها، على الأقل، نوعا من الفتوحات الفنية).

لكنني كنت، بعد أن أكون قد أجهدت نفسي في كتابتها ويتم تداولها بين أصدقائي، أقوم بإعدامها (تمزيقا أو حرقا) تماما مثلما يقتل شخص جوادا ميئوسا من استمراره في الحياة.

فيما عدا أن قتل الجياد يتم رحمة بها ولتجنيبها معاناة لا ضرورة لها، في حين أنني كنت أقتل قصصي رحمة بي، أنا نفسي، وتجنبا لمتاعب لست مضطرا إلى التورط فيها، حالة العثور عليها في عملية تفتيش.

إنه قتل أشبه ما يكون بقتل المرء أبناءه، خشية أن يقعوا في قبضة الأعداء وينتزعوا منهم معلومات تستخدم ضده.

ومع ذلك، فقد جازفت مرة بألا أكون رحيما بنفسي.

فطلبت من الفنان الراحل عبد العزيز الغرابلي (زيزو) أن ينقل بخطه إحدى القصص يجعلها على هيئة كراس مزود بلوحة غلاف.

أخفيت الكراس في مكان ما من الزنزانة.

في حملة التفتيش التالية (وللإنصاف، فإن حملات التفتيش لم تكن كثيرة) كان هذا المكان أول مكان ذهب إليه أحد العسكريين القائمين بالتفتيش.

فعثر عليها، وصودرت( طبعا).


عمر أبو القاسم الككلي / ليبيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى