كرة القدم مايا الحاج - كرة القدم التي سحرت أجيالا من كتاب شرقيين وغربيين

الحياة لوحة من التناقضات المستمرة. نعيشها بحلوها ومرها، فنتحدث عنها بحب حيناً، وبسخط أحياناً. ولكن مع كل ما يتخللها من تموجات مرهقة للجسد والروح معاً، بدا غوته حازماً وحاسماً في رؤيته إليها، فقال: "مهما كانت الحياة. فلقد كانت جميلة". لعل هذه العبارة الرائعة تنسحب أيضاً على لعبة كرة القدم التي تهب متابعيها متعةً هائلةً على رغم لحظات الخوف والحسرة والهزيمة أحياناً. وهذا ما يسوقنا إلى أولئك الأطفال الذين أهداهم الأورغواني إدواردو غاليانو كتابه الشهير "كرة القدم بين الشمس والظل"، حين كانوا يرددون معاً هذه الأغنية: "ربحنا أم خسرنا/ لن تتبدل متعتنا/ متعتنا تبقى كما هي/ سواء أخسرنا أم ربحنا".

المتعة إذاً وجه الشبه الأول بين الحياة وكرة القدم، بكل ما فيهما من تأرجح مستمر بين المتناقضات الكثيرة: المجهول والمأمول، الحزن والبهجة، الجهد والحسرة، الأمل والخيبة. بل إن هذه اللعبة تتماهى أيضاً، وإلى حد كبير، مع الآداب والفنون، باعتبارها تقليداً أو محاكاةً للحياة. وقد يصعب حصر المتشابهات في ما بينها، وإن كان أبرزها يتمثل في اللحظات الدرامية، التقلبات النفسية، السيناريوهات الديناميكية، التعبيرات الاجتماعية وغيرها.

ومع قلة الأدباء الذين توقفوا عند هذا التقارب بين العالمين، تساءل الشاعر محمود درويش في قصيدة جميلة كتبها عن مارادونا، عن السبب الذي يمنع من أن تكون كرة القدم موضوعاً للفن والأدب؟". لم يقل محمود درويش الرياضة، بصفتها العامة، بل حدد نوعها، كرة القدم، إيماناً منه بأن الأدب يمكن أن يستفيد من نماذج هذه اللعبة، بكل ما فيها من براديغمات اجتماعية وقومية وطبقية واقتصادية وكولونيالية.

وإذا قرأت كتاب "سحر كرة القدم"، الذي أعده الكاتب والصحافي معن البياري (العربي الجديد)، تزامناً مع مونديال 2022، الذي يقام حالياً في قطر، ستجد ربما جواباً عن السؤال الذي طرحه محمود درويش قبل نحو 36 عاماً. وكما نفهم من عنوانه الفرعي "أدباء من الشرق والغرب يحكون عن الشغف باللعبة الأكثر بهجة"، يجمع هذا الكتاب بين دفتيه نصوصاً كتبها 61 كاتباً وكاتبة من دول العالم، جوهرها "كرة القدم".

ثلاثون منهم عرب: عقل العويط، شوقي بزيع، نجوى بركات، إبراهيم عبد المجيد، منصورة عز الدين، عمر قدور، محمد الأشعري، الحبيب السالمي، أمير تاج السر، واسيني الأعرج، حبيب عبد الرب سروري، بسمة النسور، أحمد عبد الملك، مفلح العدوان، محمد أحمد بنيس، تمام هنيدي، محمد النعاس، طارق إمام، شيخة حليوي، سنان أنطون، سمير القضاة، غسان زقطان، محمود شقير، فوزي يمين، حسن نجمي، منصور الصويم، آدم فتحي، شادي لويس، إبراهيم صموئيل.
peinture-yury-pimenov-1926-football-1024x576.jpg
لوحة للرسام الروسي يوري بيمينوف (صفحة الرسام - فيسبوك)

أما بقية الكتاب فهم يمثلون القارات الأربع وعددهم 31 كاتباً وشاعراً، ينتمون إلى أجيال وثقافات مختلفة، لكنهم يلتقون في حديثهم عن كرة القدم باعتبارها مادةً لا تحتاج إلى تأريخ وإنما مادة نؤرخ بها ذكرياتنا العامة والشخصية. هكذا نقرأ كيف دخلت بعض المباريات في التوثيق الزمني لبداية حرب، أو قيام ثورة، أو عقد قران أو ولادة طفل.

من أقطارالعالم

ومن هؤلاء المشاركين نذكر الشاعر والروائي البرتغالي لويس فيليب سارمنتو، الشاعرة البيروفية نورا الأركون، الروائي الأرجنتيني فيكتور ردندو، الشاعرة الفرنسية هيلين سانغينيتي، الشاعر والدبلوماسي الهندي أمارندا كاتوا، القاصة والمسرحية النيجيرية آيو أيولا- أمائي، الشاعر الإيطالي جوزبيه كونتي، الشاعرة الأرجنتينية كريستينا دومينيك، الشاعر الكيني كريستوفر أوكيموا، الشاعر الروسي نيكيتا سونغاتوف، وغيرهم.
pablo-picasso-footballeur-d5697841a.jpg
من سلسلة بيكاسو عن الفوتبول (متحف بيكاسو)

وإذا تأملنا في الرابط الجوهري بين نصوص الكتاب المتنوعين جغرافياً وثقافياً وجندرياً وأيديولوجياً، نجد أن كرة القدم كانت هي الجزء الأساسي من الذاكرة، ذاكرتهم الشخصية والوطنية. بين صفحات هذا الكتاب الغني، بشخصياته وحكاياته، نجد كيف تمارس الكرة سحراً جماعياً لا يستثني أحداً، وكيف أن هذه الرياضة تتجاوز حدودها المعروفة لتغدو معادلاً رمزياً للهوية والقومية والوطنية. ومن هنا، جاء انتقاء عنوان الكتاب: "سحر كرة القدم".

ولكن ما سر هذا السحر، وكيف نعرفه؟ قد نجد الجواب على هذا السؤال في مقدمة الكتاب بقلم معن البياري، فيقول: "الإحاطة بكل أسباب البهجة والفرح في كرة القدم عمل شاق، لا لشيء إلا لأن كرة القدم عصية على التعريف. يقولون إنها لعبة، غير أنها أكثر من لعبة. يقولون إنها شغف وحسب، غير أنه لا مدى لمساحات هذا الشغف. تتجاوز الرياضي المعلوم منها إلى منطوق حضاري ظاهر، عنوانه ائتلاف البشر ووحدتهم في المشتركات الانسانية العميقة".

وفي مجمل نصه، يتحدث البياري عن كرة القدم بالإشارة إليها بوصفها: "هي الأكثر من لعبة"، وهي جملة صائبة إذا ما تأملناها على ضوء ما نشاهده اليوم على مدرجات الملاعب في مونديال قطر. هذه الاحتفالية المبهجة لا تخلو مثلاً من أبعاد ثقافية، ومضامين اجتماعية، وتنافس وطني. داخل المستطيل الأخضر، قد يتساوى المهاجر مع المواطن، وينتصر المستعمر على المستعمر، ويقصي فقراء أميركا اللاتينية لاعبي أميركا الشمالية. أما خارج الملعب، فتتداخل القوميات فوق المدرجات. تتلون الجماهير بألوان بلدانها، تهتف، تبكي، تطبل وترقص.

الروح العربية

أما السمة الأبرز في نسخة هذا العام من المونديال، فتتلخص في إعلاء الروح القومية العربية. هكذا نجد أن المنتخبات العربية المشاركة لعبت عن الدول العربية كافة، بما فيها فلسطين التي رفع علمها في أكثر من مباراة. فوز السعودية على الأرجنتين، المرشح القوي في هذا المونديال، شكل مفاجأة هائلة لكل الجماهير العربية التي احتفلت بهذا الانجاز الجميل.

أما فوز المغرب على إسبانيا وتأهله إلى الدور الربع نهائي، فأحدث بهجةً عربية عارمة، من المحيط إلى الخليج. وهذا ما يسوقنا إلى كلام الشاعر السنغالي إبراهيما سيسيه ماكالو الذي اعتبر أن "كرة القدم تعلم حسن تجاوز الذات"، وبأنها هي التي "تجمع الأمم في حالة تطهر مشتركة"، على ما يقول الشاعر الدنماركي نيلز هاف.

بين أدباء استنكروا فكرة ركض 22 لاعباً خلف كرة مجنونة لمدة تسعين دقيقة، وبين آخرين وقعوا تحت سحر الكرة ونجومها، يأتي هذا الكتاب، باللغتين العربية والإنجليزية، ليضعك أمام رؤى مختلفة لشعراء وكتاب وروائيين من حساسيات ومذاهب وأجيال متنوعة، تحدثوا عن تجربتهم مع هذه اللعبة التي تجاوزت معناها الرياضي المعلوم، كما يكتب معن البياري، لتغدو تعبيراً عن منطوق حضاري ظاهر، عنوانه ائتلاف البشر ووحدتهم في المشتركات الإنسانية العميقة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى