شريف حتاتة - ثلاثة أيام في تونس الخضراء

كانت الساعة قد قاربت على منتصف الليل عندما هبطت في مطار تونس". سرت في الممـرات بين جدرانها الرخامية ازدانت بمساحات مـن الفسيفساء الملون. خارج الحاجز، في صالة الانتظار لمحت رجلا أدركت من نظراته أنه جاء للقائي. مربع الجسد، أسمر البشرة لمعت عيناه بابتسامة ترحاب وهو يتقدم نحوى. شد على يدي بقبضة قوية وقـال : " الحمـد الله علـى السلامة يا دكتور شريف...... أنـا أسـمـى مـخـتـار ابـن حفصة ، أرسلني الأصدقاء لاستقبالك. هل كانت رحلتك مريحة؟". قلت:
"الحقيقة كانت متعبة وطويلة. جئت إلى "تونس" عن طريق "ميلانو" . فالسفر بين القاهرة و"تونس" على الخطوط الإيطالية يستغرق ثماني بدلا من أربع ساعات".
قال:
"سأخذك إلى منزل الأستاذ "فتحـي الشـامخي"، وهنـال ستستريح، لكن علينا أن ننتظر في المطار قليلا لاستقبال زميل قادم من "اليونان" أسمه "بانس توليوس" سيقيم أيضا في دار الصديق "فتحى"، ومعكما ثالث من "أمازيغ" "المغرب" يدعى "محمد أجغوب".
خطر في بالي أن اقامتي في "تونس" ستكون مرهقة، حيث نبيت نحن الثلاثة في غرفة واحدة. لكني تذكرت أننى أقمـت لمدة سنوات في زنازين السجن مع أربعة عشرة من زملائي، وفي تلك اللحظة لمحنا "بانس توليوس" مقدما علينا. إنه خبير اقتصادي ينشط في الحركة اليسارية اليونانية ، تعرفت عليه في "قبرص"، أثناء اجتماع لجنة التنسيق الدولية الخاصة، بالمنتدى الاجتماعي للبحر الأبيض المتوسط.
هذا المنتدى مثل غيره من المنتديات الاجتماعية الإقليمية، متفرع من المنتدى الاجتماعي العالمي، وهي جميعا عبارة عـن فضاءات شعبية يجتمع فيها ممثلو الحركات الاجتماعيـة فـي القطاع المدني، من مختلف البلاد للتشـاور، والتباحث حـول وسائل تنسيق النضال ضد العولمة الرأسمالية الليبرالي، ومن أجل إقامة نظام عالمي جديد تسود فيـه العدالة الاجتماعيـة والديموقراطية، والسلام.
عندما خرجنا من المطار، كان الجو بارداً، وكان المطر يسقط بغزارة متواصلة في "سيول "، فحشرنا أنفسنا بسرعة في سيارة صديقنا التونسي، كانت ملابسي مبتلة تماما. لكن برودة الجو أضاعت الإحساس بالتعب، فاستغرقت في الحديث معه طوال رحلة الثلاثين كيلو متر، التى كانت تفصلنا عن الضاحية التي اتجهنا إليها، أما زميلنا اليونانى، فقد لاذ بالصمت، موجها بعض الأسئلة القلقة عن المكان الذى سنبيت فيه.
قرب الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وجدنا أنفسنا أمام "فيلا" بيضاء محاطة بسور عال. أخرجنا الحقائـب مـن السيارة، وضغط صديقنا "مختار" على مفتاح الجرس فانفتح الباب فورا، لنجد امرأة تنتظرنا أعلى السلم عند باب من الزجاج الملون والحديد المشغول. كانت ترتدي جلبابا طويلا، وشالا من الصوف المطرز. قالت:
"الحمد لله على السلامة. تفضلا .. ثم أضافت. "هل تريدان تناول أى شئ قبل النوم؟".
قلت:
"فيما يتعلق بي أفضل أن أنام فورا فرحلتي كانت طويلة". ثم التفتت إلى "يانس" اليوناني، فهز رأسه موافقا وقال بالإنجليزية: "وأنا كذلك أريد أن أنام".
صعدنا السلالم الرخامية البيضـاء ، ترتفـع فـي شـكـل حلازوني إلى الدور الأعلى. قالت مضيفتنا: "سنوقظكما صباحا في الساعة السابعة، فالاجتماع سيكون في التاسعة، والمكان بعيد من هنا،". وفي تلك اللحظة خرج زوجها من أحد الأبـواب ، وعلى وجهه علامات النوم. اخذ كل منا بالحضن قائلا: "الدار داركما واطلبا ما تشاءان. لكل منكما غرفته." ثم فتح أحد الأبواب وأشار إلىَ بالدخول: "سنراكما في الصباح، وأرجو أن تستمتعا بنوم مريح".
دخلت إلى حجرة النوم التي خصصوها لي. في الركن، إلى جوار إحدى النوافذ العريضة ، وجدت سريرا مفردا وضـعت عليه أغطية صوفية مغزولة يدويا، ومناشف قـرب السرير ، ومدفأة كهربائية ومضت فيها عينها الحمراء. خلعت ملابسـی وعلقتها على شماعة. ارتديت الجلباب والخف أخرجتهما مـن الحقيبة. ذهبت إلى الحمام لأغتسل ثم عدت. دسست جسمی تحت الأغطية ، وبعد لحظات كنت غاطسا في النوم.

أسرة كسرت قيود الأبوية

لم أعد إلى اليقظة سوى في الصباح ، عندما التقطت أذني ، نقرا حفيفا على الباب ورأيت وجه "فتحى الشامخي" الأسـمر المبتسم يطل منه. قال "الساعة السابعة والربـع" ثـم أغلقـه. فتحت السواتر فتسربت إلى َالشمس المشرقة صعدت في زرقة السماء فوق البيوت. في الغرفة مكتبة ازدحمت رفوفها بالكتب.. روايـات، ومسـرحيات، وشـعر، وقـواميس، وكتـب عـن الرياضيات، وعن العلوم. التقطت عناوين عربية، وفرنسـية، وإنجليزية ومن بينها سيرة حياة "تروتسكي" مؤسـس الدوليـة الرابعة، تزيد صفحاتها عن الستمائة. إلى جوارهـا انتصـب المكتب وضع عليه كومبيوتر، وآلة تصـوير مهنيـة، وأدوات للكتابة كثيرة ومتنوعة، ومساحيق للزينة نسائية قليلة العـدد. على عتبة النافذة حلق للأذن، وعقد من الفضة فيه فصـوص حمراء صغيرة، وعلب مستديرة للعدسات اللاصقة، ومن تحتها منضدة صغيرة ، وضعت عليها عروسة ، وزهرية فيهـا زهـورجافة.
تناولت دشا ساخناً وحلقت ذقني. ارتديت ملابسي وهبطت إلى الدور الأرضي. وجدت أفراد الأسرة في المطبخ جالسـين حول مائدة مستديرة ومعهم الضيفين الآخرين. كانوا يتناولون طعام الإفطار فانضممت إليهم، وعلى الفور سار بنـا الحـديث سهلا، بسيطا وأنا أرتشف القهوة السوداء الساخنة ، وآكل خبزا مغموساً في زيت الزيتون،أوأضع عليه مربى التين . الى جوارى الإبنة "عزة" فتاة مرتفعة القوام ، بيضـاء مثل أمـهـا اتدرسالرياضيات، وتعشق العلوم . ولكنها فى الوقت نفسـه مهتمة بالأدب،وعلى الأخص كتابة المسرحيات ومشاهدة عروضها . أمـا الابـن " صبرى " فقال لي أنه مغرم بلعبة كرة القدم ، التي يريد أن يصبح أحد نجومها ، ويحصل على مال كثير عن طريق ممارستها.
أحسست بالراحة منذ أول لحظة وسط هذه الأسرة ، التـى تركت لنا غرف نومها لكي نبيت فيها، بجو الدفء والتعامـل التلقائي الذي لا مبالغة، ولا افتعال فيه. الجميع يشاركون فـي الحديث ، كأننا التقينا منذ زمن بعيد. أدركت أننـى كـنـت أحـتـل غرفة نوم "عزة" ، ظلت تنظر الىَ والبريق يضيء عينيها ، عندما علمت أننى روائي، وزاد البريق عنـدمـا قلـت لـهـا أن إبنـي "عاطف" مخرج سينمائي . غرفتها المليئـة بكتـب الـعلـم والفن، والتاريخ، وتمثال الوجه الأفريقـي المنحـوت فـي الخشب، ولوحة المرأة الفلاحة التونسية، والكمبيوتر الـذي غطت شاشـته "بفائلـة " رياضـية، والمشغولات الفضـية البسيطة، والأقلام الملونة الكثيرة ، كلها تعبير عن شخصية هذه الفتاة التونسية المتطلعـة الـى المستقبل، الـى المعرفـة، والاكتشاف، الى الارتباط بما يحدث في العالم عن طريق إجادة أكثر من لغة أجنبية. فإلى جانب اللغة الفرنسية والإنجليزيـة ، فوجئت بها فيما بعد أثناء حفل العشاء ، تجلس أمام أحد أعضاء اللجنة التنسيقية حضر من "برشلونة" وتسأل عن كلمات باللغة "الكتالانية".
أما الإبن "صبرى" المولع بلعبة الكرة وكسب المـال ، فـقـد استغرق في التفكير بعد أن لفتت نظره الى اضطرار لاعـب الكرة الاعتزال وهو لايزال في سن الشباب ، وأن هنـاك مـهـن أخرى يستطيع أن يجد فيها مجالا للكسب مثل الطب، أو العلوم الإلكترونية أو البيولوجية الحديثة ، وأن يمارس فيها حياة فكرية ومعرفية غنية.
بعد تناول الإفطار توجهنا الى محطة للسكة الحديد قريبة ، لنستقل القطار الذي سيحملنا الى وسط مدينة "تونس" حيث مقر الاجتماع في المنظمة التونسية لحقوق الإنسان. كـان الجـو صحوا يملا رئتي بهواء نقي ، ويطرد التلوث الذي حملته معـى من القاهرة. جلست أطل من نافذة القطـار علـى المسـاحات الخضراء ، تتلألأ فيها قطرات المطر. تذكرت رحلات الطفولة الى قريتي في قطار الدلتا المفتوح على الجـانبين ، يتهـادی بـين الحقول تحت سماء صافية زرقاء.
كنت جالسا الى جوار "ماجدة الشـامخي" فسألتها عـن حياتها، وعن طفولتها، وكيف التقت بشريك العمر "فتحي" منذ ما يزيد عن عشرين عاما. فحكت لي أن أسرة "فتحـى" كـانـت جارة لأسرتها، أنهما كانا يلعبان سويا مع الأطفال وأنه قامـت بينهما صداقة عميقة. ثم سافر هو الى "فرنسا"، وظـل هنـاك عشرة سنوات الى أن نال الـدكتوراه . لكنهمـا كـانـا يتبادلان الرسائل طوال هذه المدة، ولما عاد عـرض عليهـا للـزواج فوافقت. قالت أنه منذ ذلك الحين ، أصبحا يتعاونان في كل شئون الحياة، في الانفاق، في العمل داخل البيت، وفي رعاية الأطفال، ويتقاسمان المسئوليات على قدم المسـاواة. يعمـل هـو أستاذا في الجامعة، وتعمل هي مديرة مدرسة ابتدائية في مدينة "سليمان" ، تبعد عن الحي الذي يسـكنـان فيـه مسـافة ثمانيـة كيلومترات.
على جانبي خط السكة الحديد امتدت البيوت التي لا تعلـو عن دورين أو ثلاث، فالعمارات في "تونس" نـادرة للغايـة.البيوت كلها ناصعة البياض، والسواتر زرقاء في لون البحـر ، مما يضفي جمالا على العمران. بين الحين والحين ، يتوقـف القطار في محطة فيصعد منها الناس. وجوههم جامـدة تبـدو على ملامحها أثقال الحياة، فلا ضحك ولا ابتسام، وإنما صمت شبه كامل. توقف القطار في محطة كتب على لافتاتها "حمـام الشط" فمال علـىَ "فتحـى الشـامخي" وقـال : "هنـا عـاش الفلسطينيون عدة سنوات... غارت عليهم الطائرات الإسرائيلية في محاولة لقتل "ياسر عرفات". فشلوا لكن مات تحت القنابـل عشرات من الناس البسطاء ". خطر في بالي أن الخيانة نجحت في تحقيق ما فشلت في تحقيقه القنابل والطائرات.
وصلنا الى مكان الاجتماع في الميعاد. كان عدد الحاضرين فيه أربعة وعشرون من بينهم ثمانية من النساء. حضر خمسة ممثلين وممثلات من "تونس" ينتمون الـى منظمـات حـقـوق الإنسان، والنقابات العمالية، والمنتدى الاجتماعي التونسي، كما شاركت رئيسة اتحاد النساء التونسي. أما باقي المشاركين فقد جاءوا من "المغرب"، و"اليونـان"، و"أسبانيا"، و"إيطاليـا"، و فرنسـا"، وجنـت أنـا مـن "مصـر". غـاب السـوريون، والجزائريون، والأتراك ، لأنهم واجهوا عراقيل ومصاعب في الحصول على فيزات . فالنظام التونسي شأنه شأن بقية النظم العربية تغلغلت اليه الأساليب البوليسية في كل المجالات. الأجانب الآتين مـن أوروبا يمنحون الفيزا في المطار، بينما العرب مرغمون علـى تقديم طلب قبل السفر بثلاثة أسابيع أو شهر ، وهو ذات النظام الذي يطبق في "مصر".
طوال المدة القصيرة التي قضيتها في "تونس" ، لاحظت أن رجال الأمن ممنْ يرتدون الملابس المدنية ، كانوا يتتبعون تحركـات أعضاء اللجنة دون أن يخفوا أنفسهم، كما أنهم ظلوا محيطين بمكان الاجتماع ، الى أن انصرفنا في نهاية النهار.
كان هدف الاجتماع الإعداد للدورة التحضيرية الأولـى الخاصة بالمنتدى الاجتماعي للبحر الأبيض المتوسـط ، والتـي ستعقد في "أثينا" في بداية شهر مايو القادم. عقـد المنتـدى الاجتماعي للبحر الأبيض المتوسط الأول في شهر يونيو سنة ٢٠٠٥ في مدينة "برشلونة" ، وحضره أكثر مـن سـتة آلاف مشارك ومشاركة من بينهم عدد من المصريين، ومـن بـلاد عربية مختلفة. النظام الذي يتبع في الإعداد للمنتـدى يعتمـد على عقد خمس أو ست دورات تحضيرية ، يحضـرهـا مـابين 150 و 300 مشارك ومشاركة. أما المنتدى نفسـه فيـجـرى تنظيمه كل سنتين ، ويتم توزيع الدورات التحضيرية على قـدر الإمكان بالتساوى على بلاد شمال وجنـوب البحـر الأبـيض المتوسط. . لكن حتى الآن لم يتحقق هذا بسبب العراقيل المختلفة التي تضعها حكومات الدول العربية فـي وجـه المعارضـين لسياسات الرأسمالية النيوليبرالية، والاستعمار الجديد وبسسب ضعف وتشتت الحركات الاجتماعية في هذه الدول.
عقد اجتماع اللجنة التنسيقية الدوليـة ، يـوم السـبت ٢٥ فبراير الماضي من الصباح حتى نهاية النهار. اتفق فـي هـذا الاجتماع على مشروع جدول أعمال لعرضـه علـى الـدورة التحضيرية في "أثينا" ، يشمل ميعـاد ومكـان عقـد المنتـدى الاجتماعي للبحر الأبيض المتوسط، عدد الدورات التحضيرية، وصعوبات التمويل ووسائل الحصـول عليـه، والميزانيـة المطلوبة، ومشكلة "الفيزات"، وأخيرا المحاور السياسية التـي يقترح أن تكون موضوعا للحوار. ثم تم توزيع المهام المتعلقة بهذه البنود على أعضاء اللجنة.
أخترت أنا ومشارك من " برشلونة " يدعى "لويسبلانكو" أننا نتعاون فى اقتراح المحاورالسياسية . و" لويسبلانكو" هوأمين عام النقابات المستقلة فى " برشلونة ". وتوثقت علاقتى به أثناء جهودنا السابقة في عقد منتدى سنة ٢٠٠٥. وفيما يتعلق بهذه النقطة ، اتفق على أن نكتب مقدمة للمحـاور التي سنقترحها ، تتناول تقييم الوضع في حوض البحر الأبيض المتوسط، ، ومدى التقدم أو التخلـف الـذي أصـاب الحركـات الشعبية في نضالها ضـد الرأسمالية الليبراليـة، واتفاقـات المشاركة التي عقدت في "برشلونة" سنة 1999 ، وكذلك تحليل الآثار التي ترتبت عليها في بلاد الشاطئ الجنوبي للبحـر الأبيض المتوسط . وفي هذا المجال من المهم التفرقة بين نشاط المنتدى الاجتماعي للبحر الأبيض المتوسط ، والنشاط الذي تقوم به عديد من منظمات القطاع المدني باسم "الأورومتوسطية ، من بينها منظمات في مصر. فهذا النشاط الأخير يتم في إطـار اتفاقات المشاركة التي اتفق عليها في "برشـلونة"، والذي تباركه، وتموله بلاد الاتحاد الأوروبي ، بهدف استخدام القطـاع المدني في البلاد العربية لصـالح سياسـات السـوق الـحـرة، والخصخصة، والاستثمار الأجنبي المتعدد الجنسيات ، الآتي مـن بلدان أوروبا.

المتعة بعد العمل

حرص صديقي "فتحي الشامخي" ، وزوجته "ماجدة" على أن تكون إقامتنا في "تونس" مثمرة، وممتعة في آن واحـد، ففي ليلة الأحد ، قاما بدعوة جميع أعضاء اللجنة على العشـاء فـي بيتهما، تعاون أفراد الأسرة في إعداد "الكسكسي المشـطط و المكرونة " بحيوانات البحر، والحساء، وأعدت مختلف أنـواع من السلطات. تناولنا الطعام على مائدة طويلة ، مع أصـنـاف الشراب التونسي المصنوعة من العنب، والبلح، والتين ،لا أتذكر من أسمائها سوى النوع الأخير واسمه "بوخا". قضينا ساعات مفعمة بالدفء الإنساني، والفرحة . التقى أثناءها رجال ونساء من مختلف البلدان مخترقين حواجز اللغة، والدين، والقوميـة والعمر، والجنس. كانت جلستنا صورة مصغرة من عالم يولد بالتدريج رغم الصعوبات، ونموذجا للتضامن والأخـوة بـين الشعوب.
في اليوم التالي بعد الإفطـار توجهنـا أنـا، و" بـانيس" اليوناني، و"محمد" الأمازيجي، وفتحى"، و"ماجدة" في سيارة الأسرة العتيقة الى مدينة "قرطاج". عبرنا البحر على "عبـارة" (معدية) وتنزهنا وسط البيوت الجميلة، ومساحات الخضـرة، والأشجار، والزهور البرية ترقص فـي الـريـح ، كـالأجراس الصغيرة الصفراء اللون. توقفنا عند شاطئ البحـر نستنشـق الهواء ، ونملأ عيوننا بزرقة الماء . ثم عدنا لنتناول وجبـة مـن لحم الضأن المجفف ، تم طهيه بالبصل، وعيش الغراب، والفول الأخضر (الحراتي)، ومعه أطباق من الكسكسي.
في الليل ذهبت مع "فتحى الشامخي" فـى سـيارة أحـد أصدقائه الى مدينة "سليمان" التي أهدى "سلیمان بای" موقعها للعرب ، الذين هاجروا من "الأندلس" الى "تونس" ، هربـا مـن اضطهاد الإقطاع والكنيسة الكاثوليكية ، بعد أن أصـيب الـعـرب بهزائم متتالية على يد حكام وجيوش "فرنسا" و"أسبانيا".
سرت على قدمي في الشوارع الضيقة بين البيوت ، تـزدان جدرانها بمربعات ودوائر من الفسيفساء الأحمـر، والأزرق والبرتقالي اللون، وتعلو أبوابها ونوافذها الأقواس الأندلسية. في المدينة جو من الهدوء والسلام. الناس يجلسون على دكك من الحجر في الميدان العام، ويتسامرون، والشباب يتجمعـون في محلات الحلاقة. ألمح أحدهم وهو يجلس منتصبا في المقعد أمام المرآة ، متأملا ما يحدث له في اهتمام، وعجـوزا تحمـل أكياس الخضروات وتسير ببطء فوق ساقيها استهلكها الزمن، والعمل الشاق. أقف في محل العطارة أسـتمع الـى صـاحب المكان يشرح لي بالتفصيل أنواع البذور، والبهارات التي يقوم بإعدادها في البيت. أستشعر في صوته رنة منْ يعتز بأصـالة المهنة الموروثة ، تجاهد لكي تبقى حية في عصر التكنولوجيـة والآلات ، حيث تفقد الأشياء طعمها الخاص لتصبح كلها سـيـان. ابتاع منه علبة كبيرة من البلح التونسي بثمانية دينارات هدية " لنوال السعداوى" تعشق التمر بمختلف أنواعه.
نعود الى البيت. أودع أفراد الأسرة، وأهدى الـي كـل منهم كتابا من تأليفى ، رواية أو مذكرات، أو مجموعة مقالات، ثم أصـعد الى غرفتي لأنام. تنقضي هذه المحطة في الحياة ، وأنا جـالس في "التاكسي" الى جوار سائق يرتدى طاقية من الصوف اسمه " لطفى"، وأنفه طويل أراه تحت المصابيح يشبه منقـار "أبـي قردان". أمر أمام ضابط الجوازات. وجه مربع منحـوت فـي الصخر، شارب يخفى شفتيه، ونظرة شك عندما يفحص جواز سفرى الأخضر اللون والصورة والاسم "شريف يوسف فتح الله حتاتة ، فالعربي في بلاد العرب مصدر ريبة وليس أخ. أجلس في الصالة المستديرة على مقعد من الجلد ، تحت نجفة كريستال تتدلى من السقف. من حولي شلة من أغنياء القـوم. الأحذيـة المدببة، والحقائب الأنيقة، والنظرات اللامبالية تنظر الىَ مـن أعلى الأنف. فأنا لست من عالمهم. أنا من عالم آخر لم يـأت بعد.

*من كتاب : " يوميات روائى رَحال " 2008


شريف حتاتة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى