محمد حجاجي - رسالة الى با دريس*

حين اطلعنا، كقراء، على مجموعتك القصصية «حزن في الرأس وفي القلب» في سبعينيات القرن الماضي، وكنا شبابا مدمنا قراءة الأدب المشرقي على الخصوص: جبران، المنفلوطي، أبو ماضي، يوسف السباعي، نجيب محفوظ… فاجأنا أسلوبك الواقعي، السهل السيال الواضح الذي لا يستنكف عن تسمية الأشياء بمسمياتها، ويصور دهاليز الهامش والقاع وحياة البسطاء المقهورين فيه، بلغة عارية غير متكلفة ولا مثقلة بالزخرف اللفظي والتزويق الأسلوبي، ورغم ذلك رشيقة ومفعمة بالحياة، طريقة مختلفة كثيرا أيضا عما ألفناه في مقاعد الدراسة عن رواد الأدب المغربي الكلاسيكي.
تتالت إصداراتك، بعد ذلك في القصة، فعرفنا أنك ابتدأت الكتابة شاعرا، ثم أخلصت الوفاء للقصة فيما بعد. كتبت في المنابر الصحفية الوطنية: «العلم»، ثم «المحرر» و»الاتحاد الاشتراكي»، زمن الجمر والرصاص، وفي المجلات المغربية: الثقافة الجديدة وآفاق والصحيفة الأسبوعية… وكذا في العديد من المنابر العربية: الآداب اللبنانية، والأقلام العراقية، والناقد اللندنية، والكرمل الفلسطينية… فصرت علما بارزا في الأدب المغربي والعربي الحديث، وواحدا من ثالوث مكون منك ومن محمد زفزاف ومحمد شكري، اختط لنفسه أسلوبا مميزا في مجال كتابة الهامش والبسطاء وظواهر القاع الاجتماعي، وصار (الثالوث) من أبرز رواد الكتابة الواقعية الحديثة في المغرب والوطن العربي.
حفرت لنفسك مكانة مرموقة في الأدب المغربي المعاصر، بمواهبك ولوذعيتك وعصاميتك. أصدقاؤك يتحدثون بانبهار عن عصاميتك التي جعلتك نهما للقراءة مواظبا على الاطلاع على مستجدات الأدب والمعرفة في المغرب والعالم العربي والعالم، وقراءة الواقع بعين فاحصة دقيقة، تلتقط تفاصيل الحياة اليومية المدينية على الخصوص. كونت نفسك بنفسك إذن، وصرت كاتبا مرموقا واسع الاطلاع، ليس في الأدب وحده، وإنما في المجالات المعرفية والفنية الأخرى: الفن التشكيلي، السينما، المسرح، الفلسفة، الموسيقى… فتفوقت على الكثير من أصحاب الدبلومات والمواقع الجامعية.
وازيت بين كتابة القصة والمقالة الصحفية والأدبية وبرعت فيها جميعا. عمودك الصحفي “عندي عندك” أثار اهتمام القراء الذين تابعوه بشغف، لأنك كنت تعبر عنهم وتعري الظواهر المجتمعية التي اعتبر البعضُ جلَّها طابوهاتٍ لا يَحسن الاقتراب منها، أما مقالاتك الأدبية فقد تناولت فيها ظواهر ثقافية مختلفة ثاقبة، ونسجت بورتريهات وتأبينات لأعلام تحترمهم وتقدرهم: ثريا جبران، زفزاف، المنيعي، أنور الجندي. المهدي أخريف… وجعلت الأدب والنقد والشعر والعمل المدرسي والجامعي… أيضا موضوعات لكتابتك وانتقاداتك.
وكما في قصصك جاءت معظم مقالاتك الصحفية والأدبية بنفس الأسلوب الواضح السلس الرشيق الشفاف، الذي ينفذ إلى عمق الظواهر وينقد سلبيات وتناقضات الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، بنفس المزاج الناقد والأسلوب الحاد الصريح الصادق الساخر الذي لا يجامل ولا يهادن، والذي لا يعجب الكثيرين الذين صاروا، مع الوقت، يعتادونه ويتقبلونه على مضض.
توالت إصداراتك القصصية عن حزن الهامش الذي في الرأس والقلب، وعن ظلاله التي تلف المواطن العادي، وبداياته وأيامه ولياليه في مدينة التراب، وعن أحزان يوسف، حتى وهو في بطن أمه… وقد أحسنت وزارة الثقافة صنيعا حين أصدرت أعمالك القصصية الكاملة في مجلدين كبيرين، فأتاحتهما للقراء والباحثين.
يتحدث النقاد عن “تمغربيت” في كتابتك، وأسلوبك الخاص المميِّز لها والمختلف عن الكتابة المشرقية مثلا، يتحدثون عن حميمية الاجتماع المغربي في قصصك ومقالاتك وعن الظواهر الثقافية (الأنطروبولوجية) الخاصة بالمغاربة التي عايشتها، إذ “نبتَّ من عدم ومن هامش المجتمع”، كما تقول، وعن تطعيمك للنصوص بحميمية الدارجة المغربية… ما يضفي عليها حقيقةً صفة تمغربيت.
فيما يخص مقالاتك الأدبية/الثقافية، يلاحظ القارئ المتتبع اهتمامك بالفن التشكيلي والسينما والمسرح والموسيقى والقضايا العامة… وكتابتك عنها بثقة المواكب المطلع العارف الذي لا يتقوقع في تخصصه الضيق. ارتدت معارض التشكيل وقاعات السينما وعروض المسرح وحفلات الموسيقى ومحافل الأدب والثقافة والشأن العام… لذا جاءت نصوصك في القصة والمقالة عميقة في بساطتها، ومعبرة في شمولية تناولها، وفاهمة ومتفهمة لتناقضات وأسقام المجتمع وعلاقات الإنسان المغربي المقهور فيه، وتحولاته النفسية، وتوقه في الآن نفسه، إلى الحرية والتقدم والفرح والحياة الكريمة.
اهتمامك بالفضاءات والأمكنة (في القصة على الخصوص) لا يقل بروزا عن اهتمامك بالإنسان الذي يرتادها ويقطن فيها، المدينة، المقهى، الحانة، الشارع، المعمل، المكتب، غرفة المنزل… وهل يكون وجود للإنسان خارج حيز المكان؟ وقد برعت، بعينك اللاقطة، في الرصد العميق والوصف الدقيق لها ولزواياها وتفاصيل مكوناتها ومحتوياتها وحركات الإنسان داخلها، حتى ليصير المكان وكأنه البطل، لا الإنسان. أما الإنسان فقد ركزت بشأنه في قصصك على ما يمثل اللابطل (نموذج “الريصاني” الميكانيكي في قصة “مستنقع”).
أدبك وكتابتك يشبهانك في انسجام تام مع شخصيتك. حبك للحياة ومسراتها وسهراتها وضحكاتها وهلوساتها، واستقبالك لها بكيانك وجسدك، بدون طهرانية كاذبة، ومعاشرتك الحميمة لأصفيائك الذين لا ينادونك إلا بــ “ابّا ادريس” بدل إدريس الخوري، وتعاملك مع الوسط الاجتماعي والثقافي بنفس الروح المزاجية المتقلبة الحادة، الناقدة والساخرة الصريحة، الكارهة لمظاهر النفاق الاجتماعي… كل ذلك وغيره لا يختلف عن أجواء كتابتك وتصوير حياة أبطال قصصك، ونقدك اللاذع، بمرارة، للسلوكات المنافقة، حتى في الوسط الصحفي والثقافي والجامعي…
في فترة شيخوختك ومرضك، دبجت رسالة نعي لشخصك ومعاناتك مع المرض في مقالة: “أيها التعيس، لقد حانت نهايتك”، كما لم تفتك الكتابة عن كورونا، “الشبح غير المرئي” كما وصفته في “يوميات كورونا”، في فترة الحجر الصحي. ومما قلت موجها الخطاب لنفسك: “إن كورونا لداء قاتل (…) لذلك أنصحك ألا تخرج إلى الزنقة بدون سبب، وألا تخالط الناس وتصافح الناس، فكل تماس مع الناس سينقل إليك عدوى الناس…”
كانت وفاتك، في فبراير الماضي، خسارة حقيقية للأدب والثقافة والصحافة المغربية والعربية. عزاء الوسط الثقافي ما خلفته من ميراث ثقافي غني متجسد في مجاميعك القصصية، وكتبك الثقافية العامة وإرثك الصحفي المميز.
لروحك السلام في خلودك الأبدي، وتيقن أن دراسة الأدب المغربي لن تكون مكتملة أبدا، إن هي تخطت تجربتك أوتجاوزت عطاءك الثر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ــ نشرت هذه الرسالة في الكتاب الجماعي الذي ضم 30 رسالة إلى إدريس, من كتاب وأدباء مغاربة وعرب، الكِتاب الذي أعده ونسقه القاص المهدي نقوس والأديبة ليلى مهيدرة، والذي نشر بمناسبة «المهرجان العربي للقصة القصيرة» بالصويرة، في دورته التاسعة (16 – 18 دجنبر 2022)، دورة إدريس الخوري (مسار قاص… مسار قصة)، الذي تنظمه «جمعية التواصل للثقافة والإبداع»، والذي خصص إحدى فقرات برنامجه لندوة حول كتاب الرسائل.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى