يوسف الخال.. في بريد السماء الافتراضي

عندما إلتقيناه في ذلك الكهف القريب من ذلك النهر الفضي ، كان الشاعر يوسف الخال وحيداً . رجل ممتلئ الوجه، وعلى عينيه نظارة عريضة . فيما كانت لحيته أشبه بحقل من القش الأبيض.
ابتسامته العريضة، لا تدل على أنه مأزوم ويعاني في عزلته من شيء.لذا استقبلنا مصافحاً . وقبل أن يدعونا إلى الجلوس ، أزاح الستائر عن النوافذ، ثم أخرج من جيب سترته كتاباً صغير الحجم ، سرعان ما أطلعنا على عنوانه:
((كهف يوسف: سيرة الشاعر النائم)).
وما أن أكملنا قراءة عنوان الكتاب، حتى وضعه الشاعر يوسف الخال على الطربيزة، ثم أردف قائلاً: لا أعترض على ما يكتبون، ولكن أن ينقلونني غريقاً من البئر المهجورة إلى كهف النوم، فتلك معضلة لا تتمتع بشيء من الأخلاق النقدية.
ساد المكان صمت مطبق. ولم نعرف كيف يمكن أن نشارك بالحوار ، ونحن لا نعرف مضمون ذلك الكتاب ولا سبب استياء الشاعر منه !
لم يستمر الوضع الساكن طويلاً،إذ سرعان ما دخل علينا مخلوق غريب الشكل يضع على رأسه قناعاً ، وهو يحمل صينية من البلاتين الأبيض، وضعت عليها كؤوس من الكريستال المورد.
وما أن تقدم خطوة نحونا، حتى تصاعدت الكؤوس بالطيران ، لتستقر بين أصابعنا، وسط ذهول مشوب بالخوف.
لاحظ يوسف الخال ارتباكنا، فضحك مخففاً من ذلك الاضطراب . فتناولنا الشراب ،دون أن نعلق بجملة واحدة. إلا أنه ، ولكي يمحو التشويش الذي تشكل بأذهاننا ، قال موضحاً : هذه خادمة الكهف.
– كأن الشاعر يوسف الخال في عزلة جديدة على متن هذا الفضاء. هنا ؟!
– لست أنا من اختار ذلك. عزلتي بالضد مني هنا.
– إلا تشكو أحداً،لينقذك مما أنت عليه في هذا التيه؟
- ليس من مُخلّص في مثل هذه الأمكنة كما يبدو.
- حتى سيدك الذي أغرقت نفسك فيه شعراً وكياناً إلى درجة الذوبان؟!!
– السيد المسيح تقصد؟!
-نعم.ألمْ يرفع عنك أسوار هذه العزلة، فيخرجك إلى النور؟
– سيدي يسوعُ جزءٌ من النور. وحيث يكون قلبي ،يكون هو . لكن خلاصاً حقيقياً ، لم يتحقق. كأن ما كان معمولاً به على الأرض، مشغول به هنا أيضاً !
– هل سيدك من غواة الشعر؟
– سيدي شاعر الآلام قديماً، مثلما هو الآن.
– هل تعلمت الشعر منه ؟
– أعترف بذلك. فيسوع كان نبعي الذي يفيض في روحي، لأتأمل ولأكتب ولأبكي ولأحلم.
-ولكنك لم تفض إلى حدود الطوفان. كأن اللاهوتية فيك قدرٌ وضعتك في قفصها ، فأنهكت شاعريتك، ليبقى يوسف الطقس اللاهوتي، لا يوسف الشاعر الطائر بطاقة المخيلة.
ألا يحتاج الشعر إلى المزيد من الماء ليستمر، فيحيا بالضد من التصحر والجفاف وسطوة الديانات؟
– قد يكون في كلامك شيء من الصحة.ولكن اللاهوتي الذي كنت فيه طغى على المخلوق الشعري الذي أمثله.
لذا فالتخلي عن الأول لصالح الآخر، ربما يكون برأيي خطيئة. ذلك أن تجاوز اللاهوتي كما أعتقد أنا ،لا يوفر للنفس استقراراً منشوداً.
لقد خضعت لتأثيرات مختلف الكتب،وكانت استجابتي لتلك الأفكار أهم من رضوخي إلى الشحن الشعري عبر نوافذ المخيلة.
هكذا انكفأت.فأنا شاعر رؤيوي.أنظر إلى الطوفان من بعيد،ولا أجرهُ إلى اللغة،لئلا تغرق النفس في الكلمات.
– لماذا لم تفعل ذلك ؟
-لأن ما من منقذ من هلاك النفس، حتى وإن كان الكائن في أوج التصاقه بالكلمات التي نكتب والنصوص التي نؤلف.
– هل يسكنك الخوفُ من التطرف النقدي فيما يخص مفهوم الشعر مثلاً؟
أنا درست وانغمست في تجارب الغرب الشعرية،واستجلبت الحداثة للعالم العربي.
بمعنى أكثر عمقاً ،فأنا «أسهمت إلى حد كبير في تحرير الشعر من أسر التاريخ وقانون الجماعة، ومن نمطية النظرة الدينية الفقهية، أي من سلطة المعجم والماضي، مقدّساً كان أو تاريخيّاً. كما أسهمت إسهاماً واضحاً في دفعه إلى اتجاه التفكير الفلسفي والحدس وتحريض اللاوعي وتراسل الملكات.»
– ولكن ذلك لم يبرز في شعرك الذي ظل تقليدياً،وبأدوات كلاسيكية،فيما رفاقك في مجلة شعر،كانوا يستلهمون من نصوص الغرب غبار الحداثة،لتطل بها قصائدُهم !!
-أجل.كانوا أكثر شجاعة مني.هم نهبوا نهباً،فيما كنت أنا أعالج آثار تلك النصوص في قصائدي كممرض يطبب جروحاً.
ربما لأن أدونيس علمهم كل تلك الحيل أو التجاوزات ((المشرعنة)) بحكم جهل القارئ!!
– هل تتهمهم بالتحايل وبالقنص وبالتناص ؟
– لا وجود لشاعر برئ من شعراء مجلة شعر .ولا أظن أن كلمة برئ هنا،تتضمن عاراً.القصد من هذا ،أن الجميع أنعشوا أرواحهم الشعرية بالتحايل واللطش من وراء زجاج تلك النصوص المترجمة.
– ولم تسجل اعتراضاً على ((ثورة التحايل)) أو السطو غير المباشر على نصوص شعراء الغرب وكتّابه ؟
– لا .لم استطع ذلك،بسبب النشوة التي كانت تفرض طقوسها على حياتنا الأدبية في تلك الفترة الجميلة من زمن كسر الجمود العقائدي الفني الروحاني الذي كنا مستسلمين إليه في بيروت .
– إلى أي درجة كنت مولعاً باستدراج أهم الأسس التي يجب أن يراهن الشعرُ عليها إلى الشعر في كـ ((التعبير عن الحياة، واستمداد التعابير منها، تطوير الإيقاع، وحدة التجربة، محورية الإنسان، وعي التراث العربي، فهم التراث الأوروبي، الإفادة من الشعر العالمي، والامتزاج بروح الشعب.
-وقد جاءت كل تلك الأفكار بمثابة وصايا كنت تنقلها عن الشاعر الأمريكي عزرا باوند مثلا؟!!
– لا .ليس هكذا كان عملي،
ما كتبته «إلى عزرا باوند»
«أثمنا إلى الشعر، فاغفر لنا/ وردّ إلينا الحياة،كان بمثابة خطيئة .
فأنا كنت أجر الشعر إلى الحرية و الفلسفة والنمط الجديد من الحياة
– هل معنى ذلك أن الفلسفة في شعرك كانت بئراً مهجورة؟
– شيء من هذا القبيل،على الرغم من أنني حاولت تطهير الشعر بالرومانسية،لكن قصائدي بقيت ضمن النسق الكلاسيكي ،باردة وتتأمل العالم بأعين ناعسة.
– وهل ندمت على تلك البرودة،وفضلت لو كنت ضمن سياق الكلاسيكيات المتوحشة؟
– يمكنك أن تقول بأنني تفاعلت مع تلك الوحشية،باستخدامات كثر،حاولت من خلالها اختزال قوة الشعر بالمضي قدماً نحو قوة الذات كخزان للكون.دعنا هنا نتذكر:
((أيها الشعراء ابتعدوا عني
لا ترثوا أحداً غلبه الموت.
فماذا ينفع الرثاء ؟
الرثاء للصعاليك ونحن جبابرة
الرثاء للبشر ونحن آلهة.
فابتعدوا عني أيها الشعراء
واحنوا رقابكم
لا تنطقوا في حضرة الموت الجاثم..))
دعني أقول شيئاً ربما يكون هاماً.إن الوثوق بالموت أسهل من الوثوق بالشعراء.
– بسبب ماذا ؟
-بسبب التأثير الشعري المفروض علينا أولا.وثانياً بسبب أن الشعراء حلقات من الرياح،لا تتشكل إلا كزوابع فردية،منها ما يدمر نفسه بنفسه،ومنها ما يتسلط على الآخر،فيقتله معنوياً.
– هل ثمة شعر في الآخرة كما ترى هنا ؟
-ستكون القيامةُ هي أسُ الشعر ،مثلما سيكون الشعر جوهر القيامة.
– أليست تلك نرجسية يوسف الخال،التي تنحاز إلى اللاهوت على حساب الشعري ؟
– الشاعر بطل لاهوتي بالأساس .
– معنى ذلك إنك لست تموزياً بالانتماء للعلمانيين وللحركيين الثوريين والطليعيين؟
– ليس بالضرورة أن يكون الشاعر التموزي علمانياً أو ثورياً .فكل المنتمين إلى ما يسمى بذلك الاتجاه هم من المرضى أيديولوجيا أومن المقوضين في صلب سلسلتهم الفقرية صوراً ورموزاً وأساطير . و« أنا شاعر مسيحي لبناني عربي» كما أرغب أن أكون.
-ولكنك تضطهد الشعر بهذا التخصص الديني البروتستانتي ،فتحاصره أشبه ببقرة في مسلخ ضيق !
-لم أكن لأرغب بنزع الحياة عن تلك البقرة،ولكن المسلخ الذي تحدثت عنه،لا يجب أن لا يكون بلا عمل .فالحياة تداخل مستمر مع الموت.والشعر على الدوام هو ابن اللحظة الحرجة.
-ولكن الرؤيوي المسيحي يختلف مع الإسلامي الشرعي.الأول يستخلص الشعر كألم قد يُقدس لأجل التعاملات الدينية،فيما يتعامل معه الثاني على أساس كونه لعنة،أو هو مس شيطاني يلدُ من الذنوب،ولا يولّد غير الذنوب المركبّة ذاتها،فيستدرج العقاب بشكل دائم !
– لم أجد أثراً لذلك هنا.وكأن الملائكة لا تسد رّمقها إلا بالشعر.
– بالشعر العربي تعني؟
– بالتأكيد. وليس بالشعر الجاهلي الذي تناوله الناقد والكاتب العظيم طه حسين،فكان محقاً فيما كتب عنه وبحث في أصوله المجتمعية والدينية.
-وهل ثمة رقابة أو منع احتياطي على الشعر العربي لديكم في هذي السموات؟
– شيء من هذا القبيل،وكل ذلك بسبب عدم تطهير النصوص من رائحة الغرائز الجنسية الشاذة .باعتبار أن كل شيء متوفر هنا.
– ولكن الشعر العربي الإيروتيكي قليل في الدنيا ،ولا يشكل دوراً مركزياً في آداب مجتمعات العوالم السفلية خاصة عند العرب؟!!
– لم يعرف الشعراء العرب التمرس على كتابة ذلك الشعر الايروتيكي بسبب الجهل المسيطر على أنظمتهم الجنسية،مما يدفع أغلبيتهم العظمى إلى ممارسة العادة في أثناء كتابة النصوص مرتاحين إلى جعل النص سريراً يمكن التواصل فيه مع منابع شهواتهم بواسطة التخاطر.
– هل تحقق الجنس في النص،يجعل منه شعر بورنو على سبيل المثال ؟
– في هذا المكان..علينا إن لا نقرأ النصوص بمعايير نقدية،بل بواسطة الجس النبضي لما وراء غلاف الشاعر.
– لم نفهم القصد من وراء هذه الكلمات !
– ما أقصده،هو أن كل نص شعري،يُفحص بأشعة الجس،لقياس ما يكمنُ في باطنه من شرور البورنو أو الإيروس.
– إلا توجد عندكم نساء أو عمليات جنسية ؟
– لا أبداً.الشاعر هنا ،يُبعث على شكل تنين يختزنُ ناراً،ويكتب بها عن ذكرياته الدنيوية ليس إلا.كلنا نتحول إلى تلك المخلوقات النارية في لحظة خاصة من الزمن .
– وكيف تتواصل أنت للتخلص من الفوران العاطفي؟
– أنا ما زلت ثملاً بنشوة ( مها بيرقدار ) وأحتفظ بنسخة عنها،لأنها المرأة الرءوم علىّ وأنا في مكان عزلتي هنا وهناك على حد سواء.
– كأنك تحاول أن لا تثلم شيئاً من تاريخك العاطفي القديم؟
-لكل حبّ ألمٌ،يضاهيه بالهيام،ولا يعادله بالندم.
– هل التقيت بدون كيشوت ،أو استلمت منه رسالة؟
-قبل قليل كان هنا ،وغادر المكان مسرعاً .
– هل كان مع رمحه الشهير على حصانه ؟
– نعم.وكان على ظهر حصانه يسابق الريح ،بحثاً عن سانشو.
– أأصبح يقلد جلجامش ببحثه عن نبتة الخلود ؟!!
– لا أبداً.لقد التقى الاثنان مع كل من أنكيدو وسانشو ،شرب الجميع من قوس قزح،دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة، لا عن خلود ولا عن ليلى.ثملوا حتى شوهدت أزرار قمصانهم تتطاير .
– ويحك يا يوسف! كيف تجرؤ بتحرير لسانك،فتقول قولاً كهذا،وأنت على مقربة من جهنم؟
– نار الله ،ليست من أصول نفطية أو غازية ،لتؤذي أو تحرق فتهلك.وإنما هي نارٌ بآليات تُطهرُ من غبار الأرض ،يوم تكون الأجساد رهينة لأسى الاحتباس الحراري والروحي على حد سواء.
– هل تتذكر لبنان اليوم؟
– قبل ساعة ،كان عندي فرويد .تحدثنا عن الأوضاع مطولاً ،وفي نهاية المطاف ،اقتنع بأن يفتح لكل مواطن لبناني عيادة في بلاد الأرز ،بالنظر لحيوية الجنون اللبناني وبعده الأسطوري .
– وهل سبق لسيغموند فرويد وأن قرأ من الشعر اللبناني شيئاً،حتى يستخلص منه نظرة كتلك؟
– فرويد لم يتحدث عن الجنون الشعري الذي اختفى بين أرجل الساسة والدبابات وعضلات رؤساء أقسام ثقافة الطبول،بل تحدث عن جنون البشر،وكثافة شحنات التدمير والتدمير المضاد. عن الهجرات الجديدة وموجات التكفيريين ممن تزدحم بهم الشوارع والمدن والقرى الحدودية وهم مثقلين بالأسلحة وبالرايات السوداء والأقنعة وسيوف الجاهلية.
– منْ شعراء الآخرة في التيه؟
-لم أر أحداً منهم،فهم يعانون من مطاردة أبدية ما بين أغلفة الكواكب وأشعة الفردوس.بل وكأنهم استغنوا عن الإقامة في الفردوس تماماً.
-هل لأن المنازل لا تليق بهم مثلاً؟
-لا أعتقد ذلك..ولكنهم لا يفضلون الإقامة باعتبارها تدميراً للشعر.خاصة وإن صراعاً حاداً ما زال فاعلاً ما بين شعراء بين أمية وشعراء الدولة العباسية،فما زل بعضهم يكتب المراثي والهجاء ويرسل القصائد بالبريد الإليكتروني إلى توابعهم ممن يقيمون على الأرض .بل وهناك من شعراء الجاهلية وقد استولت عليهم فتنة الفيسبوك وتوتير ،فازدادوا انهماكاً بالتحريض المذهبي.
-ولكن شعراء الجاهلية كانوا قبل المذاهب.فكيف يفعلون ذلك؟
– استخدامات الجاهليين للفتن المذهبية،هو عمل استمراري لإعادة إحياء الصحراء في العقل .لأن المذهبية، وإن جاءت بعد عصرهم،إلا أنها كانت من صنع جاهلي ليس إلا،.بل ويمكن القول أن ما زرعته الجاهلية في الإسلام،أكثر وأهم وأخطر مما زُرع في العصر الإسلامي نفسه.
-هل تؤيد مقولة المبشرين بمشروع ردم الطائفية والقائل : لا شيعة بعد اليوم ،مثلما لا سنة من قبل؟!
– المهم هو تفريغ الأديان من المذاهب.
-والمسيحية ؟
-هي ديانات متنازع عليها .ويمكن لكل شخص إعادة قراءة ما كتبه ترفانتس عن دونكيشوت دي لامانش وطواحين جمهوريات الوهم .
– أهو اليأس الذي بلغ ذروته بخصوص عدم وجود ما يسمى بالرحمة بين شعوب الأرض على سبيل المثال؟
– الشعر هو الرحمة الوحيدة المطلقة التي يمكن أن تجعل من عضلات الإنسان صالحة لغير أستخدمات الحرب والقتل والتدمير.
-وليس طلقة الرحمة مثلاً؟
-لا يمكن للشاعر أن يكون مسدساً حتى من أجل توفير تلك الرحمة أو صناعتها لمريض أو قاتل أو متوحش.



لقراءة نص الحوار:
https://www.alnaked-aliraqi.net/article/15808.php
أعلى