حسام المقدم - تحت الشّمس.. أمامَ القمر..

في فيلم "بقايا اليوم" يعمل مستر "ستيفِنس" (أنتوني هُوبكنز) رئيسًا للخَدَم بقَصر اللورد الإنجليزي "دارلنجتون". وفي أحد المشاهد يقوم بإمرار المِكواة على الصفحة الأولى من الجريدة اليومية، لإزالة أية تجعيدة على الورق، قبل أن يلمسها سَيِّدُه اللورد.
تذكرتُ التّصرُّف المُتفاني؛ وأنا في طريقي لمقابلة المَدام. قالوا لي إنها تحسب حساب كل كلمة، وتزن الشخص بنظرة واحدة. حدّثوني عن فتنتها وأناقتها، ومدى الانبهار الذي يُحسّه الواقف أمامها، لدرجة عدم تمَكُّنه من نطق كلمة أو كلمتين. ولما رأوا انزعاجي مما سمعتُ؛ طمأنوني بأن الواجب إبلاغي بكل التفاصيل حتى لا أتفاجَأ بشيء مُربك. عُدت أُؤكد إنني ارتبكتُ بزيادة عمّا لو تركوني أذهب دون هذه القائمة من التّرهيب.
(ذات مرة قابلتُ الليل وجها لوجه في شارع جانبي خال. قلتُ له: "ما الذي يجعلك تأتي دائما بعد النهار؟ ألا يمكن أن تأخذ إجازة ليوم أو عدة أيام؟ أشتاق إلى نهارات متوالية، إلى أن يأخذ النهار هو الآخر إجازة وتكون الليالي مستمرّة. ألم تتعب أنتَ والنهار من تكرار هذا السيناريو الأزلي"؟ نظرَ الليل في وجهي، ثم تركني ومضى بلا كلمة.)
وقفتُ أمام بَوّابة الفيلا. لم تتحرك قدماي خطوة أخرى، البوَّابة كبيرة ومنقوشة ومُبطّنة بزجاج ملوّن، في الداخل حديقة واسعة أشجارها مقصوصة وأحواض وُرودها مُنسّقة وبديعة. لم تأخذ مِنّي هذه المشاهد سوى ثانيتين، وتسمّرتُ في مكاني. سمح لي رجل بملابس أَمنيّة أن أدخل. أكمل إشارته بأنها هناك في انتظاري. وكانت أمامي، في متناول بصري، على كرسي الخيزران الهزّاز، بوجهها الداعي البشوش. بَشوش؟ لابد أن هناك كلمة أخرى تُعبّر عمّا رأيته. مُنوَّر؟ قَمَري؟ أعود وأقول إنّ وجهها هو هذه الأوصاف مُجتمعَة. انتبهتُ أنها تناديني، وأنني لا زلتُ مزروعًا في مكاني.
خطوتُ ناحيتها.
كلّ ما قالوه عنها تبخَّرَ أمام الحقيقة.
المدام امرأة متوهجة، مصباح ساطع حار يُرسل موجاته إلى أسراب الفراشات فيتهافَتْنَ مُنتحرات عن رغبة متوحشة. كنتُ واقفا أمامها دون أن أتمكّن من تثبيت ملامح وجهها. وجه مُنوّر يُزغلل العين في دوَّامة، أعرف جيدا معنى أن أتجرّأ على نظرة طويلة إلى الشمس، سيدُور القُرص النّاري ويلفّ بي ساحبا نور عينيّ، حتى إذا رجعتُ إلى ما حولي تتداخل الموجودات في بعضها، وتظل بُقعة ظِل تتنقّل أمامي من هنا لهناك. لا أتذكر من وجهها إلا أنه صارخ ومتوحّش الجمال، عيناها واسعتان تبتلعان أي مُغامر بالنّظَر، شعرها عميق السواد.. لامع وملموم في كُتلة كثيفة إلى الخلف. جسدها كله معجون من توابل وبُهارات تُصالح فاقِدي الشّهيّة على الأَكل. كانت تجلس مثل مَلكة في عباءة زرقاء واسعة الأكمام، ومنقوشة بزخارف كأنّها كتابة عربيّة. لا أذكر خِلاف ذلك إلا وُقوفي مهزوزا، أُوشكُ أن أصرخ طالبا النّجدة من سطوة مغناطيس رهيب يُزلزل الأرض من تحتي. ولمّا أشارت لي بالجلوس على كرسي مجاور تمالكتُ نفسي، وإن ظلّت دقّات قلبي تطحنُني بإيقاعها الهادر.
(رأيتُ رجلا وقورا قال إنه جَدّي الميّت قبل أن أُولَد. وقفت الكلمات في فمي، إلى أن أخرجتُها بصعوبة: "جَدّي"؟ قال: "نعم". رددتُ ببرود: "وماذا تريد يا جَدّي"؟ قال: "خُذ بالَك يا ابن ولدي، لا تُحاول مرّة أخرى أن تطلب من الليل أو النهار شيئا". أومأتُ مُستجيبًا، بعدها تبَخَّرَ الرّجل من أمامي، دون أن يترك أثَرًا.)
قالت: "أنتَ هنا أخيرا، سمعتُ أن رأسك عنيد".
"رأسي يؤلمني، والصُّداع سيقتلني".
"الجميع يؤكدون أنك صاحب عقل يقود قلبك وليس العكس".
"ليس كل ما يُقال صحيحًا، عندي هلاوس كثيرة، أُكلّم الأشياء وتُكلمني، وقد يصادفني الأموات في الطريق. لا شيء الآن إلا رأسي الذي سيقَع منّي، آه، منذ دخلتُ إلى هنا وأنا...".
"وأنتَ ماذا؟ اهدأ، سأطلب لك الليمون. هلاوسك رائعة، ليتَ لي مثلها. قُل لي: كيف يسيطر إنسان على قلبه؟ أنا شخصيا لا أقدر على ذلك، يُمكن أن تقول إنني فشلتُ بامتياز".
"حضرتك تعرفين أنّ الفشل والنجاح نِسبيّان".
"وَضّح كلامك، أريد أن أفهم".
"سامحيني على تحَفُّظِي، رؤسائي قالوا إن المَدام صاحِبة الشّركة تطلبك، وأنا تعجبتُ، لأن حضرتك لا تعرفينني ولا أعرفك، بالإضافة إلى أنهم أسمعوني شَريطا من التّحذيرات".
"لا تضع كلامهم في بالك. أتفهّم أنك لا تعرفني إلا بالسّمَاع، لأنني لا أذهب إليكم إلا في النادر. أتركُ كل شيء للمدير، لكن أي كبيرة أو صغيرة عندي عِلم بها، وأتدخّل في أوقات الطّوارئ والأزمات. أنا أعرفك منذ عمِلتَ في الشّركة: من سنة وخمسة أشهر وأربعة عشر يوما".
"غريبة! وبعدد الايام أيضا؟ ما معنى هذا؟".
"معناه ببساطة أنني أهتمُّ بكَ!".
".........".
لسعتني نار كلامها، وقفتُ مشدودا. ما الذي يحدث؟ ما الفخّ المنصوب لي؟ كلام مُنمَّق مرسوم سيُورطني في مصيبة. تظنُّني ساذجا، وتريد استدراجي للكلام عن أسرار الشركة، حيلة رخيصة ومُستهلَكَة.
"أنا أحترم حضرتك وأُقدّرك جدا، سيدة أعمال ناجحة وذكيّة، أرجو أن ندخل في الموضوع".
"اهدأ واجلس، ماذا حدث؟ أنا دخلتُ فعلا في الموضوع، أنا مُهتمّة بكَ، كلامي واضح، أنتَ مختلف، تريد أن تمشي في طريق يخصُّك. وصلني كلّ ما اقترحتَه لتطوير قسم العلاقات العامة، لديكَ أحلام كبيرة، وهذا سِرّ إعجابي بك".
"شكرا جزيلا، أتمنّى أن أعرف سبب اللقاء".
"ماذا جرى لك؟ أين عقلك الذي يتكلمون عنه؟ لا تتعجّل، ورُد على كلامي".
"ليس عندي ما أقوله، جئتُ لأسمع من حضرتك".
"لماذا تُصرّ على (حضرتك)؟ لن أتكلّم طول الوقت، باختصار أريدك أن تشاركني حياتي، تعجبني أحلامك الكبيرة، ستكون مدير الشركة، وعندي يقين أنك ستُطوِّر شركتنا في مدّة قصيرة، وأنني سأكون سعيدة معك. ما رأيكَ؟".
انتفضتُ هذه المرّة فاردا طُولي، لن أتحمّل هذا الاختبار القاسي، صبري نفَد، أُراهن أنّه الشيطان مُدير الشركة، لا يطيقني، يريد أن يتخلّص مني، ودفَعَ المدام لاختبار أعصابي بهذا الشكل المُهين. أي طفل لا ينطلي عليه هذا الكلام، مَن أنا لأصعد من قسم العلاقات العامة إلى مدير الشركة وزوج صاحبتها؟ ربما يخطّطون لإبعادي إلى فرع الصعيد، لماذا يلفّون ويدورون؟
(أنا في حديقة قصر إنجليزي مهيب، ومن النافذة الطويلة أرى "ستيفِنس" يَكوي الجريدة، ضمن طقوسه الصباحية الصارمة لتهيئة حُجرة المكتب. يدخل اللورد، يتناولها ويبدأ في القراءة. أمسكُ لساني عن سؤاله: هل انتبَهتَ يا سيّدي إلى أنّ الجريدة مَكويّة أم مُجعّدة؟)
تراجعتُ خطوتين، ولا تزال عيناي على المدام المُتفاجئة من تصَرُّفي. طلَبَتْ أن أعود للجلوس كي تُكمل كلامها. واصلتُ رجوعي بظَهري، ثمّ استدرتُ جاريا عابرا البوّابة، تلاحِقُني نداءات الحارس.
***
حسام المقدم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى