د. محمد محمد الخطابي - رحلةُ العِلم والتّحصيل..ألا ليتَ الشّبابَ يعودُ يوماً!

“ثانوية أبي يعقوب البادسي” بمدينة الحسيمة (الكائنة في هذا الثغر الجميل السّاحر، والمرتع السياحي الآسر، الذي يُعتبر خليجُه ضمن أجمل خلجان العالم، وهي المدينة التي اشتقّ اسمُها من “الخُزامى”، وهو نبات طيّب الرّائحة يُصنع أو يُستخرج منه عِطر زكيّ عبق فوّاح يكثر تواجدُه في نواحيها وأرباضها)، هذه الثانوية هي معهد تعليمي عتيد، لعب دوراً طلائعياً هامّاً منذ أواخر الخمسينيّات من القرن الفائت في هذه المدينة الحصينة في التربية، والتعليم، والتلقين، وارتقاء سلالم الثقافة، والعلم، والمتابعة، والتحصيل في مختلف مجالات العلوم والمعرفة، مع الحرص على تأصيل مبادئ النضال الطلابي المبكّر الذي كان يتغلغل في قلوب التلاميذ، ويعشعش في وجدانهم منذ ذلك الزّمن البعيد على اختلاف مشاربهم، والتشبّع بالرّوح الوطنية الصّادقة، وتأجّج مشاعر الدفاع عن المصالح العليا الحيويّة للبلاد، والذود عن كرامتها، وعزّتها، وشرفها.

وكان للانتصارات الباهرة- التي حقّقها بطل الرّيف الزّعيم محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، والآلاف من المحاربين، والمجاهدين الأبرار، والشهداء الأخيار، من المواطنين الرّيفييّن الصّناديد رحمهم الله تعالى جميعاً خلال الحرب التحرّرية الماجدة ضدّ الاستعمار الإسباني- (كان لها) حضور قويّ لدى جميع هؤلاء التلاميذ، إذ كانت تنتهي إليهم، وتنعش قلوبَهم، وتحيي أفئدتَهم، وتشحذ عقولَهم، وتدغدغ عواطفَهم، وتُلهب حماسَهم، وتملؤهم بالأنفة، والعزّة، والزّهو، والفخار. وكان التلاميذ والطلبة يلتحقون في هذه المدينة للدراسة في هذا المعهد من كلّ صوبٍ وحدب، من بلاد الرّيف المترامية الأطراف، وقبائلها، ومداشرها، ودواويرها، ونواحيها، وأرباضها من أقصاها إلى أقصاها. وكان التلاميذ يؤمّون هذا المعهد كذلك من مناطق نائية، وتضاريس وعرة، وأصقاع بعيدة من مختلف ربوع الوطن. كان يدرّس به أساتذة ومعلّمون من مختلف الجنسيّات من المغرب، ومصر، ولبنان، وفلسطين، والأردن، وسوريا، وإسبانيا، وفرنسا، وحتى من بعض بلدان أوربّا الشرقيّة في ذلك الإبّان.

العِلم في الصّغر كالنّقش في الحَجَر

كان بعض قدماء تلامذة معهد أبي يعقوب البادسي قد قاموا منذ بضعة أشهر بسرد وتدوين بعض ذكرياتهم الدراسية الجميلة عن هذا المعهد، ونشروا مقتطفات من هذه الذكريات في موقعهم التواصلي الرّائد الجميل “جمعية قدماء تلاميذ ثانوية أبي يعقوب البادسي” وفي بعض الصّحف الوطنية، وعلى فضاءات مواقع التواصل الاجتماعي، من “فايسبوك” وسواه. ولا تخلو هذه الذكريات من متعة، وفائدة، وثقافة، وثراء معرفي خصب. كما كانت هذه المعايشات تحفل بالحِكم، والحِكايات، والطرائف، وبفيضٍ غامرٍ من الحنين إلى ذلك الماضي السّحيق الذي ذهب أدراجَ الريّاح ولم يبق منه سوى قبضٍ من ريح، أو حصادٍ من هشيم، وبضع صور، ورسومات، وومضات باهتة “تلوح كباقي الوشم” في ظاهر الذاكرة، وثبج الأيّام. هذا السّرد الثريّ المثير والمؤثرّ ردّني في لمحة عين إلى ذلك الماضي البعيد الذي غبر وولّى، والذي اعتدنا أن نطلق عليه “الزّمن الجميل”، لأنّني كنت كذلك واحداً من تلامذة هذه الثانوية القلعة الحصينة، والمنبر الشامخ منذ سنين طويلة خلت.. هذه المؤسّسة التعليمية الثانوية كنّا نطلق عليها كذلك على أيامنا اسم المعهد، فعدتُ بدوري الزّمان القهقرى، إلى أن وصلت إلى الستّينيات من القرن المنصرم. ولا ريب أنني ورفاقي في الدراسة إبّانئذ كنّا نشكّل الدّفعة الأولى من المائة الأوائل من التلاميذ الذين التحقوا لأوّل مرّة بهذه المؤسّسة التعليمية الفتيّة، وتابعوا دراساتهم بهذا الصّرح التربوي التليد.

وللحريّة الحمراء بابٌ

من الأساتذة الذين ما زلت أذكرهم بالإضافة إلى المرحوم أبي خالد الإنسان النبيل، والصّارم دائماً (أحمد التمسماني) صاحب النظارة السّوداء الذي كان قد تابع دراسته بالقاهرة، والذي كان يُكثر من استعمال حرف (الحاء) في مستهلّ كلامه متأثّراً بطريقة النطق عند إخواننا وأحبّائنا المصرييّن، فكان يقول مثلاً: حَتدرسُوا ولّا لاّ..؟ حَتجتهدُوا، ولاّ حَتلعبُوا. أنا حَوارّيكم.! أذكر كذلك الأستاذ توفيق عليّ الضبع المصريّ الجنسيّة، صاحب الأخلاق العالية، والإنسان التقيّ، النقيّ، الوفيّ، الذي أحدث ثورة تعليمية حقيقية في هذه الثانوية في ذلك الوقت، وكانت له مواجهات ومشاكسات عنيفة مع موظف بهذه المؤسّسة، اليهودي الناظر العام الذي كان يُسمّى (ضُونْ ليُونْ). وكان مدير المعهد على أيامنا المرحوم الأستاذ عبد الكبير الإدريسي من مدينة تطوان، قبل أن يعيّن الأستاذ أبو خالد التمسماني في هذا المنصب في ما بعد. وأحدث الأستاذ توفيق بالمعهد العديد من الأنشطة الثقافية، والتربوية، والترفيهية، مثل المجلّة الحائطية التي كانت تحمل اسمَ المعهد، والتي كان لي فيها عمود خاص، وحصّة المطالعة الاختيارية، حيث كنّا نقوم بقراءة بعض الكتب وتلخيصها والتعليق عليها، وتنظيم المسابقات الأدبية التي غالباً ما كانت إدارة المعهد تقدّم للفائزين فيها بضعة كتب كان معظمها-على ما أتذكّر- لمؤلفين، وكتّاب، وشعراء مصرييّن أمثال عبّاس محمود العقّاد، ومصطفى لطفي المنفلوطي، ومصطفى صادق الرّافعي، وإبراهيم المازني، وحافظ إبراهيم، وأحمد شوقي؛ ومن اللبنانييّن إبراهيم اليازجي، وحنّا الفاخوري، وجبران خليل جبران، وإيليا أبي ماضي، وأمير البيان شكيب أرسلان (الذي كان قد زار المغرب بما فيه منطقة الرّيف في تواريخ سابقة وأعجب بها وبمناظرها الخلاّبة إعجاباً كبيراً)، ولكتّاب وشعراء آخرين؛ فضلاً عن الرّحلات الترفيهية، والتثقيفية، والرياضية، وأنشطة مسرحيّة، إلخ، التي كان يشرف عليها الأستاذ أحمد العلوي. وأنشأ الأستاذ توفيق عليّ الضبع “جمعية الخطابة” التي كان يحضرها ويشارك فيها التلاميذ بطريقة اختيارية طوعية كذلك، إذ كان هذا الأستاذ النبيل يكتب عنوانَ موضوعٍ مّا في الصبّورة مثل (الحريّة) على سبيل المثال، فكانت تنطلق حناجرُنا كلّ على انفراد، في خُطبٍ حماسيّة ارتجالية تلقائية عصماء، وكنّا غالباً ما نطعّمها بالأشعار الشّهيرة، والأقوال المأثورة، والحِكم السّائرة (وللحريّة الحمراء باب / بكلّ يد مضرّجة تدقّ)، و(إذا الشّعبُ يوما أراد الحياة / فلابدّ أن يستجيب القدر)، و(وما نيلُ المطالبِ بالتمنِّي / ولكن تُؤخذ الدّنيا غِلابا) في سباقٍ وتبارٍ وتنافسٍ تطبعه البراءة، والمودّة، والصداقة، والإخاء. وكانت هذه الأنشطة غالباً ما تنظّم أيّام الجمع وأيّام العطل من الأسبوع.

ومن الأساتذة الإسبان الذين درّسوا لنا في هذه المَعلمة التربوية أذكر “ضُونْ ألبرطُو” (العلوم الطبيعية)، و”ضُونْ أنطونيُو” (الرياضيات)، و”ضُونْ خيسُوس“ (اللغة الإسبانية)، و”سينيوريتا أوكانيا” (اللغة الفرنسية)، و”ضُونْ مَانويل” (التاريخ والجغرافيا) وسواهم، وكان السيد ”يذير” حارس المؤسّسة من أطيب خلق الله، وأحبّهم من طرف جميع التلاميذ، والتلميذات؛ كان آخر مَنْ يغادرها في الهزيع الأوّل من الليل، وأوّل من يصل إليها أوّل النهار.

ضحك ولعب وجدّ!

كانت الدّراسة بهذا المعهد مختلطة، منذ ذلك الوقت المبكّر، بمعنى أننا كنّا قد سبقنا الزّمنَ والمطالبة بالحريّات والمساواة.. ! ووصلتنا صيحات قاسم أمين، وكتابات سلامة موسي، وامتثلنا لمطالبات هدى شعري، ونداءات درية شفيق، زعيمة حزب “بنت النيل” في مصر.. و”نظيرة زين الدين” وعنبرة سلام، ونظيرة جنبلاط في لبنان !! كنّا نقاسم الطالبات في الفصل بالتساوي، أيّ كان نصفه من الذكور ونصفه الآخر من الإناث، في احترام ومسؤولية ووقار، حتى وإن كان بعضنا أو جلّنا يسترق السّمعَ، ويرمي بالنظرات بين الفينة والأخرى، ويختار له خليلة في خياله في سريّة وكتمان من التلميذات، بل لقد وقع بعضنا في شِبَاك الحبّ والهوىَ، والصّبابة والجوىَ، ولكن دائماً من بعيد وبحبٍّ أفلاطوني، عذريّ، ربيعيّ، بُثينيّ، بريء وعفيف … !، كما كان هناك صراع شرس وعنيد بين المتعاطفين والمُعجبين بالمطربيْن المصريْين المرحوميْن فريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ. ولم يتورّع بعضنا في العديد من المناسبات عندما يخلو القسم من الأساتذة عن الانخراط في الدّندنة؛ بل كانت في بعض الأحيان تصدح أصواتنا بأغاني، وروائع، ونغمات هذين المطربين اللذين كانا في ذلك الأوان يملآن الدّنيا، ويشغلان الناس.. !

ومازلت أذكر أنني كتبتُ ذات يوم على سبيل الدّعابة بضعة أبيات أصف فيها القسم أو (الفصل) الذي كنّا نتابع فيه دراستنا ودخل فجأة علينا على حين غرّة أبو خالد (التمسماني) وقال: مَنْ منكم كتب هذا..؟ فلم يتأخّر كثيراً في معرفة صاحب الأبيات، إذ غمز، ولمز، وأومأ، وأوعز له بعض التلاميذ خوفاً إليَّ، فأفهموه أننّي كنت صاحبَها، القصيدة الصّبيانية إيّاها كانت تقول في بعض أبياتها في تلك السنّ المبكّرة من العمر:

فصلٌ من فصُولِ المَعهدِ / اللّهوُ فيه دائمُ التجدُّدِ
فيهِ عَمْروٌ وشُعيبٌ / ويليهمَا حَمُّو ذو سُؤددِ
فيه كلُّ غثٍّ وسمينٍ / وقصيرٍ وطويلٍ زائدِ
فيه أبطالٌ وشجعانٌ / جِبلّتهم من خيرِ مَحتدِ

وكانت هذه الأوصاف والنعوت موجودة ومتطابقة بحذافيرها بالفعل على الفصل بدقّة متناهية. وعندما قرأ المرحوم التمسماني الأبيات انخرط في ضحكٍ مُسترسلٍ إلى درجة أنه كان يقهقه، ولم يستطع أن يتمالك أو يتماسك نفسَه، وكانت أوّل مرّة نراه فيها يخلع نظّارته السّوداء السّميكة، ويضحك بهذا الشّكل، كان يبدو لنا وكأنّه (الرّجل الغامض بِسَلامْتُه) على لسان ساندريلاّ السينما المصرية سعاد حسني في فيلمها الشّهير ”خلّيّ بالك من زوزو”!. فطبعُ أبي خالد كان إلى الصّرامة والجدّية أميل، ثمّ أسرع خارج القسم وأحضر معه الأستاذ توفيق (المصري) الذي كانت له حصّة في القسم المجاور، فندّت شفتاه هو الآخر عن ابتسامة عريضة، وأمرنا بنقل الأبيات من الصبّورة على دفاترنا، ومازال العديد من رفاقي، ورفيقاتي، وأصدقائي، وصديقاتي الأعزّاء والعزيزات في هذا الفصل يتذكّرون هذه الحكاية ويتندّرون بها إلى اليوم. إذ بالفعل كان بالفصل أو بالقسم تلميذ اسمه عَمْرو، وكان به شُعيب، وكان به حَمّو، الذي كان شديدَ الاعتداد والاعتزاز بالنفس والأنفة والسّؤدد؛ وكان هناك تلميذ يُدعى (بوغازي) في منتهى النّحافة، وآخر يُسمّى (عْمَار) في منتهى البدانة، وكانت هناك تلميذة (من خارج المدينة) قميئة في منتهى القِصر، التي لا بدّ أنّها كانت تمقت البيتَ الشعري القائل: ( تبيّنَ لي أنّ القماءة ذلّة / وأنّ أعزّ الرّجال (أو أعزّ النّساء) طوالها) !، وكانت بالفصل تلميذة أخرى (من مدينة فاس) في منتهى الطّول، كان يروقها ولا شكّ عَجُز البيت السّابق، وصَدْر البيت التالي: (طويلة دون الأنام لها فضائل)، على منوال البيت الأوّل الذي تعلّمناه في علم العَروض (طويلٌ دون البّحور له فضائل). وكان بالقسم تلميذان من ذوي العضلات المفتولة، يتميّزان بعزّةِ نفسٍ عالية، ويتباهيان بالقوّة والشّجاعة والأنفة، والإقدام..! وكنتُ بطبيعة الحال أضع نفسي اعتزازاً في خانة هاذين التلميذين الأخيرين!.

درس في الجغرافيا

ومن الطرائف التي كنّا نتندّر بها في ما بيننا كذلك أنّ أستاذ الجغرافيا والتاريخ الذي كان يُدعى ”ضُونْ مَانويل” (إسباني الجنسية) كان يسألنا عن عواصم العالم في درس الجغرافيا، وكان عندما يصل إلى عاصمة إثيوبيا، كنّا بدلاً من أن نقول (أديس أبيبا)، اتّفقنا في ما بيننا (خاصّة التلاميذ الذكور بشكل خاص) أن نقول عند الجواب: (أعَدَّيس نْحَبِيبَا) (مدغومة)، وهذه الكلمة تعني باللغة الريفيّة ”بطن حبيبة”، وهي قريبة جدّا في النطق من أديس أبيبا، وكانت بالفصل تلميذة زميلة لنا اسمها حبيبة، كانت تطأطئ رأسَها وكأنّها تتضايق بلطف، كلّما سألنا أو أعاد علينا الأستاذ الإسباني نفسَ السؤال، وكان الضحك يغلبها في الأخير هي الأخرى مع الجميع، وكان القسم ينفجر ضحكاً أكثر فأكثر، عندما يقول الأستاذ ”ضُونْ مانويل” بعد الجواب منتشياً، جذلاً، فرحاً ومبتسماً : !! Muy bien أي أحسنتم…!

الحمامة البيضاء

بعد هذه المرحلة التحقتُ بمعهد القاضي عيّاض بمدينة تطوان العامرة “الحمامة البيضاء” (حمامة الأيك مَنْ بالشّدو طارحها / ومَنْ وراء الدّجى بالشوق ناجاها)، هذه المدينة السّاحرة الواقعة شمال المغرب قال عنها جدّ صديقنا الأثير الأديب الدبلوماسي التهامي أفيلال، الفقيه الأديب الكاتب الشّريف النبيل مفضّل بن محمد أفيلال المتوفىّ سنة 1886 رحمه الله، وهو من الأدباء اللاّمعين، والكتّاب البارزين في عصره، قال :

تطوان ما كنــــــتِ إلاّ / بين البلاد حمامــَـــــه
بل كنتِ روضاً بهيــجاً / زهرُه أبدى ابتسامـَــه
أو كمُحّيا عـــــــروسٍ/ علاه في الخدّ شامَه
فقتِ بهاءً وحســـــناً / فاساً ومصرَ وشامـَــــه
رماكِ بالعينِ دهـــــرٌ / ولا كزرقا اليمامـــــــه

ويُقال إنه أوّل من أطلق على مدينة تطّاوين (الحمامة البيضاء)، علماً أنّ هذا الاسم ورد كذلك في صدر رواية الكاتب الإسباني الكبير ”بينيتو بيريث غالدوس” (1843-1920) “عايطة تطّاوين”، حيث يقول إنّ هذه المدينة الآمنة كانت تتراءى من بعيد للجنود الإسبان الذين قدموا مع “الجنرال ليوبولدو أودونيل” في حملتهم العسكرية الضّروس عليها عام 1860 (كالحمامة البيضاء) التي سوف تلطّخ قريباً بالدماء.

بلاد العُرب أوطاني!

على الرّغم ممّا يحمله هذا العنوان في طيّاته من حيف، لأنه ينكر وجود السكّان الأمازيغ الذين تمتد بلدانُهم من أقاصي غرب إفريقيا في شمال المغرب من المحيط الأطلسي إلى الحدود الليبية المتاخمة لمصر المحروسة شرقاً، ومن المنطلق نفسه إلى أقاصي منحنى نهر النيجر جنوباً؛ بل إنّ إحدى المدن المذكورة في هذه القصيدة الشّهيرة وهي مدينة “تطوان” تحمل اسماً أمازيغيّاً قحّاً منذ بنائها أواخر القرن الخامس عشر الميلادي من طرف الموريسكييّن، المُهجّرين، والمُبعدين عن دورهم، ووطنهم في إسبانيا قهراً وقسراً، وظلماً وعدوانا، (وتطوان إنّما هي صيغة النطق عند الإسبان وهي(Tetuán) أمّا اسمها الحقيقي الأصلي فهو “تطّاوين” في صيغة الجمع، ومفردها ثِطّ، والتي تعني “العَين” أو “العيُون”). على الرّغم من ذلك فلا بأس أن نسترسل في الحديث، وهو دائماً ذو شجون، فنقول :

هذه المدينة الفيحاء التي قيّض الله لي أن أرى النّورَ فيها، كانت دائماً تذكّرني بطرفة جميلة واقعيّة جرت بين الموسيقار محمد عبد الوهّاب والشّاعر السّوري فخري بارودي، هذه المُستملحة كان قد حكاها لي الصّديق الأديب الباحث الجهبذ المرحوم ممدوح حقّي (السّوري الجنسية) خلال عملنا أواسط السبعينيّات من القرن المنصرم في مكتب تنسيق التعريب التابع للألكسو، فقال: يُحكى أنّ كلاًّ من فخري البارودي ومحمد عبد الوهاب التقيا ذاتَ مرّةٍ في حفل استقبال دبلوماسيّ بدمشق، حيث كان المطرب المصري الكبير المجدّد في زيارة إلى سوريا، وكان قد بدأ يتألق نجمُه في سماء الشّهرة، والمجد، والنجاح في العالم العربي، وكانت أغانيه الرّائعة تصدح في كلّ مكان، وتُحقّق نجاحاتٍ منقطعة النظير…وصار الشاعر فخري البارودي يتحيّن الفرصة خلال هذا الحفل حتى أمكنه أن يدنو من موسيقار الأجيال، ويتبادل معه أطرافَ الحديث.. وفي لحظة مّا قال فخري البارودي لمحمد عبد الوهاب: -أستاذ عبد الوهّاب عندي قصيدة أحببتُ أن أسمعكَ إيّاها لعلّك تلحّنها إذا راقتك..؟ فقال له محمّد عبد الوهاب: – لا بأس هل هي معك الآن..؟ فقال البارودي نعم، فردّ عبد الوهاب: أَسْمِعْنِي إيّاها إذن. فأخرج الشّاعر السّوري ورقةً صغيرةً من جيب سترته، وبدأ يقرأ على مسامع الموسيقار النابغة بتؤدةٍ وتأنٍّ قصيدته (“بلاد العُرب أوطاني” التي لم تكن قد اشتهرت بعد!)، وصار يقول بصوتٍ حماسيّ وجهوريّ :

بِلادُ العُربِ أوْطانيِ / مِنَ الشَّـامِ لِبَغْدَانِ
ومن نَجْدٍ إِلىَ يَمَـنٍ / إِلىَ مِصْـرَ فَتِطْوَانِ

عندئذ قاطعه عبد الوهّاب وقال له: –
يا فخري بك.. بَسْ مِينْ قال لحضرتك أنّي مُلحِّن جغرافيا!!.

ومكثت بهذه المدينة الجميلة سنة واحدة لا غير، وهي السنة الدّراسية الرابعة من سلك التعليم الثانوي في ذلك الإبّان، حيث تقدّمت حرّاً لامتحان الباكالوريا (الثانوية العامّة) فطويتُ سنتين دراسيتين اثنتين (الخامسة والسادسة) في آنٍ واحد. ومن الأساتذة الكرام الذين أتذكّرهم في هذه الفترة في هذه المعلمة الرّائدة محمّد الزفزافي والرّيسوني رحمهما الله، وأحمد المرابط مدّ الله في عمره. ومن الطلبة الذين كانوا رفاقي في الدراسة آنذاك، وهم اليوم من أعزّ أصدقائي، أذكر منهم: نجيب العوفي، ومحمّد بوخزّار، ومحمّد الأمين الخمليشي، وإبراهيم الخطيب، والمرحوم محمد أنقار، وإدريس إعفارة (أبو العيال المحمّدي) وعبد الغني القاسمي وسواهم، وهم جميعا اليوم من فرسان القلم، ومن كبار الكتّاب، والنقّاد والمبدعين في هذا البلد الأمين.

ومن الطرائف التي أذكرها عن هذا المعهد أنّ الأستاذ الذي كان يدرّس لنا اللغة العربية وآدابَها، الذي كان يشبع الطلبة في كلّ وقت الأصفار في الامتحانات حتى أطلقوا عليه لقب الإشفنجة.. ! حيث أصبح معروفاً بهذا اللقب بين جميع الطلبة في ما بعد سامحه الله وسامحنا نحن كذلك..!. كان يشرح لنا ذات يوم أبيات قصيدة عمرو إبن كلثوم التغلبي الشّهيرة التي من أبياتها

ألا هبّي بصحنكِ فاصبحينا / ولا تبقي خمورَ الأندرينا
أبَا هندٍ فلا تعجلْ علينا / وأنظرْنا نُخبّرْكَ اليقينا
بأنّا نوردُ الرّاياتِ بيضاً / ونُصدرهنّ حُمراً قد روينا

إلى أن يصل إلى البيت القائل:
بأنّا المُطعمون إذا قدَرنا / وأنّا المُهلكون إذا ابتلينا

حيث كان الأستاذ رحمه الله يشرح لنا هذا البيت بأنّ أهلَ تغلب (قوم الشاعر) إذا استطاعوا وكان في إمكانهم ذلك (أيّ إذا قدَروا) أطعموا الناّسَ جميعاً، فقلت له في تدخل اعتراضي (ما كان عليّ أن أفعله) أنّ هذا المعنى غير صحيح، وهو ينأى عمّا كان يقصده الشاعر، فإذا كانوا لا يطعمون إلاّ إذا كان في مقدورهم ذلك فإنه ينتقص، ويقلّل من شيمة الكرم، والجود عندهم، وهذا التفسير لا ينسجم مع ما كان يريد الشّاعر قوله في الواقع: “إذا قدَرنا” يعني أنّهم مُطعمون دائماً، أي كلّما ومتى نُصِبت القدور، “مفردها قِدر، أو قدرة” (بكسر القاف وسكون الدال)، وهنا يتجلّى لنا بإمعان معنى الكرم والجود، فصار الأستاذ يصيح بصوت عالٍ، وهو يقول: ”كفى من التشويش”..”كفى من التشويش”.. وبعد هذه الحادثة اشتكى بي للحارس العام في مؤسّسة القاضي عيّاض التعليمية الذي عاقبني بطردي، وإبعادي عن المعهد لمدّة ثلاثة أيام، وكلّ ما في الأمر بكلّ بساطة أنّ الأساتذة في معهد أبي يعقوب البادسي آنف الذكر في مدينة الحسيمة سبق لهم أن شرحوا لنا معنى هذه الأبيات بالذات بإفاضة من قبل.!

في أرض الكنانة

ومن تطوان الزّاهرة انتقلتُ إلى القاهرة العامرة، إلى ربوع أرض الكنانة الفيحاء، حيث شاءت الأقدار، وقيّض الله تعالى لي من جديد أن ألتقي بالأستاذ توفيق، الذي كان قد سبقني وعاد إلى مصر بعد نشوب أزمة ما أطلق عليه بحرب الرّمال مع جارتنا العزيزة الجزائر عام 1963، بعد تورّط مصر في ذلك الإبّان في هذا الخلاف المُفتعل الذي نشب بين البلدين الشقيقين، حيث أبعد الأساتذة المصريّون عن المغرب وأعيدوا إلى بلدهم.

وقد أحسن هذا الأستاذ المصري الفاضل وفادتي وأكرمني، وبعد انصرام عدّة أيّامٍ في القاهرة فإنّ أوّلَ شيء قمتُ به في هذه المدينة العملاقة هو زيارتي لشقيق الأمير عبد الكريم الخطّابي ورفيقه في الكفاح السّيد مَحمّد (فتحا) رحمهما الله، حيث صرت أزوره كلّ يوم خميس من كل أسبوع، في منزله بحيّ الدقّي، كما كنت أزور أنجالَ أخيه الأكبر الزعيم عبد الكريم الخطابي بين الفينة والأخرى بمنزلهم الكائن بحيّ حدائق القبّة بالقاهرة، الذي كان قد التحق بالرفيق الأعلى قبل وصولي إلى أرض الكنانة، حيث طفقت مرحلة أخرى جديدة من العمر الذي انسابت أيّامه، وانصرمت لياليه كأمواج بحر زاخرٍ أرخىَ سدولَه مسرعةً مهرولةً، مزبدةً هادرةً حيناً، وساكنةً هادئةً حيناً آخر، والحديث ذو شجون يشدّ بعضه إلى بعض، وهو يذكّرنا أو يجرّنا لنحكي في مناسبة لاحقة عن لقاءاتي ومعايشاتي وذكرياتي مع الزعيم المرحوم السّي مَحمّد عبد الكريم الخطابي رحمه الله، وعن رحلة مشوّقة ومثيرة على ظهر الباخرة التركية الكبرى “كارادونيز” انطلاقاً من ميناء مدينة برشلونة الإسبانية، ومروراً بمرافئ ومدن مارسيليا الفرنسية، وجِنوة، ونابولي، الإيطاليتين، وبِيريُوس، اليونانية، ثمّ من الإسكندرية إلى بيروت السّاحرة الفيحاء.

محمّد محمّد الخطّابي
* كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا – كولومبيا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى