مجدي جعفر - المجموعة القصصية ( أحلام جائعة ) للكاتب رضا يونس. قراءة في الرؤية والتشكيل

هذه هي المجوعة القصصية الأولى للكاتب رضا يونس، والذي اصدر من قبل روايته الأولى أيضا ( هيت لك )، وتضم محموعته نماذج قصصية في غاية الثراء والتنوع، اقترب فيها من هموم الإنسان المصري والعربي المعاصر، ويمتح من الواقع المعيش، وانشغل فيها بالهموم العامة أكثر من انشغاله بالهموم الخاصة، هموم الوطن والأمة والإنسانية جمعاء، وكان للسياسة حضورها اللافت، وتلقي بظلالها على أجواء المجموعة.

ومقاربتي لهذه المجموعة هي مقاربة المتذوق، الممسوس بغواية هذا الفن المخاتل، والمراوغ الجميل، لا أتقيد باتجاه أدبي ما أو نظرية أدبية بعينها، ولكني أحاول الاقتراب الحميم من أفكار الكاتب ورؤاه، ورؤيته لمعالجة واقعه من الناحية الموضوعية ومن الناحية الفنية الجمالية.

( 1 )

= في قصة ( اللفافة ) استخدم الأسلوب الساخر، وكشف بلغة جد طريفة وساخرة الحال الذي وصل إليه المواطن العربي والأمة العربية.

مواطن مصري عربي يريد أن ينفلت من طبقته الوضيعة، ويصعد إلى الطبقة الأرستقراطية، وأهم ملكاته هي الفهلوة، ويتمتع بكل خصائص الإنتهازي المعاصر، وهذا المواطن يمثل هذا العصر خير تمثيل، فهو متعطل عن العمل، ويبحث في جريدة الأهرام في باب " وظائف خالية " عن وظيفة تناسب قدراته وملكاته، ومن خلال هذا المواطن، يكشف الكاتب ويعري الواقع العربي وما وصلت إليه حال الأمة العربية المزري سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعلميا، فهذا الفهلوي والانتهازي فاز بحثه الذي تقدم به إلى جامعة الدول العربية والمعنون باسم ( كيفية تطبيق سوق عربية مشتركة وعملة موحدة ) بالمركز الأول، ويُمني نفسه بالملايين التي ستنهمر عليه بسبب فوزه بهذا البحث، ويغادر طبقة الغوغاء والدهماء إلى طبقة الصفوة وعلية القوم، وهو الجدير بها.

يستهل الكاتب القصة بشخصية الإنتهازي الفهلوي الذي يقدم لنا نفسه بعد أن تصفح الوظائف الخالية بالأهرام:

( كل تلكم الوظائف لاتناسب قدراتي المعجزة، فانا خريج الجامعة الفنكوشية في السياسة والاقتصاد، أحمل ماجستير في إدارة الأزمات المالية، وآخر في تنمية الموارد وتعظيمها، أُتقن ثمان لغات حية ومثلها ميتة، أجيدها نطقا وصمتا وكتابة ... )، ويمنحه الكاتب المساحة الكافية، ليعبر عن نفسه وقدراته وملكاته ومواهبه، تاركا له الحبل على الغارب، ليعبر بحرية تامة، فهو يعزف على العود والتشيلو، والدرامز، ويقر بأنه طبال ماهر وماتع، يعزف على كل الموائد، ويجيد كل فنون الرقص، ومنها رقصته المفضلة ( عجين الفلاحة )، وهو يكتب القصة أيضا، وحباه الله بموهبة كتابة الشعر، وخاصة الشعر الذي يجتذب الفتيات، وتم اختياره كأعظم كاتب ساخر، ورشح غير مرة لنيل جائزة ( نوبل ) الموازية في غسل الأدمغة!.

وفي قاعة السلام بجامعة الدول العربية، اكتشف أن كل شيء موجه، حتى التصفيق هو الآخر كان موجها، فهو الفائز بأفضل بحث افتراضي في اللاشيء، وكان من شروط البحث أن يكون معجزا، ويستحيل تطبيقه، فكان الفوز الساحق لبحث هذا الفهلوي الذي كرمته جامعة الدول العربية : ( منحوني لقب سوبرمان النسخة العربية في الأنا، فأنا صاحب نظرية سريالية مفادها لاشيء مستحيل بالفهلوة ).

ويمنحونه لقب فارس السوق، ويمنحنونه جائزته في لفافة، ويلقي كلمة الفائزين :

( السيد الأمين العام والخاص، السادة الوزراء، الحضور الكريم، إنه لمن دواعي سروري أن أمثل شباب الاتحاد في مشروع نهضته، دعوني أشجب هؤلاء المثبطين المعوقين للحمائم بعد أن عوقوا الصقور من قبل )

( التصفيق يعانق الأسقف، احفظ أصداءه الاثنين والعشرين عن ظهر بطن )

السوق العربية المشتركة، والعملة الموحدة، حلم يراود المخلصين من أبناء هذه الأمة، ويرون أن تحقيقه ليس بالمستحيل، والذي يمنع تحقيقه هو غياب الإرادة السياسية لساسة ( 22 ) دولة الذي يجمع بينها أكثر بكثير مما يفرقها، ولكنها الاملاءات الخارجية، وعدم استقلال قرارتهم الوطنية والقومية.

الفهلوي الفائز ببحثه المعجز، والذي يستحيل تطبيقه، يشجب ويدين المثبطين المعوقين لهؤلاء الحمائم، فهو يمثل شباب الاتحاد في مشروع نهضته!.

= وفي قصة ( نصف الكوب الفارغ ) قد يتصور القارئ من البداية، بأن الكاتب سينظر إلى نصف الكوب الفارغ، ونظرته ستكون قاتمة وسوداوية، فنصف الكوب الفارغ في الوعي الجمعي تعني النظرة الأحادية والمرتبطة بالجوانب السلبية والمعتمة، والكاتب يفاجئ قارئه بالنظر إلى نصف الكوب الممتلئ، حيث كل شيء جميل والحياة وردية.

وفي مشهدين متباعدين تماما، تباعد الحلم والواقع، قدم في الأول حلمه الخاص وحلمه للوطن وللأمة، وكأن المشهد اقتطع من الجنه، وفي المشهد الآخر يقدم همومه وآزماته وهموم وآزمات الوطن والأمة، وكأنه مشهد من مشاهد جهنم.

وبتغيير عدسات النظارة / أداة الرؤية، تغيرت النظرة مائة وثمانون درجة، وأصبح وكأنه يعيش في المدينة الفاضلة، فيستيقظ على زقزقة العصافير، والراديو لا يبث إلا الأغاني الرومانسية الجميلة، وزوجته تحمل له في فراشه صينية يعلوها طبق الكيك بالشكولاتة وكوب الشاي بالياسمين، ويطبع بقبلة على جبينها قبل مغادرته للمنزل، وتحول الشارع إلى سيمفونية من شدو العصافير، وحفيف الشجر، ونساء الحارة يرتدين الملابس المبهجة، ولا تفارق الابتسامة شفاههن، والرجال يتصافحون بحرارة، وكل من يلقاه يصافحه، ويضغط على كفه بحميمية، ونداءات الباعة الجميلة على بضاعتهم و .. و ..

ومن أحلامه الجميلة لمصر وللأمة العربية في هذا المشهد :

( زلزال بقوة 9 ريختر يضرب السد " يقصد الكاتب سد الأحباش "، مصر أول دولة تصل إلى كوكب الزهرة عبر سفينة الفضاء خوفو 3، رصد ميزانية ضخمة للتعليم والبحث العلمي تتجاوز 20بالمائة، الاحتفاء بتحقيق الاكتفاء الذاتي في محصول القمح، وهامش كبير للتصدير، شقة لكل حرفوش بدون مقدم، عالمان مصريان من معهد البحوث يفوزان بجائزة نوبل في الطاقة البديلة، الجنيه المصري يعود إلى قيمته قبل خمسينيات القرن الماضي، خروج آخر صهيوني من فلسطين .. الأسد يتنازل سلميا للحكومة المنتخبة .... ).

ولكن عدسات النظارة تتهشم في مشاركته لأطفال الحارة في مبارة لكرة القدم، فتتحول الرؤية، وتتغير، وكأنه يستيقظ من الحلم الجميل على واقع قاس جهم، نكد وضنين :

( أثيوبيا تبدأ الملء السادس .. مصر تنوع مصادر استيراد التوك توك .. إلغاء مجانية التعليم .. روسيا ترفض تصدير القمح إلى مصر .. كومباوند لكل مواطن بمقدم مليون جنيه .. هروب عالمين من علماء الذرة إلى أمريكا .. الدولار يكسر حاجز الخمسين جنيها .. إسرائيل تنقل عاصمتها إلى القدس باعتراف جامعة الدول العربية ..2 بالمائة لا ينتخبون بشار .. ).

ويعود إلى بيته بعد إهانته ولكمه وركله في مباراة كرة القدم، التي تحولت إلى عراك، ليجد زوجته مربدة الوجه، تتجهم في وجهه، وتسبه، وتلعن أحلامه المبتورة، وتلقي إليه بطبق العدس والقليل من المخلل ونصف كوب من ماء المجاري المعالج!.

وقصص كثيرة في هذه المجموعة تشير إلى إسرائيل، وإلى من وراء إسرائيل، التي تعمل سرا وجهرا، في تدمير هذه الأمة، ومسخها.

= في قصة ( حارس المبولة ) يُبرز الكاتب معاناة أهلنا في فلسطين من أفعال الغاصب المحتل المزرية، ويشير إلى عملية ( حارس الأسوار ) التي دمرت إسرائيل فيها مشروع مترو الأنفاق في غزة، واستهدفت الأبراج الشاهقة، ودمرت المئات منها بالطائرات والصواريخ، فصارت الأنفاق قبورا، ويبين الكاتب كيف وصلت إسرائيل إلى السيطرة على مصر، وأحكمت قبضتها عليها، حتى المبولة التي في محطة القطار المتحكم فيها وفي إدارتها الإسرائيليين!!.

= وتأتي قصة ( آمال حبلى ) لتكشف أكثر عن بشاعة هذا الاحتلال الصهيوني، ويبدأ الكاتب قصته بالإشارة إلى إسرائيل رمزا :

( أزيز ال" إف 16 " يقترب .. يُحومُ سرب من ست طائرات على شكل دائرة واسعة تضيق حتى تشكل نجمة سداسية تقترع على إحدى البنايات )

ولايعرف أهالينا أي البنايات سيتم تدميرها، يستعرضون بطائراتهم قوتهم، ويبثون الرعب في القلوب، حتى يتم اختيار إحدى البنايات، وفي لمح البصر تتهاوى، و .. ( تبدو الأشلاء متناثرة، هذه قدم صغيرة مبتورة لطفل في الخامسة، وتلك ذراع لزهرة في السابعة مرسوم على ظهر كفها وشم حمامة، أما هذه فرأس إمرأة عيناها شاخصتان لأعلى، يحاول الجيران جمع الأشلاء المتناسقة ).

وهذه الأسرة كما يقول أحد الجيران باكيا :

( فرت من الشمال إلى أحد أقربائهم وسط المدينة حيث نصف الأمان، فإذا بالموت يلاقيهم، أُبيد سكان البناية دون ناج ).

ويسمعون صوت استغاثة تحت الأنقاض، يهمون لإغاثة صاحبه، كانت ( آمال ) سيدة في العقد الثالث تنزف من رحمها .. ( يبدو بطنها المنتفخ خصبا، أصابتها شظية وأدت غدها، لكنها منحت الأرض بذرة ترضعُ شهقة الطين ).

وهذا العدو، نجح من بعد معاهدة ( كامب ديفيد ) المشئومة في تدجين هذه الأمة، ومسخها.

= في قصة ( من يشتري الوطن؟! ) يكشف الكاتب عن هرولة الدول العربية نحو التطبيع، وآثار هذا التطبيع على الشخصية العربية، ويبدو أن الشيخ الهرم العجوز، يحاول أن يطلق صرخة تحذير، ويحاول أن يوقظ شبابنا من غفوته، بعد أن غزته الثقافة العبرية، فلغته أصبحت نصف عربية ونصف عبرية، وأصبحت من أحلامه أن يزور تل أبيب، ويعيش فيها، فالعجوز الذي يصيح فيهم ولا مجيب : ( بعضهم يغلق آذانه بسماعة أذن تتصل بالأندرويد وبعضهم بالآي فون، يتمايلون مع نشيد القطيع )

ويقترب العجوز من أحد هؤلاء المعزولين في سيارتهم الفارهة عن هواء وطنه، يعرض عليه بيع الوطن :

( يضع سماعة الأذن، يهز رأسه مُتبعها بحركات دائرية بكتفيه، يدندن مع " نبر وان " وهو يتلوى بأغنية التّتبيع " هافانا با جيلا " بلحنها المُسكر للوعي ).

العجوز يصرخ : تشتري الوطن يا أستاذ؟!

( يمتعض صاحب " الفيراري "، يبتسم بلكنة غير محلية " شالوم .. شالوم " )

ومن المآسي أيضا :

( فتاة يافعة ترافق ثلاثة من أترابها، يرتدين النصف من كل نصف، يرطن بلغة " عبر – بية " .. خدني زيارة لتل أبيب / أرجوك يا لنشمي اللبيب .. أنا بدوي ونهجي رهيب ... إلى آخر الأغنية )

هل نجح العدو في القضاء على الثقافة العربية والأخلاق العربية؟.

= ومن الهموم الوطنية والهموم القومية، يأخذنا الكاتب إلى الهموم العالمية، في قصة من أجمل قصص المجموعة، وهي قصة ( ميتا فيرس ) يتعالق فيها الفكر الصهيوني مع الأفكار الشاذة للماسونية العالمية لتدمير الإنسانية وأفكار الشواذ والمثليين ومنتظرو الدجال، والذين يتخذون بوذا إلها أعظم!!

وكاتب هذه القصة صاحب خيال خصب، لا يحلق بخياله في فضاء عشوائي عبثي، ولكنه يتكأ على ثقافة واسعة، وينطلق من أرض الواقع، ويحلق بعيدا، كاشفا عن مخططات لضرب الأفكار والمتعتقدات والأديان السماوية في مقتل، ومحاولة إنتاج الإنسان البديل، والدين البديل، وفي سبيل بلوغ هذا الهدف، يتم استخدام العلم والتقدم السريع والمذهل في الأبحاث العلمية والتكنولوجيات الجديدة، وخاصة الكمبيوتر والإنترنت والفضاء الألكتروني كثمرة من ثمرات العلم الحديث، إذن الكاتب يتكأ أيضا على العلم مع التحليق بالخيال، لتصور المستقبل بإنسان جديد، وأفكار ومعتقدات جديدة، فالإنسان سيكون له مواصفات جسدية وعقلية ونفسية تختلف عن المواصفات الجسدية والعقلية والنفسية للإنسان منذ بدء الخليقة.

وهذا الإنسان الجديد يتم انتاجة في معامل البحث العلمي بإحدى المقاطعات بالصين، مستخدمين الكمبيوتر، وحقن وأمصال وسوائل تغير من طبيعته وفطرته، فما عادت العين هي العين ولا الأذن هي الأذن، وتتغير الحركة، والأفكار والقناعات، فالمهام المكلف بها اختلفت، ورسالته في هذا الكون اختلفت أيضا.

وأما عن العنوان ( ميتا فيرس ) فالميتا تعني الماوراء أو الما بعد، والفيرس تعني الكون أو العالم، والمقصود ما بعد الواقع، والميتا فيرس هي أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا في عالم الويب وشبكة الإنترنت، وتقوم فكرة ( الميتا فيرس ) على تداخل أنواع معقدة من تكنولوجيا الواقع الافتراضي والواقع المعزز والخليط ليتشكل في النهاية ما يُعرف بالواقع الممتد، والكاتب بخياله الخصب، يأخذنا إلى هذه التكنولوجيا الجديدة والمتطورة، وينطلق الكاتب من الواقع الحقيقي، ويبين كيف يمكن من خلال ( الميتا فيرس )، أن يقوم أصحاب الأفكار الشاذة والمنحرفة، في استثمارها وتوظيفها لتحقيق أهدافهم الشيطانية حيث يتم التلاعب في جينات البشر، وإعادة تشكيل الإنسان وإنتاجه من جديد، ويمكن استخدامها أيضا في القضاء على أعراق بعينها، وإيثار جنس على آخر، والقضاء على القطيع، والجانب المظلم لهذه التقنية هو ما يحاول أن يكشف عنه الكاتب، متسلحا بثقافة علمية وسياسية ودينية وتاريخية وخيال خصب مُحلق.

ويستهل الكاتب قصته بوصف دقيق لمكان البعث الجديد، فبعد رقاد طويل يتم بعثه من جديد :

( مسرح روماني قديم، يتوسطه ساحة مصارعة، يحيط بها مدرجات ذات مصاطب تشبه أحجار الهرم الكبير، خلفية المسرح ذات تفاصيل متزاحمة، يعلوها عين جائعة بنصف وجه بشري يبدو ساخرا، يتدلى من فيه لسان ذو شعبتين، في مقدمة المسرح منصة يتوسطها رجل قصير ذو عينين ضيقتين ) .. ويشير الكاتب في لوحته أيضأ إلى الألوان السباعية، واتخاذ المثليين ألوان ( قوس قزح ) شعارا ورمزا وعلما لهم وإشارات إلى بوذا والمسيخ الدجال وإلى هؤلاء الشياطين المنتظرين خروجه ليتبعوه.

وهؤلاء الذين يصوغون البشر والعالم صياغة جديدة، الزمن لديهم لم يعد هو الزمن السابق، فألغوا التقاويم القديمة، والتقويم الجديد ( قوس قزحي ) يسمى بتقويم ( الميتا فيرس )، والرجال في العالم الجديد أقوياء البنية بوجوه ممسوخة، منهم من يشبه القرود الاستوائية ذات الحوافر المعقوفة، ومنهم من يشبه الخنازير القطبية ذات الأنياب المدببة المسننة، ويظهر البشر كأشعة الليزر، مجسمة على هيئة بشر افتراضي كامل الأعضاء.

ويجرون تجاربهم على بعض البشر، الذين يتم اختيارهم، ليكونوا مبشرين بأفكارهم، ومؤمنين بها، وهم يجرون تجاربهم منذ زمن زمن بعيد، ومن نتاج تجاربهم الأولى مُنكي ( القرد المدلل ) ونيكي ( الملاك الصغير ) وهذان من جيل الطلائع والمبشرين بالإنسان الجديد والدين الجديد،

ويأخذنا الكاتب إلى تجربتهما المعملية الحية، والتي نستشفها من خلال حوارهما :

( يالهؤلاء! أتذكر يوم حقنوا جيناتي بهذا السائل الوردي، وجمدوني في ذلك الأنبوب، ثم نقلوني إلى مختبر كوفي بأحد المقاطعات الصينية، وألقوني داخل كومة من الثلج )

قالوا : ( في الذكرى المائة سنحصل من هذه الخلايا على جين آخر، ثم نُخرج بعدها الوحش من الكهف )

ويقدم لنا تجربتهما لاستنساخ وإعادة خلق وتشكيل إنسان بالمواصفات الجديدة، باستخدام ( الميتا فيرس ) :

يقول البشري الشرق أوسطي الذي تم اختياره للتجربة :

( ضغطا بقوة على عجب الذنب أسفل مؤخرتي، فأفرز سائلا دافئا، شعرت بإنسيابه في شراييني )

وبعد التجارب العلمية والمعملية مع هذا الشرق أوسطي، يبدأ منكي ونيكي في اختباره لبيان مدى صلاحيته للقيام بالمهمة الجديدة من عدمها.

وأسئلتهما له، تذكرنا بأسئلة الملكين ( منكر ونكير ) للموتى في القبر، من ربك؟ وما دينك؟ وماهذا الرجل الذي بُعث فيكم؟

يسألان نفس الأسئلة تقريبا ليختبرا الشخص بعد التجربة، وهل ينجح أم يفشل؟.

السؤال الأول : هل تذكر اسمك قبل أن يأتوا بك إلى هنا؟.

-لا أذكر شيئا.

- حسنا .. اسمك الآن ( أر . ميتا 1 ).

السؤال الثاني : من ربك؟.

-وهل هناك رب غير خالق البشر؟.

- البشر! .. وهل أنا بشري؟.

- لا أدري.

( بعد تلعثم ومحاولات جاهدة لنطق أول ثلاثة حروف متقطعات " ال ل .. " يقطع لعثمتي موجه شلالية تنساب داخل شراييني، يتبعها ارتعاشة لا تتوقف، فأسمع صوتي بلا لساني :

-ربي بوذا.

السؤال الثالث : ما دينك؟.

-بالتأكيد هو دين السماء.

تزمجر الشريحة غاضبة، فيفور السائل الحارق، ليغرق دواخلي، حتى يصل إلى رأسي، فينطق ذاك اللسان :

-أنا وثني لا دين في ذاكرتي ..

السؤال : ماذا تقول في الرجل الذي بُعث فيك؟.

-أو ليس هو من أولي العزم؟.

لايسمع دقات قلبه، وقلبه صُهر وأُعيد تشكيل وعيه ممزوجا بهذا السائل.

-يبدو أن الذي خلق علقتك كان غبيا للدرجة التي تتباطأ فيها عن الإجابة عن سؤال بهذه السذاجة.

-نعم .. نعم – الرجل الذي بُعث في ّ هو ذاك المسخ الذي يقبع في الدرك.

-الإجابة ناقصة! ما اسمه؟.

- اسمه الم .. المس ..لا أتذكر سوى أنه دجال يسكن أعماق المثلث، لديه القدرة على تغييب الإدراك، فيتبعه الهالكون الملعونون.

( أسمع صوت خاتم يدمغ صحيفتي التي بين أيديهما، ومن ثم يرددان في صوت واحد :

-ناجح وتم اعتمادك عبدا للرب الجديد.

هذا ما يريدونه للإنسانية، وفي سبيل بلوغ أهدافهم يتوسلون بكل الوسائل، ومن خلال ( الميتافيرس ) والإمكانيات العلمية الجبارة اختصروا الزمن، واصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى أهدافهم الشيطانية.

( 2 )

يجيد الكاتب التقاطه لأشخاصه، وخاصة المهمشين.

= في قصة ( معدة لقيطة ) : طفل من أطفال الشوارع، لم ينم ليلته، فالجوع يقرص أحشاءه، والجوع أفعى، فيلمح هذا الطفل الذي يتلوى جوعا، عصبة تجمعت في هذا الوقت الباكر على شرف مائدة الميسر، يقترب الطفل من أحدهم توسم فيه الزعامة، يطلب منه جنيها ليشتري ما يسد رمقه، ويلح الطفل الجائع في طلبه، فينهره، ويدفعه بقبضة يده، ويسقطه أرضا، فإلحاح الطفل أفقده تركيزه وخسر، وهو الذي لم يخسر أبدا، والمعروف بأنه اسطورة ( الدومينو )، وما كان له أن يخسر إلا بسبب خارجي، وكان هذا الطفل هو السبب، وهذا الأسطورة الذي حمله خسارته، يبصق عليه بصقة بدينة وهو خارج بعد أن دفع أثمان الطلبات والمشروبات وسط تهكمات أصحابه، والقصة لو انتهت عند هذا الحد، فهي قصة جيدة، لامست داخل هذا الاسطورة وتماست مع أطفال الشوارع الجوعى، وأنارت جوانب كثيرة من الواقع المعاش، ولكن الكاتب زادها ثراء وعمقا، عندما جعل هذا الطفل الجائع يقاوم الذل والانكسار والمهانة النفسية، بالخيال والحلم، فإذا كان الكاتب تعامل في الجزء الأول من القصة مع معدة الصبي الجوعى، والامتهان الجسدي، فإنه يتعامل معه في جزئها الثاني مع انكسارات نفسه وشروخات روحه، التي أحدثها هذا الأسطورة، وكيف يرتقها الصبي، ويحاول القيام والاستواء؟.

بعد مغادرة الأسطورة وشلته للمقهى، ينهض الصبي، وعلى الكرسي المواجه للكرسي الذي كان يجلس عليه الأسطورة، يجلس ويرص مربعات ( الدومينو ) بسرعة :

( .. ناظرا للفراغ، يقلد صوت الشرير ذي الطبقات الخشنة :

-يلاّ وريني نفسك، هديلك فرصة للإنتقام.

ينظر إلى الفراغ بحنق ثم يقول :

-ابدأ انت اللعب وريني شطارتك.

-إنت متعرفش إن أنا أسطورة الدومينو ..

ساخرا منه :

-إنت لسه شايل الليله من شويه!.

يتطاير من عينيه بعض شرر من بركان الهزيمة.

-تتراهن؟.

-أتراهن.

-على إيه؟.

-جنيه.

-موافق جنيه وساندوتش كمان، بس بشرط لو كسبتك وده شيء مفروغ منه تمسح جزمتي بقميصك.

قميص! أي قميص؟.

ربما كان الوريث الثالث في رحلة هذا القميص ذي النوافذ العشوائية.

-موافق ( قالها ).)

يحتدم اللعب، بسرعة خاطفة يتبادل الصبي الأماكن، وتنتهي المباراة بفوزه على الأسطورة :

( يمنحه جنيها عائما، ثم بانكسار يضرب يدا بيد ثلاث مرات مستدعيا النادل :

-هات له يا ابني سندوتش حوواشي.)

( يرفع الصبي رأسه، يعانق النصر، تستطيل رقبته )

ولكن الحلم الجميل يتم اجهاضه :

( يفيق على صوت طرقعة تقتحم أذنه قبل جلده السميك، يعلو صداها فتصطدم بجدران الواقع )

= وفي قصة ( نشيد القطيع ) يعزف على وجع العمال في بلادنا، الذين يتم تشريدهم وقطع أرزاقهم، دون حماية قانونية لحقوقهم المهدرة والمسلوبة.

فصاحب المصنع الجديد أبلغ الشرطة عن أحد العمال، واتهمه بأنه يقوم بإثارة العمال، وتهيجهم ضد إدارة المصنع، وكل جريرة هذا العامل أنه اعترض على تسريح عشرات العمال، وإحالتهم إلى التقاعد، فيما يُعرف بإسم المعاش المبكر، بحجة واهية، انهم يقومون بصيانة الآلات وتغيير الزيوت لها، وهذه الحجة الواهية لم تقنع هذا العامل، الذي أمضى حياته في العمل في هذا المصنع، وكان نموذجا للعامل المنضبط، وفاز بلقب العامل المثالي أكثر من عشر مرات، وأخذت الشرطه عليه تعهدا بعدم التعرض للعمال ولا لإدارة المصنع، وتم الإفراج عنه، ليخبروه بأن مكافأة نهاية خدمته عشرة آلاف جنيها، وسيصرفها على ثلاث دفعات، فاسودت الدنيا في وجهه :

( تنتظره أفواه لم تذق لحما طريا منذ شهور، وجيش من الديّانة يشحذون إيصالات الأمانة المتأخرة، والفواتير مؤجلة الدفع، ... )

تولدت في رأسه، لا يدري كيف؟ .. فكرة مجنونة تفتقت عنها قريحته، فليذهب إلى الميدان :

( هناك ستلتقطه العدسات في مباراة للسبق، ووجبة دسمة تُعبئ بها فراغها ).

ويغرق بدنه المتهالك بالبنزين، ويمضي إلى الميدان، هل سيفعلها كما فعلها بو عزيزي؟ .. أم سيكتفي بعرض قضيته على الشاشات، ويحولها إلى قضية رأي عام؟.

أسئلة كثيرة تراود القارئ، ولكن الكاتب يذهب بقصته إلى مسار آخر، فعند المطب الذي يبعد خطوات قليلة عن الميدان، لاحت له سيدة في منتصف العمر، تجلس على كرسي متحرك عند المطب، وتمد يدها لأصحاب السيارات الفارهة التي تُهدأ من سرعتها عنده :

( لله يا محسنين، حسنة قليله تمنع بلاوي كتيره، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ).

يتعاطف معها، يشفق عليها، يضع يده في جيبه، يخرج آخر جنيه به، اقترب منها، ظنته مخبرا، قفزت واقفة، واسلمت قدميها للريح، واختفت عن المشهد في غمضة عين، فغر فاه دهشة، لاح له الكرسي كأنه يناديه :

( اقترب من الكرسي الذي يمد ذراعيه مرحبا بصاحب العرش، يسلم ظهره لربه الجديد، متكئا ترتسم على ملامحه تجاعيد المساكين، ينكسر، ينظر إلى الأرض، يضع ذقنه بين ركبتيه شاردا، يمد يمينه بانتكاسة، يردد نشيد القطيع :

-لله يا محسنين ، حسنه قليله تمنع بلاوي كتيره .. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ).

= وفي قصة ( ثلاثة أصفار ) يقدم لنا معاناة أحد الذين يمتهنون مهنة التدريس، ويحلم بشقة وهو في خريف العمر، ويضطر للاقتراض من البنك بفائدة كبيرة، فإن ما سيسدده للبنك شهريا سيلتهم أكثر من ثلاثة أرباع راتبه، ويُعد مع زوجته وأولاده خطة تقشف لمدة خمس سنوات هي مدة القرض، حلم الحصول على شقة ولو على مساحة ( 60 ) متر مربع، تجعلهم يربطون على بطنوهم، ويشدون الحزام، لو اضطروا للصوم على مدى مدة الخمس سنوات، فالقرض سيأتي على حساب المأكل والملبس، لن يعطي الأولاد دروسا خصوصية، سيذاكر لهم كل المواد، سيوقف تشغيل الغسالة توفيرا للطاقة وسيساعد زوجته الغسيل يدويا، ولمبة واحدة تكفي للإضاءة، و .. و ...، وكانت أحلامه في طفولته أن يملك شقة على المتوسط بمدينة الإسكندرية، هل يتحقق حلم الصبا، ويعيش على البحر، لا يفصله عن أوربا غير عرض البحر؟.

ويقابل الكاتب، مشهد معاناة المدرس، وحلمه في أن يتملك شقة ولو غرفة واحدة، بمشهد آخر على النقيض من المشهد الأول تماما، ويترك القارئ ليقارب بين المشهدين، والمشهد الثاني تدور أحداثه في كومباوند، مطلا على البحر مباشرة، وفي مواجهة اليونان، وهذه السكنى كانت من أحلام هذا المدرس.

( -أنت تعرف مساحة الشقة دي كام؟

كم يا ترى؟ لعلها مائة متر أو أزيد قليلا!.

-مساحتها يا استاذ ( 1200 ) متر مربع، وفيها ( 7 ) غرف، و ( 4 ) حمامات، مساحة الحمام الواحد ( 60 ) متر مربع، و ( 3 ) صالات كبيرة منها واحدة للألعاب الرياضية مزودة بساونا و (2) مطبخ واحد مصري والثاني أمريكي، وحمام سباحة داخلي، وقاعة اجتماعات، وصالة طعام أمريكي ب ( 24 ) كرسي، وتبع الشقة مطار هليكوبتر خاص فوق سطح البرج .... )

هل القارئ بحاجة بعد ذلك لأن يدرك التفاوت الطبقي الرهيب؟ .. وكيف يؤدي المدرس مهام وظيفته في ظل راتبه الهزيل ومعاناته اللامحدودة؟.

القصة تفتح الباب على مصراعيه لفتح باب ملف التعليم، ولعل إهمال الدولة للمعلم وعدم توفير الحياة الكريمة له، من أسباب إنهيار التعليم في مصر، وتشير القصة إلى غياب العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

= وقصة ( المسافة صفر ) التي استهل بها الكاتب مجموعته القصصية، تكشف الكثير من أفكاره ورؤاه.

المسافات بين البشر قد تقترب وقد تتباعد، وتقاربها وتباعدها يظل مرهونا بالمشترك من عادات وتقاليد وأعراف ولغة ودين وجنس وأفكار ورؤى وأيدولوجيات .. إلخ.

فالمسافة مثلا بين الديني واللاديني بعيدة بُعد المشرق عن المغرب، والمسافة بين الإشتراكي والرأسمالي بعيدة، والمسافة تكون أقل طولا بين أبناء اللون الواحد أو الدين الواحد أو اللغة الواحدة .. ولكنها تظل موجودة حتى داخل أبناء الوطن الواحد، وتجاوز المسافات بين الأفراد أو الدول قد يجلب المشاكل، وتنشب النزاعات.

والكاتب رضا يونس حاول أن يختزل هذه المسافة، ويصل بها إلى حد الصفر، وحينما تتلاشى المسافة بين الطبقتين مثلا وتصل إلى الصفر، يحتدم الصراع، فالطبقة الراقية معزولة عن طبقة الدهماء والغوغاء والرعاع، فالفتاة التي تأخرت عن الحافلة التي تقلها إلى العمل، فاضطرت أن تستقل " المترو "، وهي المرة الأولى التي تستخدم فيها هذه المواصلة، فتصطدم عيناها بموجات بشرية، تتدافع بلا نظام، وهي لا تعرف كيف تتعامل مع هذه الوسيلة، فتحاول أن تفعل كما يفعل هؤلاء الذين يمررون التذكرة بدربة، وتقلدهم في إمرار التذكرة، وتتعرض لبعض المضايقات والتحرشات، وتصعد إلى العربة المكتظة بالركاب، فتضطر للوقوف، ومحاطة بالأيدي والنظرات غير البريئة.

وزمن القصة الخارجي هو زمن محطتين – أي بضع دقائق، ولكن الزمن الداخلي مر على الفتاة كدهر.

في العربة الأولى يُبرز الكاتب سلوكيات هؤلاء الغوغاء، وتحرشهم بهذه الفتاة الجميلة بنت الطبقة الراقية، ولولا توقف القطار، وخشية هؤلاء من الكاميرات التي تكشف كل صغيرة وكبيرة لقام هؤلاء الأوغاد باغتصابها، وتستغل توقف القطار بالمحطة، وخوفهم من الكاميرات بالابتعاد عنها، وتهبط من العربة مع الهابطين، وتصعد إلى العربة الثانية والتي كانت مخصصة للسيدات فقط، فتتعاطف معها إمرأة أربعينية منتقبة، وهي ترى آثار محاولات هؤلاء على تضاريس جسمها وعلى ملابسها، فتجلسها إلى جانبها، وتربت عليها بحنان، وترتمي الفتاة في حضنها، وتجهش بالبكاء، وتمتد يد هذه المرأة إلى صدرها، فتجفل الفتاة، وتشعر بيدها تنتقل بسرعة، وبمهارة ودربة لتتحسس مابين فخذيها، فتنهض فزعة، وتكاد الصدمة أن تشلها.

تناول الكاتب القصة في مشهدين تصوريين رائعين.

( 3 )

= هل ما سردته الدكتورة في قصة ( أحلام جائعة ) من أحلام اليقظة أم من أحلام النوم؟.

سواء كانت أحلام يقظة أو أحلام نوم، فهي أحلام مشروعة، ومن لا يتمنى أن يعيش هذه القصة الرومانسية الجميلة.

إن الواقع الجهم الذي نعيشه، يجعلنا ننشد الحنين بين ألفينة والأخرى إلى زمن الرومانسية، التي نفتقدها، وننشد المدينة الفاضلة، والحياة المُثلى.

القصة مركبة من قصتين، قصة الواقع الذي تعيشه الدكتورة مع زوجها، وقصة الحب الجميلة بين مريضة اجرت لها عملية الزائدة الدودية وزوجها المُحب العاشق، والتي تبادله الحب بحب، والعشق بعشق.

وهذه القصة الرومانسية التي منحتها الدكتورة الفضاء الأكبر، كشفت عن واقع الزوجين وأزماتهما في منتصف الطريق.

والكاتب واعيا تماما للتغيرات السيكولوجية التي تصاحب المرء رجلا كان أو إمرأة عند كل مرحلة عمرية، فرصد في قصصه أحوال المرأة وتغيراتها النفسية في مراحل عمرها المختلفة، والمرأة الثلاثينية عند الكاتب هي الأكثر نضجا جسديا ونفسيا، وهي أجمل فترات عمرها.

وتناول الرجل أيضا في مراحل عمره المختلفة.

= في قصة ( باريسية ) يتناول أزمة الرجل الخمسيني، ويرصد بمهارة التغيرات الجسدية للرجل الخمسيني، والتغيرات النفسية والسلوكية المصاحبة لها، فيصفه من الخارج :

( كرش خمسيني بانبعاج خمسيني أعلى جلد فقد قدرته على الشد، تجاعيد خمسينية، نظارة قعر كوباية خمسينية، عرجة خمسينية، ... )

وهذه بعص المواصفات التي حددها للرجل الخمسيني، وهذه التغيرات قد أزمت بطل النص والذي يعمل كمعلم للغة العربية نفسيا :

( ها قد جهزت أكفاني والخيوط، لم يتبق سوى الاستقرار على حفرة تليق بعقودي الخمسة ... )

وهذا الخمسيني الذي يتجهز للرحيل، يتحول مائة وثمانون درجة، ويعود إلى زمن المراهقة والشباب الأول، فجاءه هاتف أنثوي من قاصة تنوي أن تشترك بقصة لها في مسابقة كبرى، وتريد منه أن يساعدها في تدقيق القصة لغويا وتصويبها نحويا وإملائيا، وفور أن طالع صورتها على ( الفيس بوك ) هام بها وجدا، وتعلق بها، فهي تشبه الفرنسيات.

وعندما فازت قصتها بالمركز الأول، تضرب له موعدا، وتدعوه للغذاء، بعد أن رفض أن يتقاضى أجره على تدقيق القصة.

وينتظر اللقاء على أحر من الجمر، والوقت يمر ثقيلا وبطيئا، وانظر إلى التحولات النفسية والسلوكية والتي تقابل سلوكيات وتصرفات المراهق :

( أقف أمام مرآتي .. من جديد أشفط محيطي غير الهادئ، اشتريت مزيل الهالات ومُذيب التجاعيد، صبغت شعيراتي بحنة سوداء، استبدلت نظارتي بأخرى ذات عدسات رشيقة، امتنعت عن تناول عشاء الأمس وفطور اليوم، تمرنت جيدا على شفط الكرش للداخل، ما علىّ سوى ارتداء قميص واسع حتى أخفي جيوب المقاومة والثنايا الجانبية )

= وفي قصة ( وظيفة أربعينية ) يرصد أزمة الرجل عندما يُحال إلى سن التقاعد، وأزمة المرأة الأربعينية وأزمتها أيضا عندما تُحال هي الأخرى إلى سن التقاعد، فالرجل الذي أحيل إلى سن التقاعد أحال حياة البيت إلى جحيم، بتدخلاته في كل صغيرة وكبيرة، وانتقاداته الدائمة واللاذعة لكل تصرفات من بالبيت، حتى ضاق به الأولاد ذرعا وضاقت به الزوجة، ولعنوا اليوم الذي أحيل فيه إلى التقاعد، وكأنها تؤكد على المثل الشعبي ( جنازة بطار ولا قعدة الرجل في الدار! )، ويقابل هذا الرجل أرملة أربعينية، يشكو لها، وتشكو له، وتعده بوظيفة، ويتزوجها سرا، وكانت زوجته وأولاده سعداء بهذه الوظيفة، فهم سيرتاحون منه ومن تدخلاته ثمان ساعات على الأقل يوميا، وسيعود مرهقا ومتعبا وسينام مبكرا، وعاد الهدوء للبيت، وزوجته زادت كرما له، فتبالغ في اطعامه، ودائما تحفزه وتصفه بأنه لم يزل شابا، وقادرا على العمل، فأخشى ما تخشاه أن يترك العمل، وكم تتنامى سعادتها عندما يخبرها بأنه سيبيت الليلة في العمل، وعاش الرجل مع الأربعينية حياته طولا وعرضا، وتدور بهما الأيام، والأيام دول، فتصل الأربعينية إلى سن التقاعد، وبعد التقاعد تضيق ذرعا به وتتأفف منه، وتنتقده باستمرار، فيترك لها البيت، ويبدأ من جديد في البحث عن وظيفة أربعينية!.

وينتقد الكاتب المجتمع التقليدي المحافظ، حتى في الفنون، وتضييق الخناق من الأجيال السابقة على الأجيال اللاحقة، وعدم منحهم الفرصة للتغريد والخروج من عباءة الآباء.

= ففي قصة ( اغتيال طبلة ) يمنحون أحد العازفين الفرصة، لثوان :

( أوشك العرض على النهاية .. هاهي اللقطة الأخيرة، اختبار ذي الدماء الشابة، ليته يحدث المفاجأة، فيضيف حداثة بلون عصري، لعله يحدث ثورة في الإيقاع وإقناع الجمهور القانع أساسا )

ولكن للأسف كل شيء بات موجها، حتى جمهور الفن، تم توجيهه على مدى سنوات :

( يبدو أن خيال ( ر . ي ) تخطى الرقاب للحظة، فسقط الدرامز من بين يديه، حاول استعادته مرة أخرى، تجمدت عروقه ..

كانت المرة الأولى التي تحيط أنامله المرتعشة بآلة موسيقية موجهة، لم يُحسن مداعبتها فضربت اللحن المتناغم في مقتل )

حتى الآلة الموسيقية تم توجيهها، وألقى الجمهور الثائر بالبيض الفاسد في وجه الفرقة، ولم يهدأ هذ الجمهور الذي تم للأسف برمجته وتوجيهه إلا بعد الإعلان عن وضع ( ر . ي ) على القائمة السوداء للطبالين.

( 4 )

إذا كان من المهم النظر إلى القصص في سياقها الزماني والمكاني، لأنها تحمل رسالة الكاتب إلى قارئه، في زمن معين وبيئة معينة، ونحن القراء من معاصري الكاتب، فيتوجه بخطابه لنا، فنرجو نكون قد أشرنا إلى بعض من أفكاره ورؤاه ورسائله التي الصريحة والخفية المبثوثة في قصصه، بقى أن نشير هنا في عجالة إلى بعض الملامح الفنية، وبعض من جماليات القص عند الكاتب، وقد نكتفي بكتابة بعض العناوين لبعض التقنيات، آملين أن يعود القارئ إلى النصوص، ليكتشف بنفسه مدى قرب الكاتب أو بعده عن هذه الخصيصة أو التقنية الجمالية، وأرى أن بعضها حيل فنية وتشكيلات جمالية من الكاتب، أثرى بها بفنية واثبة تجاربه القصصية.

وقد استخدم الكاتب في قصصه :

1 – الرمز :

= الرمز الإيحائي :
وهو أن يوحي لك الكاتب بما يريد أن يقوله، وهذا هو الرمز البسيط، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر :

أ – النجمة السداسية والتي ترمز إلى دولة الاحتلال.

ب – تمثال الحمامة في قصة ( اللفافة )، وإذا كان السلام رمز السلام، فإن الحمامة التي تبدي كرشها، الذي يخفي جناحيها غير المتناسقتين، فهي غير قادرة على التحليق، والسلام صار قيدا صفيقا على الدول العربية، وتحول إلى إستسلام.

ج – الحمائم والصقور.

د – الرائحة في قصة ( حارس المبولة ) والتي ترمز إلى العفن الذي نعيشه بسبب هيمنة العدو، فالرائحة هي رائحة عفن الصهاينة وعفن الواقع.

= الرمز التراثي :

لجأ الكاتب إلى استرفاد شخصيات من التراث، شخصيات قادرة على الإيحاء وإثراء القصة، والرمز التراثي يعطي التجربة آفاقا أكثر رحابة، وكان للتراث الديني حضوره، ونذكر منه :

أ – نيكي ومُنُكي :

وهما يرمزان إلى الملكين منكر ونكير، الذين يأتيان للميت في قبره ويسألانه : من ربك؟ وما دينك؟ وماهذا الرجل الذي بُعث فيكم؟

ب – نوح وطوفانه : في قصة ( من يشتري الوطن )، فنوح هو الأب الثاني للبشرية، والشعوب التي طبعت مع العدو، واستسلمت له، وتم محو ثقافتها وخصوصيها، لا تستحق هذه الأوطان، فليأتي طوفان نوح ليهلكهم، ويأتي بشر جديد يعرف قيمة الوطن.

= الرمز الكلي :

وهو الرمز الذي ينتظم القصة كلها، ويتمرد بداخلها، ويشير إلى رموز أخرى إيحائية بسيطة يتسرب في جنبات القصة، تثري النص القصصي، والرمز الكلي يجعل النص أكثر إمتاعا وجمالا، ومن خلاله تتعدد القراءات ، وهذا ما نجده في قصة ( السقوط لأعلى ) والتي تُقرأ على أكثر من مستوى.

..................................................

2 – المفارقة التصويرية :

استخدم الكاتب في عدد غير قليل من قصص المجموعة، تقنية المفارقة التصويرية سواء كانت المفارقة الجزئية أو المفارقة الكلية.

والكاتب يلجأ إلى المفارقة ليُبرز التناقض بين شيئين متقابلين.

= في قصة ( المسافة صفر ) : الفتاة التي تفر من عربة الغوغاء الذين تحرشوا بها إلى العربة المخصصة للسيدات، المفروض أن تكون هذه العربة أكثر أمنا وأمانا للفتاة من عربة الغوغاء الذين تحرشوا بها، فالسيدة المنتقبة التي احتضنتها، وقدمت لها الأمن والأمان، نكتشف أنها ألعن ألف ألف مرة من الغوغاء، فالفتاة التي هربت من أيدي شباب عابث يتحسس تضاريس جسدها الظاهري، تقع في أحضان إمرأة تتحسس بخبرة ودربة إمرأة مثلية ما بين فخديها، لتفيق الفتاة التي ارتمت في أحضانها باكية، ويفيق القارئ أيضا على واقع أكثر إيلاما، وأشد خطرا وفتكا على النفس وعلى المجتمع.

= وقصة ( اللفافة ) : انتظمتها المفارقة التصويرية من العنوان، بالغموض الذي يكتنف اللفافة، ومحاولة استكشاف ومعرفة ما بداخلها، ولم تتكشف لبطل النص الفهلوي ولم تتكشف للقارئ أيضا إلا في نهاية القصة.

فالشاب الفهلوي الذي فاز بحثه المعجز وغير القابل للتطبيق في مسابقة جامعة الدول العربية ( كيفية تطبيق سوق عربية مشتركة وعملة موحدة ) يحلم بالملايين التي ستنهمر عليه مقابل فوزه بهذا البحث، والتي ستنقله من طبقته الوضيعة إلى الطبقة الأرستقراطية، ولم يطق الانتظار على اللفافة التي منحوها له كجائزة لفوز بحثه، وراح يفكها مُمنيا نفسه بشيك لا يقل عن العشرين مليون دولار، وبدلا من أن يجد الشيك وجد ورقة مكتوب عليها : ( نشكرك سيد ( عربي ) مرتين : الأولى لعبقريتك في ابتكار مشروع السوق المشتركة في الفهلوة، والثانية للمساهمة في صناعة جيل جديد من أمثالك، حيث تنص قواعد المسابقة على أن يتبرع الفائز بقيمة الجائزة لمعهد بحوث الفهلوة )

والقصة تعج بالمفارقات الجزئية.

والمفارقة التصويرية، من الأساليب والتقنيات الفنية التي استخدمها الكاتب بذكاء ومهارة في معظم قصصه.

.............................................

3 – التضخيم والتكبير :

كثيرا ما يلجأ الكاتب رضا يونس في قصصه إلى تضخيم المشهد القصصي وتكبيره، وقد يشمل التضخيم القصة كلها كما في كل القصص التي تضمت أبعادا سياسية، أو حتى اجتماعية، وقد يأتي التضخيم في لقطة واحدة من لقطات القصة، وتضخيم المشهد وتكبيره يجعله أبعد أثرا وأكثر دلالة وأقوى تأثيرا في التعبير عن الواقع، والتكبير عند الكاتب مرتبط دائما بالسخرية، فالأسلوب الساخر هو أبرز الأساليب في هذه المجموعة.

ويمكن للقارئ اللجوء إلى المقاطع التي استشهدنا بها في قصصه، ونحن نبين من خللها رؤى الكاتب وأفكاره والقضايا التي أثارها.

...................................

4 – التأثر بالقرآن الكريم والموروث الديني.

.........................................

5 – من الظاهر الفنية :

أ – اهتمامه برسم الشخصية بكل أبعادها.


ولننظر إلى قصة ( السقوط لأعلى ) وكيف قدم الوصف الخارجي للحصان العربي الأصيل، وكيف ( أنسن ) هذا الحصان، وجعله يفوق صاحبه عزة وأنفة وكرامة وكبرياء، ونقل كل ما يعتمل في نفس الحصان، وما يدور بخلده، ورفض للذل والمهانة والقيام بأعمال لا تليق به حصان عربي أصيل، وبعيدا عن رمزية القصة، كان الكاتب على وعي بصير بالخيول، وبالفروق الجوهرية بين هذا الحصان الأصيل والأحصنة التي ارتضت المذلة والمهانة والقيام بأعمال دنيا، نظير المأكل والمشرب والنوم!.

ب – عنايته بالحوار، وبدوره البالغ في الكشف عن أدق خلجات نفس الشخصية.

وفي قصة ( السقوط لأعلى ) كما في معظم القصص لعب الحوار دورا مهما، في نقل جلجات نفس الحصان، ونفس صاحبه، والصراع بينهما، وكان له دوره أيضا في تصاعد الحدث ونموه.

..........................................

6 – الاستفادة من السينما :

ويأتي تاثره الأكبر من السينما بفن المونتاج، وخاصة في طريقة ترتيب مشاهده القصصية، فتارة يرتبها على التوازي، وتارة أخرى يرتبها على التوالي، وتارة ثالثة تكون متداخلة، ويحاول المزج بينها حتى لو كانت متناقضة.

ومن المشاهد التي رتبها على أساس التوازي :

-في قصة ( نصف الكوب الفارغ ) : المشهد الأول الحلمي الوردي وكأنه يصف مشهد من مشاهد الجنة، والمشهد الآخر وكأنه قُد من جهنم.

-وفي قصة ( ثلاثة أصفار ) : المشهد الأول للمدرس الذي وصل إلى خريف العمر ويحلم بشقة صغيرة أقصى مساحة لها ( 60 ) متر مربع، والمشهد الثاني شقة في ( كومباوند ) في برج على المتوسط، مساحتها تتجاوز ( 1200 ) متر مربع.

وقصص تم ترتيب مشاهدها على التوالي، مثل : باريسية، مساحيق الغربة، أمال حبلى، رعب محمود وغيرها.

ومن القصص التي تم ترتيبها على التداخل، قصة ( السقوط لأعلى ).

..................................................

7 – المكان العابر ( الترانزيت ).

دارت أحداث بعض القصص في مكان عابر ( ترانزيت ) مثل : المترو ( المسافة صفر )، وكان للأتوبيس حضوره في قصة ( اللفافة وغيرها )، والقطار أيضا، والسيارة، والمقهى وردت في قصص كثيرة، منها : ( معدة لقيطة، باريسية، مساحيق الغربة )، والمسرح ( اغتيال طبلة )، المستشفى ( أحلام جائعة )، وغيرها من الأماكن العابرة التي دارت أحداثها كاملة أو بعضها بها.



....................................

8 – القصة الدائرية :

قصة ( وظيفة أربعينية ).

......................................................

9 – القصة المركبة أوالقصة داخل القصة :

قصة ( أحلام جائعة ).

...................................................

10 – الرائحة بطلا :

من اللافت في هذه المجموعة الحضور المكثف للحاسة الشمية عند الكاتب، وتتناثر في معظم قصص المجموعة :

( حبذا لو كانت من روائح العم سام ).

( سأقبل بعبق اليورو ).

( عما قليل ستمنحني الجائزة رائحة الأرستقراطية التي امتزجت بجيناتي ).

( هؤلاء يتوقون لرائحة مطلع الشهر مع بزوغ فجر راتب فاقد الأهلية ).

( ساضع العطر الفرنسي الأشهر " وان مان شو "، وحده كفيل بجذب تلك الفراشة من خياشيمها ).

وكان للرائحة دور بنائي فاعل في قصتي ( حارس المبولة ) و ( أحلام جائعة )، فرمزيتها في ( حارس المبولة ) اشرنا إليها سابقا، وتلك الرائحة تكاد تكون هي الحدث الرئيس في قصة ( المسافة صفر )، فرائحة عطر الفتاة هو الذي اجتذب أنوف هؤلاء الأوغاد وهيج غرائزهم المكبوتة، قبل أن يكتشفوا جمالها الفاتن، وكأن أثر العطر كان أقوى من أثر الجمال الشكلي، والحاسة الشمية رغم أنها من الحواس الثانوية، ويعتبرها البعض من الحواس المهملة، ولكنها عند كاتبنا لا تقل أهمية عن حاستي السمع والبصر وهما من الحواس الرئيسية، وأنا هنا أشير فقط إلى حاسة الشم هنا، راجيا أن يتابع القارئ الحواس الأخرى وخاصة الحواس الثانوية ومنها اللمس وغيرها، فحواس الكاتب كلها تعمل بكفاءة، وبرهافة شديدة، ولست بحاجة لأن أؤكد على أهمية ودور الحواس الثانوية التي لا تقل أهمية عن حاستي السمع والبصر في الأدب والفنون عامة.

وبعد :

أرجو في هذه المقاربة أن أكون قد نثرت بعض قطرات الضوء حول هذه المجموعة القصصية، التي حققت لي الإمتاع والإقناع، وهما ما كنت أفتقدهما في السيل المنهمر الذي تضخه المطابع من المجموعات القصصية يوميا، فشكرا للكاتب رضا يونس، وأتمنى أن تأخذ هذه المجموعة القصصية حظها من الذيوع والانتشار، ومن الدرس والنقد والتحليل، وأن يأخذ كاتبها ما يستحقه من حفاوة وتقدير، قياسا على جودة إبداعه، ومن الله التوفيق.

( ورقة نقدية لمناقشة المجموعة عبر تقنية الزووم والبث المباشر " بنادي الساردون يغردون " في تمام الثامنة مساء الثلاثاء الموافق 7 / 3 / 2023م )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى