رسائل الأدباء ثلاث رسائل بين أمين الريحاني ومارون عبود

أخي مارون عبود
أُصافحك بيدي الحب والإعجاب، وأهنئك بصبيِّك الجديد، وأهنِّئهُ باسمه الأجد، وبالقصيدة التي نظمتها لهُ ولهذا الوطن الغني بالأديان، الفقير بين الأوطان.
أحسنتَ يا مارون، أحسنتَ وخيرُ الآباء أنت.
وحبذا في المسلمين وفي الدروز وفي اليهود مَن يقتدون بك فيُسمُّون أبناءهم بأسماء آبائنا القديسين، ونُسمِّي أبناءنا بأسماء أبنائهم الأولياء؛ فينشأ في هذه البلاد جيل جديد من الإخوان — الإخوان الحقيقيين — الذين لا يعرفون من أسمائهم أنهم لأحمد أو لموسى أو للمسيح، بل لا يعرفون خارج المعابد أنهم مسيحيون أو مسلمون أو موسويون.
إن المستقبل لهذا الجيل من الإخوان، وفي مقدمتهم محمد بن مارون بن عبود اللبناني — حرسه الله.
أخوك أمين الريحاني
الفريكة، لبنان
١١ نوفمبر سنة ١٩٢٦

****

أخي أمين دمت عزيزًا مشرفًا
ما أدري كيف عدت! أَتائبًا كداود أم متمردًا كأبيشالوم؟ واليد التي أعادتك، أقفازها من فراء الهررة وريش الديوك، أم من جلود الأسود والنمور؟ أم الجنة لا يدخلها إلا من توسل إلى الله بأحد القديسين الاختصاصيين كالخضر وغيره …
يا أخي أمين، خبِّرني، أليس الانتداب في كل مكان، حتى السماوات في كوخ الفقير وقصر الملك، طورًا تُنتدب الأناس وتارة الإناث …؟
فإلى أين يا أمين، أَإلى القبر؟ ففيه انتداب منكر ونكير، أإلى السماء؟ ففيها انتداب بطرس ورضوان، وفي هذه الأرض يتنازعنا الملاكان … وفي جهنم لوسيفوروس وأصحابه ذوو الأذناب والقرون …
فما أرى هذه الأمة إلا مفلتة من نير لتقع تحت النير، وما شكر السوق إلا من ربح. لا يثير شجوني شيء، يا أخي، كالذين غرقوا حتى الآذان في لجة الفرنك، حتى إذا انقطعت الجراية كفروا بالفرنج، ولا أدري إذا كانوا يندمون كبطرس عند صياح الديك.
ألَا رحِم الله ابن الرومي حين قال يهجو إسماعيل بن بلبل:
تشَيْبَنَ حين همَّ بأنْ يشيبا
لقد غلطَ الفتى غلطًا عجيبا
فما أكثر المرتدين في هذه الأرض — وإن إلى حين — ونحن كرجال الدين نعد الارتداد هداية وهو وليد الغاية! والغايات أكثر عجائب من الليالي.
علَّلت النفس برؤيتك في العراق فإذا بك تعود إلى الفريكة، فهنيئًا لك ربيعها الضاحك كسِنِّك، وإن خلا من سخريتك، وأنعم بمنظر سنابلها الطريئة! فكل ما على «أرضنا» فريك … الحصاد كثير والفعلة قليلون؛ فاطلب ما شئت من رب الحصاد.
قرَّت بطلعتك عين «عجوز منبج» يا أبا فراس، وعليك ألف سلام من أخ يشتاقك وهو جد مؤمن بوفائك ومروءتك وإبائك.
عين كفاع
٢٢ / ٤ / ١٩٣٤

****

أخي مارون — حفظهُ الله
وأبيشالوم، إنك مازح في كتابك الجميل إليَّ، أو إنك هازئ يائس، ليس أخوك ممن ينشدون المثل الأعلى في الزبور، ويقتدون بمن غيَّر فكره عند صياح الديك، فقد عدت إلى الوطن لأني مثل الذين أبعدوني أحب هذا الوطن، ومثلهم أحب أن أقيم فيه على الدوام.
وإننا نحن — والله — المقيمون على الدوام لا هم. أجل إنني أعلم وأعتقد وأتيقن وأتأكد أن سيجيء اليوم الذي يُرى فيه المستعمر الأثيم حاملًا بندقيتهُ ومدفعهُ وطبلهُ وزمرهُ — وكيسه الفارغ — وراحلًا راحلًا.
البرهان؟ الدليل؟ أنا وأنت والقلائل الكرام، إخواننا في كل مكان، البرهان؟ الدليل؟ مدرستك وتلاميذك، ومدرستي السيارة وتلاميذي، وذريتهم وذريتنا، وإيمانهم وإيماننا، وجهادهم الذي سيكون أضعاف جهادنا شدة وانتشارًا، لا يُريبنك ذلك.
فلا تزال الشعوب سائرة إلى الأمام.
ولا يزال الإنسان عاملًا جادًّا في سبيل الرقي في كل مكان، ولا تزال البنود الحمر تخفق فوق رواسي الفكرِ والأملُ الخالد يشع حولها.
ولا يزال الله على عرشه حيًّا يرزق.
عفوًا يا أخي مارون، ما جئتُ أقرع الطبول في حزنك، ولا جئت أعزيك بوفاة الوالد — رَحِمَه الله — وسيَرْحمهُ الله، وكيف لا يرحمه وأنت ابنه؟ بل سيكرمه لأنك ابنه، لا يريبنَّك ذلك.
إن يقيني بما سيكون لأشد جدًّا من يقيني بما هو كائن. الغد لنا يا مارون، الغد لنا هنا وهناك.
والسلام عليك من أخيك المشتاق إليك.
سلم على الأخ الرئيس والإخوان زملائكم. دمتم متمردين فيما تعلمون، مُوفَّقين فيما تزرعون.
أمين الريحاني
الفريكة، لبنان
في ١١ نيسان ١٩٣٤

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى