مصطفى نصر - محمد جبريل، ابن حي بحري

محمد جبريل، روائي وقاص مصري ولد في 17 فبراير 1938, عاش في حي بحري قريبا جدا من ميدان المشايخ، حيث يُدفن أبو العباس المرسي وياقوت العرش والبوصيري وغيرهم من أصحاب الأضرحة هناك. وهو مثل الكثيرين من أهل بحري، جاء جده من المغرب العربي. لدرجة أن هناك سوقا كبيرا في وسط بحري اسمه سوق المغاربة.
جبريل والإسكندرية
سكن محمد جبريل في شارع إسماعيل صبري قريبا جدا من قهوة فاروق - المعروفة هناك - وفوق حلواني الطيبين الشهير(1) وعمل أبوه محاسباً ومترجماً في نفس الوقت وله مكتبته الخاصة وقد أفاد محمد جبريل منها في قراءاته الأولى ويعتبرها محمد جبريل سبباً أساسيا في حبه للأدب.
بدأ جبريل حياته العملية سنة 1959 محررا بجريدة الجمهورية مع الراحل أحمد رشدي صالح ثم عمل بعد ذلك بجريدة المساء.
هو مثل معظم الكتاب الذين تركوا الإسكندرية وعاشوا في مدناً أخرى غيرها، لم تغريهم المدينة الجديدة التي انتقلوا إليها، فظلوا يكتبوا عن الإسكندرية وكأنهم لم يبرحوها، هكذا فعل إدوار الخراط وفعل إبراهيم عبد المجيد وعبد الفتاح رزق ومحمود قاسم وغيرهم.
تعرفت على محمد جبريل عن طريق الخطابات، وتبادل الإعجاب بما نكتب، وكعادته مع كل المبدعين - خاصة السكندريين - يدعوهم لزيارته في بيته، نقلت عنوانه الذي ذكره لي عبر التليفون، وذهبت إليه في مصر الجديدة.
وكعادة المشرفين على الصفحات الأدبية، تجد لديهم كماً هائلاً من الكتب في شتى المجالات، فدور النشر ترسل إليهم نسخاً من الكتب التي تصدر عنهم، وكل من يصدر كتابا، يحرص على أن يهديه نسخة منه أو أكثر ليكتب على الأقل خبرا عنه في صفحته، فكان يهديني كتبا كثيرة في القصة القصيرة والرواية والمسرح، ويدور الحديث بيننا عن الإسكندرية، يحكي لي عن زيارته إليها، وسيره في شوارعها التي ألفها وعاش فيها، يقف أمام بائع الهريسة في دكان الطيبين، ينظر إلى أعلى، يتابع الشقة التي نشأ وعاش فيها، ينتهي البائع من لف الهريسة، لكن جبريل مازال مشغولا بمتابعة البيت ونافذته التي كان يطل منها قبل انتقاله إلى القاهرة، يظن البائع إنه يتابع امرأة أو فتاة، فيضرب على يده لينبهه، فيقول جبريل له:
- لا تفهمني خطأ، لقد كنت أسكن هذه الشقة.
يتذكر جيرانه الذين عاشرهم ومازال يكتب عنهم في رواياته: عائلة شبيرو التي كانت تعيش في بيت مواجه لبيته، والحاج محمد سليط الذي ذكره في رباعية بحري، والذي كان واليا أو قطبا، اجتمع أهالي بحري على حبه، يقول لي عنه:
- فور علمي بموته، أسرعت بالسفر إلى الإسكندرية لأمشي في جنازته، وأحضر دفنه في عمود السواري حيث يدفن أهالي بحري موتاهم هناك.
عمل محمد جبريل في الفترة من يناير 1967 إلى يوليو 1968 مديرا لتحرير مجلة الإصلاح الاجتماعي الشهرية، وكانت تعنى بالقضايا الثقافية، ثم خبيرا بالمركز العربي للدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والتعمير، ورئيسا لتحرير جريدة الوطن بسلطنة عمان لمدة تسع سنوات كاملة.
يتعامل محمد جبريل بحب شديد مع كتاب الإسكندرية الذين يعيشون فيها وخارجها، لقد رحب بمحمد حافظ رجب عندما انتقل للعمل في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، هكذا يقول لي: إنني ضعيف أمام كُتاب الإسكندرية.
يحنو على المرحوم فتحي الإبياري جاره – ابن بحري-، وكان صديقا ومقربا لعبد الفتاح رزق - عليه رحمة الله - وإذا حضرت ندوة في القاهرة لكاتب من أصل سكندري؛ أعلم أنك ستجد محمد جبريل وزوجته الدكتورة زينب العسال يحضران الندوة من باب أن هذا الكاتب بلديات محمد جبريل.
وقد حضرت ندوة مناقشة مجموعة قصصية لصديقي سعيد بكر في نادي القصة، وكانت تحت إشراف عبد الرحمن شلش عضو نادي القصة والمشرف على النشاط الثقافي فيه، وحضر محمد جبريل كالعادة مجاملة للمؤلف ولصحبته الذين جاءوا معه من الإسكندرية، وتحدث حسن الجوخ عن دور محمد جبريل في إتحاد الكتاب ( حيث كان يشغل نائبا للرئيس) وإنه يعمل لساعات كثيرة في اليوم في الإتحاد مما أثر على كتاباته وعمله بجريدة المساء، وإذ بعبد العال الحمامصي- عضو مجلس إدارة اتحاد الكتاب - يغضب لهذا ويقول للجوخ:
- هو محمد جبريل وحده الذي يعمل في الإتحاد؟!،
وتصاعد الخلاف إلى أن وصل للسباب والشجار، فأحس عبد الرحمن شلش بالغضب والحزن لأنه المشرف والداعي للندوة، وأغمى عليه، وحملوه إلى البيت لكنه مات بعد قليل.
00
مازال محمد جبريل يحنو على محمد حافظ رجب، ويدافع عنه وعن كتاباته، ويقف مع كتاب الإسكندرية في أزماتهم، كتب عني كثيرا في مشكلة بيتي الذي تصدع بسبب بناء عمارة عالية مخالفة بجواره، وكتب عن أحمد حميدة ودافع عنه، لدرجة أننا نلجأ إليه في أزماتنا ونحن مطمئنين إنه سيآزرنا ويقف معنا.
وكلما سافرنا إلى القاهرة أنا وشوقي بدر يوسف والمرحوم محمد الجمل، نتصل به، فيلح في دعوتنا إلى بيته، فنذهب إليه، ونتحدث عن الإسكندرية الحبيبة لوقت متأخر قريب من الفجر. وتقوم زوجته بواجب الضيافة المغالى فيه.
ويأتي إلى الإسكندرية خصيصا، لكي يراجع معلوماته، فهو ينوي أن يكتب رواية بطلها صديق له من عائلة الصبروتي المعروفة في حي بحري، فنركب سيارة الدكتور محمد زكريا عناني ونذهب إلى شارع صفر بك، يستعيد جبريل ذكرياته، صديقه الذي ينوي الكتابة عنه كان يسكن في زقاق سد، ندخل الزقاق، بينما الدكتور محمد زكريا عناني يبحث عن مكان مناسب يركن فيه سيارته. اسأل عن اسم الشارع، وعن اسم الضريح.
وكتب محمد جبريل عن علاقته بصديقه هذا في روايته " زمان الوصل "
00
من يتعاملون مع محمد جبريل يحسون إنه يتعامل بقلب طفل. فقد دخلت معه وزوجته دكتورة زينب العسال مركز الإبداع في الإسكندرية فور افتتاحه، طافت بنا المسئولة الثقافية أقسامه، دخلنا المكتبة، فوقفت الموظفة مرحبة وقائلة:
- أهلا أستاذ محمد جبريل.
فصاح ضاحكا في براءة شديدة قائلا لي:
- عرفتني ولم تعرفك.
ومحمد جبريل يجد المبررات للناس، يقدر الضعف الإنساني، لو ذكرت نماذجه في هذا المجال لن أنتهي. فقد حدثني تليفونيا بأن أذهب إلى باكوس حيث يسكن دكتور سكندري لأخذ كتابا من كتب جبريل سيناقش في مؤتمر سيقام في الإسكندرية، وقد أتفق مع الدكتور بأن ينتظرني، لكنني عند ذهابي إليه، لم أجده، فعدت إلى بيتي غاضبا، واتصلت بجبريل، فضحك قائلا:
- لا تغضب، الدكتور معذور، إنه لم يتعين للآن، ويعيش على الدروس الخصوصية، وأكيد جاءه درس مفاجئ.
روايته أهل البحر
نشر محمد جبريل لي حوارا في صفحته بالمساء، أقول فيه: " أتمنى أن أكتب عن أعلام الإسكندرية من مغنيين وملحنين ولاعبي الكرة ". فيتصل بي لائما، لأنه فعل هذا قبلي، فقد كتب في روايته " أهل البحر " عن فنانين سكندريين قدامى قد لا يعرفهم الذين يسكنون خارج الإسكندرية: حمامة العطار وسيد حلال عليك والشيخ أمين وأحمد المسيري وكتب عن الرسام حسين بيكار ابن حي بحري وعن كُتاب الإسكندرية: عبد اللطيف النشار وعبد الله أبو رواش وعبد الله النديم وعن الغطاس المشهور كامل أبو السعادات الذي قُتل في سفينة الأبحاث الفرنسية بون باستير. هذا غير مشايخ الإسكندرية المشهورين، أصحاب الأضرحة هناك.
قلت له: لم أقرأ روايتك هذه.
فأرسلها لي مع قريب زوجته الذي يعيش في الإسكندرية.
وبحثت في " النت " عن مطرب الإسكندرية المتميز والمفضل لدي: عزت عوض الله، راغبا في الكتابة عنه، فوجدت مقالة لمحمد جبريل عنه، فقد قابله قبل أن يموت بسنوات قليلة، شكا له أساه، صوت لا تمل سماعه، يغني في إذاعة صوتها لا يصل لكفر الدوار.
بعد حوار محمد جبريل معه بعام أو أقل مات عزت عوض الله كمدا، وجدوه ملقي في شارع إيزيس، قريبا جدا من بيتي.
00
عمل محمد جبريل رئيسا للقسم الثقافي بجريدة المساء. وعادة ما يؤثر عمل مثل هذا على صاحبه؛ مما يجعله صاحب الحظوة والاهتمام لدي الكتاب والمثقفين وموظفي الثقافة، لكن جبريل هو الوحيد الذي لم يحظ بنتائج منصب مثل هذا، فهو لم ينضم إلى شلة، ولم يحركه في كتاباته وشهرته إلا قلمه وكتاباته وكتبه. لا يكتفي بقراءة القصص والروايات قراءة سريعة كما يفعل الكثيرين، وإنما يستخرج منها الأماكن، والأمثلة والمأثورات الشعبية. وهذه القراءة المتأنية تجعله يتعمق أكثر فيما يقرأه.
وكلما أعلنت وزارة الثقافة عن جوائزها أتساءل: أين محمد جبريل؟!
رغم أن مؤلفاته قد تجاوزت الخمسين كتابا. وانشغل الكثير من دارسي الماجستير والدكتوراة بكتبه ورواياته.
والرجل لا يهتم بهذا، كلما زرته في بيته؛ أجده جالسا وسط الصالة وحوله كتبه وورقه، فيقرأ ويكتب، يقول لي: إنني ياباني أعيش في مصر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – حلواني من أصل شامي، كان في ذلك الوقت من أشهر صناع الهريسة في الإسكندرية، وكان ينازعه في ذلك حلواني – آخر – من أصل شامي أيضا ، اسمه العصافيري بشارع محرم بك

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى