كرة القدم عبيد عباس - العقيدة.. القبيلة.. الأهلي والزمالك

كتبت ذات مرة أن كرة القدم عندي مرادف للسلام والأمن. نعم؛ صوت الجماهير في المقاهي، صراخهم في الشوارع، تعليقاتهم التافهة، نكاتهم الساخرة، تعصبّهم الطفولي .. كل ذلك يدل على أنه لا خطر، لا حرب، وأن "الأمن مستتب". على عكس صراخ المظاهرات، ومناقشات السياسة ومناظر المدرّعات والجنود، بل وعكس الأغاني الوطنية التي تقترن داخلنا بقرب وقوع الكارثة.
لكن رغم ذلك، لا أراني مغرمًا بها، أي بكرة القدم، فلا أشجّع أهلي ولا زمالك؛ ربما لأني أعتقد أن الرياضة لا تعني سوى ممارسة الرياضة، ولأن التشجيع, بهذا الشكل، مقترن داخلي بمفهوم "الفُرقة" و "الفريق" و الانحياز الأعمى للقبيلة في حقِّها وباطلها؛ فهي، في وجه من الوجوه, تمثل عندي "القبليّة الجديدة" بل هي أسوأ أنواع القبليّة. ( لعلنا نتفق على أن حالات المصابين بالأزمات قلبية والسكتات الدماغية, بل وحالات الوفاة والطلاق بسبب التعصب في تشجيع كرة القدم ليست بالقليلة.)
أذكر أنني كنت في سهرة مع صديقين، من أقرب الأصدقاء، ممن يجمعني بهم تاريخ طويل من التفاهم الذي يكاد يصل لحد تطابق الأفكار؛ فهما علمانيّان، مؤمنان إيمانًا مطلقًا بحريّة الإنسان وحقه في التعبير والاختلاف. وكنت قد أبديت أمامهما استنكاري من جدال، وصل لحد التلاحي والتشاتم، بين صديقين آخرين لا لشيء إلا لأن أحدهما أهلاوي والثاني زملكاوي. قلت، للصديقين، تعليقًا على هذا السلوك، أنه لا يليق بالمثقف أن ينجرف مع العامة إلى هذا التعصّب الأعمى حتى لو كان في كرة القدم.
بادرني أحد الصديقين، وهو زملكاوي، بحماس شديد، أنه يعذر المُشجّع الزملكاوي، بل ويرى أن كل ما يحدث في مصر من مشاكل ( سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية .. ) مرجعه كيان اسمه الأهلي. لم أفهم، في بداية الأمر، من وقع المفاجأة؛ فسألته: ماذا؟!! فبدأ يفصّل الأمر من أن أي إنسان يشجع الأهلي، بالضرورة، يحمل عقلية معينة (متعصبّة، متخلّفة .. ) ولم أكد أفيق من المفاجأة معلنًا اعتراضي على هذا الكلام غير المنطقي، حتى بادرني الصديق الثاني بأنه يرى نفس ما يراه الصديق الأوّل، مؤكّدًا أنه أمر طبيعي وحقيقي، وأن اندهاشي، ربّما، ناتج فقط عن وجودي خارج دائرة تلك الثقافة ( ثقافة كرة القدم؛ لأني لست مشجعًا لأي فريق ) وبناء عليه فلن أستوعب الأمر.
انتهى اللقاء و في رأسي ظل، لفترة طويلة، يلح ذلك السؤال: كيف يكون الإنسان، نفس الإنسان، متسامحًا في مقام ومتعصبًا في مقام آخر؟
لم أجد الإجابة إلا بالمصادفة؛ عندما قرأت يومًا تعليقًا لأحدهم يُشبّه فيه انحيازه لفريقه الكروي بانحيازه للدين؛ فهو يدافع عن فريقه سواء كان على حق أو باطل عملًا بمبدأ انصر أخاك. وهنا توصلّت لتلك النتيجة المؤسفة؛ أن الاختلاف، في الغالب، ليس بين عقلية شخص وعقلية شخص آخر، ولكن بين دائرة وأخرى، فالمتعصّب داخل الدائرة لا يرى بنفس الوضوح الذي يرى به من هو خارجها والعكس؛ ولذلك فلا غرو أن نرى العلماني المتسامح دينيًّا متعصبًا كرويًّا أو حتى متعصبًا فكريًّا. بل قد يكون متعصّبًا في مواجهته ورفضه للمتعصبين. ولعلنا نذكر أن المعتزلة الذين كانوا يؤمنون إيمانًا مطلقًا بالاختيار وحريّة الإنسان، كانوا قد انحرفوا عن مبادئهم بعدما اعتنقت السلطة أفكارهم، فحاولوا تطبيقها بالقوّة والإكراه مما كان سببًا رئيسيًّا في ظهور الحنابلة كفرقة مضادة بعد اضطهادهم لابن حنبل.
وهنا قد يسأل السائل: لو كان الأمر كذلك، فكيف يُعرف المثقّف من غير المثقّف؟ أقول إن الاختلاف بين المثقف وغيره يكون، غالبًا، في الدرجة، وليس في النوع. وإن كنا نتفق على أن خطر الثاني، المتعصّب الديني، يبدو، ظاهريًّا، أشد، إلا أنه مما لا شك فيه أن التعصّب في دائرة ربما يؤدي للتعصب في دوائر أخرى، أو يصبح طريقة في التفكير. ولذلك فربما، وأقول ربما، نجد مبررًّا للتعصّب الديني، فصاحبه مكره؛ مكره بسبب جهله وثقافته التي نشأ فيها فشكّلت وعيه رغمًا عنه، ومكره بمسلماته عن مصيره الأخرويّ (دخول الجنة أو النجاة من النار) لكن المتعصب الكروي، من وجهة نظري، لا يكون مكرهًا على الاختيار ولا يوجد مبرر لتحزبّه وتعصبه سوى ذلك الخلل في التفكير الذي يميّز المثقف عن غيره.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى