د . محمد سعيد شحاتة - انكسار الضوء والأنفاق المظلمة.. قراءة في قصة جُحْر تيسير لوداد معروف (الجزء الثاني)

(الجزء الثاني)

تحدثنا في الجزء الأول من هذه الدراسة عن ملامح القصة القصيرة عند وداد معروف، وكذلك تحدثنا عن بناء القصة (جُحْر تيسير) على ثنائية ضدية من البداية، وقد ظهرت هذه الثنائية على المستويين اللفظي والمعنوي، وتحدثنا كذلك عن العنوان من حيث كونه مفتاحا تأويليا، وكشفنا عن المعنى اللغوي والتكييف النحوي والبلاغي للعنوان/ جُحْر تيسير، لنخلص إلى أن النص قد نجح من خلال استخدام آلية العنوان في الكشف عن الدلالة، وتعانقت العناصر الثلاثة التي تحدثنا عنها – المعنى اللغوي والتكييف النحوي والتكييف البلاغي – في الولوج إلى عالم النص، ومحاولة اكتشاف أسراره ودسائسه، والسباحة بين عوالمه الداخلية، وفي هذا الجزء نتحدث عن حركة المعنى والبناء الرأسي للنص.
حركة المعنى/ البناء الرأسي:
المقصود بالبناء الرأسي للنص كيفية تشكُّل المعنى جزءا جزءا داخل النص بحيث يؤدي كل جزء دوره في تشكيل المعنى، ويقود إلى الجزء الذي يليه حتى يكتمل المعنى، وتنغلق الدلالة، وينتهي النص، وتتكشَّف ملامح الرؤية الفكرية التي يريد المبدع مشاركتها مع المتلقي، والتأثير فيه، ودفعه إلى الانحياز لها، إيجابا أو سلبا، وهنا يمكن تخيُّل النص بناء يقود كل طابق فيه إلى الطابق الذي يليه، فإذا ما انتهى البناء تجلت ملامحه الكلية، وبدا للناظرين، فينحازون له أو عليه، ومن نافلة القول أننا سوف نتوقف أمام لغة النص، وهي المادة الخام التي يتشكل منها، فنصف تلك اللغة من حيث الحقيقة والمجاز، ودورهما في إنتاج الدلالة، ونصفها كذلك من حيث خبريتها وإنشائيتها، ومن حيث اسميتها وفعليتها، وغير ذلك من توصيف للمادة الخام التي يتشكل منها النص، كما نتوقف أمام طريقة البناء/ الصياغة، ومفردات هذا البناء من حيث التقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والطول والقصر، والإيجاز والإطناب، وغير ذلك من آليات البناء للنص، كما نتوقف أمام اختيار الصيغ الصرفية المحدَّدة، وتأثيرها على بناء النص، والكشف عن المعنى، ومن ثم إنتاج الدلالة.
ويمكن تقسيم النص من خلال هذه الزاوية البحثية إلى ستة أقسام يتحرك من خلالها المعنى صعودا وهبوطا ناسجا ملامح الرؤية الفكرية المتخفية وراء شبكة العلاقات اللغوية، وآلية السرد التي اتبعها النص، وفي كل قسم تنفتح الدلالة على زاوية من زوايا الرؤية؛ لتتكشف ملامح جديدة، أو تتعمق ملامحُ أشير إليها من قبل إيجازا أو تفصيلا.
- 1 -
يقول النص: (جلس في جحره تحت السلّم وأمامه منضدة، صَفَّ عليها دفاتره الخمسة، وقد سطر فيها أسماء ثلاثمائة موظف هم العاملون في تلك المؤسسة، مع أول مطالعة لك للوجوه تظن أنك دخلت دارا للمسنين أغلبهم من الأربعين حتى ما قبل الستين بشهور أو أيام، الشباب فيهم نادر جدا، ويغلب عليهم المعوقون بعد ما اقتصر التعيين على نسبة الخمسة في المائة.
تيسير سر أسرار هذه المؤسسة أكثر من عشرين عاما وهو متشبث بهذا الجُحْر، وبدفاتر الحضور والانصراف التي جعلت منه المدير العام الفعلي لهذه المؤسسة، يعرف جيدا كيف يغير جلده مع كل مدير جديد، يتقن الوسوسة في أذن كل من يجلس على هذا المقعد، لم تقع عليه أي جزاءات، ودائما ما يخرج من التحقيقات كما تنسل الشعرة من العجين، يحفظ اللوائح ويستخدمها بدقة حين يريد).
يبدأ النص برصد إطار عام سوف يتحرك فيه المعنى، ويكون له دور كبير في إنتاج الدلالة، وهذا الإطار العام يتشكل من مستويين: الأول المستوى المكاني، وهو ما أشرنا إليه سابقا في دلالة لفظ (جُحْر) وما يحمله هذا اللفظ من دلالات سلبية متعددة، أما المستوى الثاني فهو المستوى الإنساني، أي الإنسان الذي يشغل المكان، وهنا يتوحَّد المستويان/ المكاني والإنساني في رسم صورة معينة في ذهن المتلقي انطلاقا نحو القضية الأساسية التي يعالجها النص، ويحاول دفع المتلقي إلى الانحياز لها، ولا يمكن تصوُّر المستويين منفصلين وإلا تحوَّل الأمر إلى مجرد وصف أجوف لا قيمة له ولا معنى، واندماج المستويين سوف ينتج عنه الفعل المتوائم معهما، وما يتصفان به من ملامح محددة، ومن ثم يصبح الوصف الوارد في بداية النص ذا أهمية كبرى؛ لأنه سوف يحدد نوعية الفعل الناتج عن هذا الوصف، ونحن في هذه المرحلة من التأويل لن نقوم بتحليل المقطع المختار تحليلا دقيقا وموسَّعا؛ لأن ذلك له مكان آخر سوف يأتي لاحقا، ولكننا سوف نقوم بتوصيف المفردات التي يتشكل منها، ونترك للمتلقي تصوُّر الفعل الذي يمكن أن ينتج عن هذه المفردات، مع إشارات مقتضبة تساعد في كشف الرؤية، وتكون متَّكأ لما سيأتي بعدها من تحليل.
يتكوَّن المستوى الأول من الإطار العام من مجموعة من المفردات، هي (حجرة تحت السلَّم – دفاتر مصفوفة على منضدة – أفراد تتراوح أعمارهم بين الأربعين والستين – موظفون معوَّقون) وإذا ما نظرنا إلى مفردات هذا المستوى من الإطار العام فسوف نجده يرسم صورة قاتمة؛ فالحجرة أشبه بالجُحْر، وهو ما يضفي على المتلقي الشعور بالنفور والاشمئزاز، فإذا أضفنا إلى ذلك الدلالة اللغوية للفظ جُحْر من أنه مكان تأوي إليه الحشرات الضارة والمؤذية انكشفت الدلالة أكثر، بالإضافة إلى أن الدفاتر مصفوفة فيما يشبه الآلية الروتينية التي يعمل في إطارها الموظفون، والأفراد كبار في السن، مما يوحي بأن عملية الإبداع لديهم منعدمة، وقد أشار النص إلى أن الشباب فيهم نادر، والإشارة إلى الشباب هي إشارة إلى الحيوية والنشاط، وهذا يعني أن الروتينية حاكمة لهذه المؤسسة، ومتحكمة في أفرادها، فإذا أضفنا إلى ذلك الإشارة إلى أن الموظفين في غالبيتهم معوَّقون فسوف تتعمَّق الدلالة أكثر، وتجدر الإشارة هنا إلى أن استخدام لفظ (المعوقون) لا يحمل دلالة عنصرية أو تقليلا بقدر ما يحمل تأكيدا لمعنى الروتينية وآلية اختيار العمال لهذه المؤسسة، وتتأكد هذه الدلالة أكثر حين يشير النص إلى الاكتئاب الذي يعلو وجوه العاملين؛ فهو يصف من يطالع وجوه العاملين في المؤسسة بأنه يشعر أنه في دار المسنين (مع أول مطالعة لك للوجوه تظن أنك دخلت دارا للمسنين) وهي إشارة إلى العجز عن العمل والإبداع؛ فلا شك أن المسنين لا يستطيعون العمل؛ فهم أصبحوا عاجزين بدنيًّا/ ضعف البنية، وعمريًّا/ كبر السن، ومن ثم تصبح المؤسسة في هذه الحالة غير ذات جدوى، ولا قيمة لها، ولا تؤدي دورها المنوط بها؛ فكل العناصر التي تتكوَّن منها هذه المؤسسة في حالة غير طبيعية.
وإذا ما انتقلنا إلى المستوى الثاني/ الإنساني للإطار العام فإنه يتكون من شخص واحد/ تيسير، وتكوُّنه من شخص واحد يوحي بقوة التحكم فلا يشاركه أحد، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن المفردات الواردة تدل على ذلك (جعلت منه المدير العام الفعلي– يعرف جيدا كيف يغير جلده مع كل مدير جديد – يتقن الوسوسة في أذن كل من يجلس على هذا المقعد – يحفظ اللوائح ويستخدمها بدقة حين يريد) إن مفردات هذا المستوى تتآلف مع مفردات المستوى الأول؛ فإذا كان أفراد المؤسسة في المستوى الأول غير قادرين على الإبداع نتيجة عوامل متعددة تحدثنا عنها فإنهم يحتاجون إلى شخص يستندون إليه في تمرير عجزهم وقت الحاجة، وتبرير فشلهم إذا قادتهم الظروف في وقت ما إلى العمل الذي لا يتقنونه في غالب الأحوال نتيجة فشلهم وعجزهم وروتينية مؤسستهم، وهم في هذه الحالة لا يجدون أفضل من (تيسير) الحافظ للوائح، والمدير الفعلي للمؤسسة، والقادر على الوصول إلى أذن أي مدير جديد والوسوسة له، هذا إلى جانب ما يؤهله لهذه المهمة، وهو أنه لا توجد لديه أية جزاءات يمكن أن تكون عائقا أمامه في الوصول إلى هدفه (لم تقع عليه أي جزاءات، ودائما ما يخرج من التحقيقات كما تنسل الشعرة من العجين) إن عدم وجود جزاءات عليه مبرر قوي عند الحاجة للتأكيد لأي مدير جديد أنه الرجل المناسب الذي يمكن الوثوق فيه، والاطمئنان إليه، والأخذ برأيه.
وهكذا نجد المقطع الأول من النص قد رسم إطارا عاما سوف يتحرك فيه المعنى، ويكون له دور كبير في إنتاج الدلالة والكشف عن ملامح الرؤية الفكرية في النص،.
- 2 -
فإذا انتقلنا إلى القسم الثاني فشوف تنفتح الدلالة أكثر، وينكشف جانب آخر من الرؤية الفكرية، يقول النص: ( يومين متتابعين أعود إلى بيتي بعد أن قطعت مسافة ثلاثين كيلومترا لتأخري عن الحضور دقيقتين أو ثلاثة، مما جعل زميلتي ترق لحالي وتهمس في أذني: مها .. سأقول لك شيئا لا تخبري به أحدا .. لا عليك لن أخبر أحدا .. ثلاثون جنيها تجعل تيسير يغمض طرفه عنكِ ويوقع لكِ حتى ولو لم تأتِ ...فلما وجدتني أفتح فمي من الدهشة ظنت أني أستكثرها قالت: وممكن أيضا أن تضيفي ساندويتش إلى ساندويتشاتك وتعطيها له، أو يكفيه ذلك ؟ التفتت حولها وقالت: يوه، وكيسين سكر، أو باكو شاي كبير، أو برطمان مربى، كله مقبول ... هل يعرف أحد هذا ؟ بضحكة ساخرة قالت: كلهم يعرف إلا أنتِ، وكلهم يصمتون لأنهم يستفيدون. لم أتقبل هذه النصيحة، ولم أعمل بها واجتهدت أن أحضر مبكرا وظللت مواظبة على الحضور في موعدي، ولكني لاحظت أن المؤسسة تكاد تخلو من الموظفين قبل موعد الانصراف بساعة، حتى أن القسم الذي أعمل به لا يغلقه يوميا إلا أنا، بعد تسلل زملائي الثلاثة واحدا تلو الآخر).
في هذا المقطع تبدأ الرؤية في التشكل بعد أن أعطاها المقطع السابق المهاد النظري، والبيئة النفسية المناسبة للتشكل دون اشتماله على تفاعلات للشخصيات الفاعلة في النص، وحين بدأ هذا المقطع الثاني في تشكيل الرؤية وجدناه يشتمل على ثنائية ضدية، الأولى تتمثل في (مها) الشخصية المنحازة للضمير الإنساني في فعله الأخلاقي السويّ، والثانية تتمثل في زميلتها الشخصية المنحازة للفعل الإنساني غير السويِّ، وإن كانت تفعل ذلك إكراها، أو خوفا من تيسير الشخصية المتسلطة والمتحكم الفعلي في المؤسسة وأفرادها العاملين فيها، ولكنها في النهاية تنتمي إلى شريحة تيسير وإن بدا فعلها مبرَّرا بمبررات واهية، أو هي مبرِّرات أقرب إلى مساعدة الفعل غير السويّ على الاستمرار، وتوفير البيئة الملائمة لاستمراره، ولكي نفهم ذلك لابد من اقتباس الآية القرآنية التي تحكي عن فرعون وقومه (استخفَّ قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين) فالقرآن لم يوجِّه اللوم إلى فرعون رغم أنه الفاعل الحقيقي والمؤثر والآمر الفعلي بالخروج عن المنظومة السويّة للإنسان، ولكنه وجَّه لومه وتعنيفه لمن أطاعوه؛ لأنهم هم الذين وفَّروا له البيئة الملائمة لفعله، وبرَّروا هذا الفعل، حتى وإن كانوا لا يرضونه، أو استدلوا بضعفهم وعدم قدرتهم على مواجهته؛ فهي أدلة واهية لأنهم هم من ساععدوه في إنفاذ أمره وممارسة فعله، ومن هذه الزاوية يمكن النظر إلى العاملين في المؤسسة، ومنهم زميلة (مها) التي حاولت تبرير فعلها وفعل زميلاتها بمبررات هي في أقل وصف لها أنها مساعدة للفعل غير السويِّ في الاستمرار (كلهم يعرف إلا أنتِ، وكلهم يصمتون لأنهم يستفيدون) ومن الملاحظ أن الشخصية المنحازة للفعل السويِّ (مها) قد جاءت معرفة/ علم، أما زميلتها فقد جاءت نكرة في الدلالة وإن كانت معرفة من الناحية النحوية (مما جعل زميلتي ترق لحالي) فهي مجرد زميلة، أي لم يقدمها النص باسم معين، في إشارة إلى التركيز على الفعل غير السويِّ الصادر منها كقيمة من القيم المدمرة للمؤسسة، ومن ثم للمجتمع من حيث كونها إحدى عناصره، ثم يأتي العنصر الثالث من عناصر هذا المقطع وهو المؤسسة، وهي الدالة على المكان، فلا فعل بدون مكان وزمان وأفراد فاعلين لهذا الفعل، ونلاحظ غياب الزمان؛ للدلالة على أن هذا الفعل ليس له زمان محدد، فهو موجود في كل زمان، ولا يقتصر على زمان دون آخر، وعلى الرغم من ورود الثنائية الضدية/ مها وزميلتها في هذا المقطع، وتضادّ فعليهما، وتنافر التوجه القيمي لكل منهما فإننا لا نلاحظ صراعا حادًّا أو غير حادٍّ بينهما، ومن الممكن تفهُّم ذلك إذا عرفنا أنه لا يوجد مفردات صراع بينهما؛ لأن (مها) لم تتعدَّ بشكل أو بآخر على ما تؤمن به زميلتها، أو تفعله، بل تحاول أن تفهم ما يدور حولها في مجال عملها، لكننا نلاحظ أن زميلتها تميل إلى السخرية من عدم ملاحظة (مها) للواقع، أو فهم ما يدور حولها، وآليات العمل في المؤسسة،.
- 3 -
وحين ننتقل إلى المقطع الثالث نجد الصراع بين التوجهين – مها وتيسير، وهنا سيكون الصراع حادًّا؛ لأن أحد الطرفين/ تيسير لا يرضى بخروج أحد أفراد المؤسسة عن سيطرته؛ فهو يرى في ذلك تهديدا مباشرا لسلطته، وإن لم يكن فيه تهديد لمصالحه، ومن ثم كان لابد له أن يمارس سلطته، يقول النص: (وفي يوم أردت أن أفعل مثلهم، وقبل موعد الانصراف بنصف ساعة وضعت الأوراق التي أمامي في الدرج وحملت حقيبتي ومضيت، وخرجت من البوابة ولم يقابلني أحد، حتى كان صباح اليوم التالي، بينما أنا أوقع في دفتر الحضور قال لي تيسير بنظرة فيها عصبية: ادخلي للمدير، يريدكِ ... خير يا أستاذ تيسير .. بنفس العصبية قال: ستعرفين عندما تدخلين له) يبدأ الصراع حين أرادت (مها) أن تفعل مثل زميلاتها دون الرجوع إلى السلطة التي أعطت لزميلاتها الإذن بفعل ما يفعلون، ومن ثم كانت تمثل بذلك خروجا على سلطة تيسير القابض الفعلي على زمام الأمور في المؤسسة، ورأى في فعلها تحديا لسلطته فكان رد فعله قاسيا وحادًّا؛ إذ دفعها إلى مواجهة مباشرة مع مدير المؤسسة، ويبدأ المقطع بفعل دون تحديد زمن معين (وفي يوم أردت أن أفعل مثلهم ...) فهي لم تحدد يوما معينا، أو تحدد سببا معينا لفعلها سوى محاولة التقليد لزميلاتها دون تقديم مبرر يمكن الاستناد إليه لتبرير فعلها أخلاقيا؛ لأنها تخالف ما درجت عليه من تصرفات، ومن ثم كان رد الفعل الحاد من تيسير الذي رأى فيما فعلته خروجا على سلطته وما وضعه من آليات الفعل المراد في المؤسسة؛ إذ ينبغي الرجوع إليه أولا، وتقديم القرابين اللازمة ثانيا، ومن ثم كان فعلها تهديدا مباشرا لسلطته، وإن لم يكن شيئا ذا بال وكان يمكن تنبيهها، ولكنه رأى ضرورة وضعها مباشرة في مواجهة السلطة القانونية للمؤسسة ممثلة في المدير مع تقديم المبررات اللازمة للمدير؛ لاتخاذ القرار المراد، مع تأكيد سلطة تيسير وتثبيت مكانته لدى المدير في الوقت نفسه، ومن هنا يمكن فهم تصرف تيسير من الناحيتين النفسية والعملية، فمن الناحية النفسية يمثل فعل (مها) تحديا لسلطته، وكان لابد من ردعها نفسيا؛ حتى لا تفكر في ذلك مرة أخرى، ومن الناحية العملية يمثل تصرف تيسير تثبيتا لمكانته لدى المدير أمام (مها) حتى لا تفكر مجرد تفكير في اللجوء إلى المدير ضد تيسير، ولم يشأ تيسير أن يخبر (مها) بسبب استدعاء المدير لها؛ ليكون – أولا – نائيا بنفسه عن أي اتهام مباشر منها، ويكون – ثانيا – دافعا لــ(مها) إلى المواجهة المباشرة والمفاجئة مع المدير؛ حتى لا يكون لديها الوقت الكافي للاستعداد النفسي لتفنيد ما جاء في مذكرة تيسير، أو محاولة الإفلات من مخالبه (قال لي تيسير بنظرة فيها عصبية: ادخلي للمدير، يريدكِ ... خير يا أستاذ تيسير .. بنفس العصبية قال: ستعرفين عندما تدخلين له) ونلاحظ هنا عصبية تيسير المعبرة عن عدم رضاه عن تصرف (مها) المهدد لسلطته في المؤسسة.
- 4 -
وفي المقطع الرابع تبدأ المواجهة المباشرة بين (مها) ومدير المؤسسة، (مها) الشخصية المنحازة للضمير الإنساني في فعله الأخلاقي السويّ، والتي ارتكبت خطأ فعليا يستدعي التحقيق في الحالات الطبيعية للمؤسسات المنضبطة، والمدير الذي لا نستطيع وصفه بالمنتمي إلى جانب (تيسير) تلك الشخصية المنحازة للفعل الإنساني غير السويِّ، ولكن المدير يمارس عمله الفعلي؛ إذ وردت إليه مذكرة من المسؤول عن الحضور والانصراف في المؤسسة تشكو موظفة بأنها غادرت قبل الموعد المحدد لانصراف العاملين، ومن ثم كان تصرف المدير يتسق مع طبيعة عمله، على أننا لا يمكن أن نعفيه من مسؤولية متابعة العاملين في مؤسسته، وهو القائم على إدارتها؛ فنظرة فاحصة سوف تكتشف غياب بعض الموظفين أو انصرافهم قبل موعد الانصراف القانوني، أو تأخُّرهم عن موعد الحضور المقرر للعاملين في المؤسسة، وإن كان البعض يحاول تبرير ذلك بأن (تيسير) يتمتع بسيرة ذاتية لا تشوبها شائبة، ولا يحمل ملفه الوظيفي أية جزاءات؛ إذ (لم تقع عليه أية جزاءات، ودائما ما يخرج من التحقيقات كما تنسل الشعرة من العجين، يحفظ اللوائح ويستخدمها بدقة حين يريد) إلى جانب أنه يجيد الوسوسة لأي مدير، مما يتيح له فرصة السيطرة عليه؛ ليكون الحاكم الفعلي للمؤسسة، يقول النص: (وبنظرة قاسية صارمة جمدتني مكاني قال لي المدير: الأستاذ تيسير قدم فيك مذكرة أنك خرجتي بدون إذن، وبتبكيت مرير أكمل: هيّ وكالة من غير بواب حتى تخرجي دون إذن، أنت لا تحترمين رؤساءكِ، اذهبي للشئون القانونية ضعي أقوالك. تلعثمت ثم استجمعت شجاعتي وقلت: لست وحدي التي خرجت يا سعادة المدير. صاح في وجهي فارتعدت وارتعد جسدي: من خرج من زملائك ؟ قولي … صمت، خفت أن أوذي زملائي فأخسرهم. صاح ثانية قولي من؟ لم أستطع أن أرد.، وتم خصم ثلاثة أيام من راتبي، وظللت على حالي أحافظ على مواعيد الحضور والانصراف). إن المواجهة بين (مها) والمدير ما هي إلا مواجهة بينها وبين (تيسير) الذي جعل المدير متحدثا بما يريد من خلال استغلال موقعه الوظيفي في الإيقاع بـــ(مها) من أجل ترويضها؛ لتكون واحدة ممن يخضعون لسلطته، وينتمون لدائرته النفعية، وحين أرادت (مها) أن تبوح بما تعرف من مخالفات، وأنها ليست الوحيدة التي تغادر في غير موعدها وقف أمامها عائقان: الأول النبرة الحادة للمدير في حديثه معها (وبتبكيت مرير أكمل/ المدير: هيّ وكالة من غير بواب حتى تخرجي دون إذن، أنت لا تحترمين رؤساءكِ، اذهبي للشئون القانونية ضعي أقوالك)، والثانية خوفها من إيذاء زملائها، ومن ثم يتحولون إلى أعداء لها؛ لأنها التي هددت مصالحهم الشخصية، ولم تجد (مها) بدًّا من الاستسلام دون التسليم، فقد واظبت على حضورها وانصرافها في الموعد، ولكنها لم ترضخ لــــ(تيسير) وبدأت في متابعة مجتمع المؤسسة حولها، ومعرفة مفرداته، وظروف من يتأخرون وأسباب تأخرهم؛ لتضعنا مباشرة أمام السؤال الصعب: هل الاحتياج مبرر لإهمال العمل، والتخلي عن التزاماتنا في العمل؟ ثم يأتي المقطع الخامس نتيجة طبيعة لما ورد في المقطع الرابع.
- 5 -
في هذا المقطع تتحول (مها) إلى شخصية رمادية، فلا نستطيع وصفها بالمنحازة تماما للفعل السويِّ الذي كانت تتسم به فيما سبق، كما لا نستطيع وصفها بالتحوّل إلى صورة من زميلاتها، ولكنها كانت في هذه المرحلة في حالة تحوُّل فعلي دون أن تبوح بذلك، يقول النص (بدأت أتابع من حولي فوجدت ليلى موظفة شئون العاملين لا تحضر يومي الخميس والأحد فهي ترافق زوجها الذي يعمل في ميت غمر وبقية الأسبوع هي هنا مع أولادها، وأن الأستاذة نجوى موظفة قسم الخدمات لا تحضر إلا في العاشرة صباحا، وتصعد إلى مكتبها مباشرة دون أن تمر على جحر تيسير، فعندها سوبر ماركت لا تأتي إلا بعد أن تقف فيه الفترة الصباحية، وأن الأستاذة تحية موظفة قسم الحسابات لا تأتي إلا بعد أن تطمئن على أكل طيورها ونظافتهم، وتستوي عندها التاسعة مع العاشرة مع الحادية عشرة، أما الأستاذ صلاح فله يومان أيضا لا يحضر فيهما للمؤسسة ليتابع العمل في مكتبته بعد أن قسم الأسبوع بينه وبين ابنه وزوجته، وأخبرتني نجية عن رؤساء الأقسام، وطرحت عليّ هذا السؤال: هل يصح أن يتساووا بصغار الموظفين؟ .. يصح.. كلنا موظفون لدى الدولة. ضحِكَتْ، وقالت هذا ليس عدلا، العدل أن يأتي كل واحد منهم في الموعد الذي يناسبه ولهم الحق للمشقة التي يعانون منها، فلهم أن يتغيبوا يومين أو ثلاثة في الأسبوع، وخطوط السير مفتوحة، والمرور على فروع المؤسسة المنتشرة يحتاج منهم إلى التكثيف والمتابعة، ثم همست همستها الثانية في أذني وقالت: من الآخر لن يتركك تيسير وسيظل خلفك بالمذكرات حتى تدفعي له) نلاحظ أن (مها) تبدأ ملاحظة ما حولها ومتابعة أفراد المؤسسة العاملين معها؛ لتكتشف سير العمل وما يعتوره من قصور، فكل موظف يعمل وفق مصالحه، البعض يغيب يومين والبعض يتأخر عن العمل ساعة أو ساعتين حسب مقتضيات مصالحه الخاصة، ويصل الأمر بالعاميلن إلى المقارنة فيما بينهم، ومدى أحقية كل واحد منهم في زيادة أيام غيابه أو ساعات تأخره، وتتابع (مها) ذلك مكتشفة عالم المؤسسة الممتلئ بالانحرافات الوظيفية، وتصل في نهاية المطاف إلى نتيجة مؤكدة، وهي أن هذا العالم إن لم تندمج فيه فسوف تظل منبوذة، ومحاصرة من القائمين عليه؛ فلن يرضوا أن تكون واحدة منهم غير منضوية تحت سيطرتهم، أو تسير وفق أسلوبهم، وآلية عملهم، وهو ما قالته (نجية) زميلتها في العمل بعد أن سردت اعتراضاتها على عدم مساواتها مع غيرها في ساعات التأخير أو أيام الغياب (من الآخر لن يتركك تيسير وسيظل خلفك بالمذكرات حتى تدفعي له) لقد كانت هذه الجملة تلخيصا لآلية العمل في المؤسسة؛ فليس المهم لدى (تيسير) أن تدفع له (مها) أو غيرها من العاملين، ولكن المهم ألا يخرج أحد عن سلطته، تلك السلطة التي تتيح له السيطرة وجني الأرباح، وتحقيق المصالح، وتصل (مها) في نهاية المطاف إلى الانضواء تحت سلطة (تيسير) مكرهة بعد أن حاولت مقاومته في البداية، ولكنها فشلت وعوقبت، ومن ثم كان قرارها أن تنضوي تحت سلطته، وتكون مثل زميلاتها، وهنا يمكن وصف شخصية (مها) بالشخصية الضعيفة الراغبة في الخروج عن الفعل الوظيفي السويّ؛ لأنها في البداية حاولت تقليد زميلاتها رغم أن الفعل خطأ في حد ذاته، ولما فشلت في ذلك اضطرت أن تسير في الركاب من أجل الاستفادة وتحقيق المصلحة.
- 5 -
عرفنا في المقطع السابق أن شخصية (مها) لم تكن الشخصية القوية الراغبة في التحدي والتمسك بمبادئها وانحيازها إلى الفعل الوظيفي السويّ، ولكنها كانت قابلة للتغيُّر وفق مقتضيات العمل ومتطلبات الحياة، فإذا كانت في البداية منحازة للفعل الأخلاقي السويِّ فإن ذلك لم يكن عن عقيدة يقينية غير قابلة للنقاش أو التغيير والتبديل، بدليل أنها حاولت تقليد زميلاتها في العمل رغم علمها أن ذلم لا يتفق ومنظومة القيم الوظيفية التي تقضي بضرورة مراعاة العامل لوائح وقوانين العمل الذي ينتمي إليه ويمارسه، ثم يأتي هذا المقطع الخامس لتنفتح الدلالة على زاوية أخرى كاشفة عن جانب من جوانب الرؤية الفكرية التي أريدت في العمل الإبداعي، يقول النص (وهذه المرة استمعت لنصيحتها، وفي خلسة، وقد خلا الجحر إلا مني ومنه، وضعت الثلاثين جنيها في يده، فضحك لي قائلا: ربنا يبارك لك يا أستاذة ... واستمتعت بالهدوء والراحة شهرا كاملا، فكنت وأنا في الطريق أتصل به وأخبره أني ربما أتأخر عشر دقائق أو ربع أو نصف ساعة فيرد عليّ بحنوّ: على راحتك يا أمي .. على راحتك) يمثل هذا المقطع مرحلة التحول في الشخصية (مها) ورضوخها لسلطة (تيسير) فاستمعت لنصيحة زميلتها، وبدأت مرحلة جديدة تنعم فيها بالراحة من العمل، أو بالأحرى تنعم بما ينعم به زملاؤها في المؤسسة، ولكن ذلك لن يطول؛ لأن (تيسير) يعلم جيدا أنها رضخت لسلطته بعد يأسها ولم تكن راغبة منذ البداية في العمل وفق أسلوبه، بمعنى أن لديها بعضا من ضمير وظيفي يمكن أن يجعلها في يوم من الأيام ضده أو تتمرد على سلطته، ولذلك لم يكن آمنا لها، بل كان لديه الاستعداد للتضحية بها في أي موقف يمكن أن يحقق له مصلحة ما، أو يساعد في تمكينه وترسيخ سلطته، أما زملاؤها لم يكن ليضحي بهم؛ لأنهم مقتنعون بما يفعلون، ومستفيدون مما يفعلون، ومن ثم لا يمكن أن ينقلبوا عليه في يوم ما، أما (مها) فلا يأمن لها،
- 6 -
ويأتي المقطع السادس والأخير في القصة ليكشف لنا أن المنحرفون وظيفيا لن يقبلوا إلا من كان على شاكلتهم، أما من وافقوهم فيما يفعلون مرغمين فإنهم غير مأمونين، ولا يمكن الوثوق بهم، ومن ثم يمكن التضحية بهم في أي وقت بشرط ضرورة الاستفادة من وراء التضحية بهم، وقد تحقق ذلك حين، وينقسم هذا المقطع إلى قسمين، الأول يكشف عن تغيُّر في رأس المؤسسة؛ إذ أحيل المدير السابق إلى التقاعد وجاء مدير جديد، يقول النص ( أحيل مدير المدرسة للتقاعد وجاء مدير آخر لم يسمع عن تيسير بعد، وكان لابد من تقديم قربان ليثبت به نزاهته وقد توافق أن حل موعد زواج ابنة تيسير وأعلن عن هذا الزواج في المؤسسة، وبعد أن وقّعتُ في الدفتر مددت يدي بالمبلغ الشهري له فرده لي قائلا لي بصوت هامس: أستاذة مها .. هل أطمع منك في سلفة ألفي جنيه كي ألبي بعض احتياجات العرس؟ فكرت بعض الوقت ثم قلت له: ليس معي الآن هذا المبلغ .. هز رأسه وقال: شكرا .. شكرا ... انصرفت من أمامه وأنا أقول في نفسي أعطيه ما يريد الآن ثم يسوَدّ وجهي في طلب حقي؟) لا نستطيع أن نحكم إن كان (تيسير) يريد المال فعلا أو كان ينصب فخًّا لها/ مها؛ لتكون القربان الذي سيقدمه للمدير الجديد من أجل تثبيت مكانته، ومواصلة تحقيق مصالحه، وممارسة سلطته على العاملين في المؤسسة، وفي جميع الأحوال فقد تكشَّفن نوايا (تيسير) منذ بداية المقطع حين قال النص (وكان لابد من تقديم قربان ليثبت به نزاهته) ويمكن أن تكون مناسبة زواج ابنته فرصة لاختبار ولاء (مها) له، وانضوائها الحقيقي تحت سلطته، وأنها لا يمكن أن تغدر به، أو تشي لدى المدير الجديد، ولما اطمأن إلى أنها تفكيره، وعدم ثقته بها قرر التضحية بها من أجل ترسيخ مكانته، وهنا يأتي القسم الثاني من المقطع، يقول النص (وبينما أنا في مكتبي أمارس عملي أشار لي تيسير فذهبت إليه فأخذني إلى مكتب مدير الإدارة، وسمعت ما لم أكن أتوقع .. قال مخاطبا المدير: هل يرضيك يا سعادة المدير أن تفتح الأستاذة مها حقيبتها وتخرج لي نقودا وتدسها في يدي حتى أغمض عيني عن حضورها وانصرافها؟ لكني رفضت بإصرار ... لم يحدث يا سيادة المدير. .. انبرى تيسير واعظا وقال إلا الكذب .. لا أقبله ، ألم يحدث أن وضعتي في يدي نقودا ورددتها عليك وقلت لك رجعي نقود حقيبتك يا أستاذة ؟
تلجلجت وبدا عليّ الاضطراب. قال المدير بنبرة مهددة هل تتحملين نتائج هذا الاتهام؟ بخوف قلت: أعتذر يا سيادة المدير.. لن تتكرر مرة أخرى) لقد قرَّر (تيسير) التضحية بها/ مها بعد أن تأكد أنها ولاءها له غير حقيقي، وكان لابد من تحقيق استفادة شخصية من خلال هذه التضحية، ووضعها مباشرة في مواجهة المدير الجديد؛ لتحقيق هدفين، الأول اختبار ولائها، فيرى إن كانت سوف تفعل مثل ما فعلت في المرة الأولى مع المدير السابق، ولهدف الثاني هو تثبيت مكانته لدى المدير الجديد من خلال ترسيخ تمسكه باللوائح والقوانين المنظمة للعمل وإسباغ الجانب الأخلاقي على شخصيته، ولا يجد (تيسير) وسيلة أفضل من الرشوة لاتهام (مها) بتقديمها له، وهنا نجدها تستفيد من موقفها الأول مع المدير السابق فلم هم (تيسير) لأنها تعرف قدرته على المراوغة، ولكنها اعتذرت عن فعلها (بخوف قلت: أعتذر يا سيادة المدير.. لن تتكرر مرة أخرى) وهنا كان لابد للشخصية المراوغة/ تيسير من تقديم نفسه للمدير الجديد، يقول النص (وهنا أكمل تيسير موعظته قائلا : عشت عمري شريفا، لا أقبل الحرام على أولادي ولكني أردت أن أعرفك يا سعادة المدير من هو تيسير .. رد المدير قائلا: معلوم .. معلوم يا تيسير .. مها سأسامحك هذه المرة لكن حذارِ أن تتكرر مرة أخرى واستمعت لنصيحته ولم أكررها مرة أخرى) نجح (تيسير) في خطته؛ ليواصل عمله في المؤسسة، ويمارس سلطته ويحقق مصالحه، وهو في مأمن من المدير الجديد؛ فقد أوحى له بأنه المخلص الأمين على مصالح المؤسسة الذي لا يقبل التهاون أو الرشوة، وهنا تنغلق الدلالة وينتهي النص، وتتكشف ملامح الرؤية الفكرية التي حاولت الكاتبة إيداعها بين ثنايا النص.
لقد لاحظنا أن المعنى تحرك في النص حركة تصاعدية؛ ففي البداية رسم النص الإطار العام الذي سوف يتحرك فيه المعنى، وقد تشكل هذا الإطار العام من مستويين: الأول المستوى المكاني/جُحْر، والثاني المستوى الإنساني، أي الإنسان الذي يشغل المكان، ووصف الإطار العام سوف يحدد نوعية الفعل الناتج عن هذا الوصف، ثم انتقل النص بعد ذلك إلى تقديم عناصر الفعل المؤثرة في الأحداث، فقدَّم شخصيتين، الأولى (مها) شخصية رئيسية منحازة للضمير الإنساني في فعله الأخلاقي السويّ، والثانية تتمثل في زميلتها وهي شخصية ثانوية منحازة للفعل الإنساني غير السويِّ، وإن كانت تفعل ذلك قناعة أو إكراها وخوفا من تيسير الشخصية المتسلطة والمتحكم الفعلي في المؤسسة وأفرادها العاملين فيها، وفي هذا المحور تتكشف بعض ملامح الأحداث، ومعها ينكشف جزء من الرؤية الفكرية في النص، ثم يتحرك المعنى صعودا للمواجهة بين الشخصيتين الرئيسيتين (مها – تيسير) فينكشف جزء آخر من الرؤية، ويتحرك المعنى مرة أخرى تصاعديا لتكون المواجهة بين (مها) ومدير المؤسسة، وينجح (تيسير) في فرض سيطرته على الموظفة الجديدة النافرة من سلطته، فتتحول بعد ذلك إلى شخصية رمادية وتذوب في هذه المرحلة الملامح المحدَّدة لشخصية (مها) وتبدأ في التحول والرضوخ لسلطة (تيسير) ولكنه لا يأمن لها؛ إذ إنها لم تكن لترضخ إلا مكرهة، وبعد وضعها في مواجهة حادة مع الإدارة، فكان لابد أن ترضخ، ومن ثم تنكشف الرؤية أكثر، وتزداد حركة المعنى التصاعدية، وتصل إلى النهاية مع مجيئ المدير الجديد، وحاجة (تيسير) إلى تقديم قربان لتثبيت سلطته، وممارسة سطوته على العاملين في المؤسسة، وتحقيق مصالحه، وهنا كان لابد من تقديم (مها) الشخصية غير المأمونة قربانا، هنا تتكشف ملامح الرؤية الفكرية، ويصل النص إلى لحظة التنوير المرادة، فنكتشف أن الصراع بين عناصر الفساد وعناصر الصلاح مستمر، وأن عناصر الفساد لن تعدم الوسيلة لتأكيد سطوتها، وممارسة سلطتها، وتحقيق مصالحها، وإيجاد الوسائل المناسبة والمبررات لوضع عناصر الصلاح في مواجهة السلطة القانونية للمؤسسات، وأن عناصر الصلاح إن لم تكن متمسكة بمبادئها فسوف تتحول إلى شخصيات رمادية ملامح لها، ثم ترضخ لسلطة الفساد، ولكن عناصر الفساد لن ترضى بهذا الرضوخ، ولكنها سوف تضحي بعناصر الصلاح وتقدمها قرابين من أجل مواصلة سطوتها، وممارسة سلطتها، وتحقيق مصالحها. لقد لاحظنا الحركة التصاعدية للمعنى في النص، وكيف استطاعت الكشف عن ملامح الرؤية الفكرية المتخفية وراء شبكة العلاقات اللغوية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى