فخري أبو السعود - في الأدب المقارن.. الفكاهة في الأدبين العربي والإنجليزي

إذا انطوت الفكاهة على صادق حكمة أو نافذ نظرة، وأُودعت العبارة المحكمة اللائقة بها، كانت في الفرد دليل صفاء الذهن ولطافة الحس، وفي الأدب مظهر الرقي والحيوية، وفي الأمة عنوان التحضر ورقة الطبع. والفكاهة عند ذلك لا تقل مكانة عن أرزن الجد، بل ربما بذته وكانت مرآة لميول الفرد والمجتمع أصدق تصويراً من مرآة الجد المحض؛ والأدبان العربي والإنجليزي حافلان بضروب الفكاهة وأوضاعها، يتفقان في بعضها ويفترقان في بعض آخر، تبعاً للأحوال الاجتماعية.

وإذ كانت الفكاهة كما تقدم دليل التحضر ورقة الحاشية قلَّت آثارها في الأدب العربي حين كان أقرب إلى البداوة زمن الجاهلية ومستهل الإسلام. ففي أدب ذلك العهد نرى آثار اللَّسَن وحضور البديهة وقوة العارضة، ونخطئ مظاهر الدعابة الدمثة والعبث الرقيق. وما نحسب إلا أن الرسول (ص) الذي كان يمزح ولا يقول إلا حقاً كان يمتاز من معاصريه - في جملة ما امتاز - بلطف الروح وعذوبة الدعابة، فقد أُثِرَتْ عن صحابته المقربين وخلفائه الراشدين أخبار تنبئ عن متانة الخلق وحرارة الإيمان وقوة الجلد والكفاح، ولم يُؤْثَرْ عن كثير منهم براعة الدعابة ولا الميل إلى الفكاهة.

فلما استوطن العرب الأمصار، واصطنعوا حياة الدعة والاستقرار، وتذوقوا الحضارة والترف، ظهرت نتائج كل ذلك في أدبهم، وكثرت الفكاهة في الشعر والنثر، بل ظهرت طوائف من المجان المتظرفين الذين يصطنعون خفة الروح ويتهكمون بالجد والجادّين من رجال العلم والدين، جاعلين شعارهم قول حدهم ابن هانئ:

دع عنك ما جدوا به وتبطل ... وإذا لقيت أخا الحقيقة فاهزل

ومن أظهر مواضيع الفكاهة في العربية التبرم بالثقلاء، والنيل من البخلاء، ووصف الأكولين والمطفلين، والتهكم بمدّعي العربية من الموالي، وعبث المجان بالمتخشعين المتورعين، والسخرية بالمنهزمين من القواد والمقاتلين؛ وكل هذه أبواب من القول منتزعة من حياة العرب في ذلك العهد، وكلها صفات مضادة لما كان الرجل ذو المروءة الحريص على حسن الأحدوثة يتحلى به أو يحب أن يعرف عنه.

وتفنن المتهكمون بالبخلاء، فتحدثوا عن وعودهم الممطولة، وحجابهم الغلاظ، وهباتهم الضئيلة: كالطيالس التي تتجنى الذنوب على الرياح، وتعرف الطريق إلى الرفاء، من كثرة تردادها عليه صباح مساء.

ومن بارع التهكم بأدعياء النسبة العربية قول بشار:

أرفق بعمرو إذ حركت نِسْبَتَهُ ... فإنه عربي من قوارير

ما زال في كير حداد يردده ... حتى غدا عربياً مظلم النور

ويشترك الأدبان العربي والإنجليزي في أبواب من الفكاهة خاصة، لعلها تستثير روح العبث في النفس الإنسانية على اختلاف الأجيال والأمم، كالمتحذلقين من أهل الفنون من شعراء وممثلين ومغنين والمدعين لتلك الفنون وأشباهها. فالتحذلق والادعاء سببان خالدان من أسباب ولوع الناس بالمتصفين بهما، وما يزال المرء بخير حتى يدَّعي ما ليس له ويتكلف الأغراب؛ والنفس الإنسانية بطيئة متثاقلة إلى الاعتراف بفضل الأغيار، دع عنك الاعتراف بالفضل لمن يدعيه وليس من ذوبه؛ هناك تثور النفوس وتلجأ إلى أقسى أسلحتها وهو التهكم.

فشكسبير يسخر على لسان هملت من متحذلقي الممثلين في عصره، ويجعل الثائرين المطالبين بدم قيصر ينصرفون هنيهة عن وجهتهم إلى مهاجمة شاعر لغثاثة شعره؛ والجاحظ يقول في صاحب له متحذلق متعالم: (يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلق منهم بسبب، وليس في يده من جميع الآداب إلا الانتحال لاسم الأدب)، وابن الرومي أوْسَعَ من لم يَحمَدْ من المغنين والمغنيات تهكما، وصوّر أحدهم أقبح صورة في قوله:

وتحسب العينُ فكّيه إذا اختلفا ... عند التنغُّم فكَّيْ بغل طحان

وفي الأدب الإنجليزي ضروب من الفكاهة منتزعة من مجتمعِهِ الخاصة: كالتهكم بالمدعين النبل الاجتماعي، والمحْدَثي النعمة، والمتشدقين بضخم الكلمات لا يفقهون معانيها؛ ذلك أن المجتمع الإنجليزي - على كون نظامه الحكومي ديموقراطياً - هو أرستقراطي شديد التفريق بين الطبقات، يتعالى النبلاء فيه عن الدهماء تعالياً لا يقل عن ترفعهم عن أبناء الشعوب الأخرى، ويكاد يجعلهم أمة داخل أمة؛ وبعض العصاميين الذين يؤثّلون ثرواتهم في ميادين الأعمال أو في المستعمرات يتطلعون إلى الانغمار فيهم، ويتشبهون بهم تشبهاً يتعلق بالظواهر ويستثير السخرية. أما التشدق بضخم الكلمات فمرجعه إلى تكوُّن اللغة الإنجليزية من أصول كثيرة أبرزها اللاتينية الوعرة الألفاظ الكبيرة المشتقات.

ففي كثير من القصص والروايات الإنجليزية يظهر الأشخاص المتصنعون السمو الاجتماعي المتكلفون رقة المظهر ودماثة الحديث، والآخرون المكاثرون باطلاعهم على اللغات الكلاسية المقحِمون لجافي الألفاظ في أحاديثهم، خالطين صحيحها بخطئها، حتى ليقولون عكس الذي يقصدون أحياناً.

وللفكاهة مجال رحب في القصة، حيث يتحرك الأشخاص ويعملون أعمالهم ويتبادلون الأحاديث؛ ومن ثم تحفل القصص والروايات الإنجليزية ببارع النكات، وفكه اللفتات، ومضحك المواقف والشخصيات؛ ونجد الكثير من ذلك فيما قارب القصة من أوضاع في الأدب العربي: ففي مقامات بديع الزمان ورسالة الغفران للمعري فكاهات وسخريات هي غاية في الإمتاع والبراعة.

والفكاهة من أمضى أسلحة الإصلاح الاجتماعي؛ وقد استخدمها لهذا الغرض بعض فرسانها من الأدباء الإنجليز. والمجال لها متسع في الأدب الإنجليزي، حيث التمثيل والقصص يصوّران المجتمع وينقدانه، وفي المجتمع الانجليزي، حيث النقد النزيه مباح وحيث للرأي العام القول الفصل في الحكم على الأنظمة والتقاليد. أما في الأدب العربي فقلما اتجهت الفكاهة اتجاهاً اجتماعياً، بل ظلت فردية كغيرها من أغراض الأدب، إذا لم يكن الحكم المطلق الذي خضعت له الدولة العربية بمساعد على نمو النقد واشتداد ساعد الرأي العام.

وهناك لون من الفكاهة يرمي به المتفكه إلى ضد ما يقول: فيتقنّع بالجِد وهو يبغي الهزل، ويبدي الوقار ويخفي العبث، ويتظاهر بالمدحِ والقدحَ يريد، ويغالي في التفخيم قاصداً التهوين. ويُدعى هذا الضرب من الفكاهة بالإنجليزية وربما أمكن تسميته (التَّنَدُّر)، والأدب الإنجليزي حافل به، ولعله يناسب الطبع الإنجليزي، وهو شديد المضاء في أيدي الناقدين لأحوال المجتمع. ومن فرسانه المجلين (سويفت). أما في العربية فهذا النوع من الفكاهة نادر؛ ولعل أصلح مثال له مقطوعة المتنبي التي نظمها حين رأى أعرابيين يتفاخران بقتل جرذ، ومنها يقول:

وأيكما كان من خلفه؟ ... فإن به عضة في الذنَب

وقول بشار وقد تفاخر أمامه رجل بأنه شاعر من نسل شعراء: (إذن أنت من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً).

ويشترك الأدبان في ضرب من الفكاهة هو هجاء المرء نفسه وضحكه من عيوبه. على أنه في كلا الأدبين غرض من القول متكلف، يُطلب به التظرف ويعوزه الصدق والعمق. فالانحناء على النفس بالتثريب ليس خلقاً في الإنسان بله الأديب، والذي يتصنع نقد نفسه لا يضع يده على مغامزه وعوراته الصحيحة، ولا يسطر لنفسه إلا مدحاً بما يشبه الذم، ولو رماه غيره بما يرمي به نفسه طلباً للظرف لثار به وأنكر مزاعمه أشد إنكار.

ولما كانت المرأة الإنجليزية أكثر بروزاً في المجتمع والأدب من المرأة العربية، فقد نالت دونها حظاً عظيماً من مداعبة الأدباء الذين أوسعوا غرائزها ومتناقضات أفعالها درساً وتصويراً. ومن أبرع من كتبوا في ذلك (بوب) الذي نظم قصيدة طويلة على طراز الملاحم الكلاسية أودعها وصفاً دقيقاً لأحوال فتاة جعلها نموذج المرأة في مجتمعِه، من احتفالها بالأزياء وتذبذبها بين المعجبين بها، إلى كل صغيرة وكبيرة في حياتها المنزلية والخارجية في أسلوب متهكم شائق.

ومن الفكاهات ما قوامه التلاعب بالألفاظ المتشابهة في النطق أو الكتابة؛ وقد كان هذا العبث اللفظي شائعاً على عهد شكسبير الذي ضرب فيه بسهم، ثم أهمل بعد ذلك في الإنجليزية واستثقل. مّا في العربية - حيث كانت للألفاظ عند الأدباء دائماً مكانة عالية - فظل هذا الضرب من التفكه مألوفاً. فأبو نواس يوافق مدعياً للنسبة العربية على انتمائه إلى طي، ولكن مع إضافة نون وباء في أول الكلمة. ويقول في بخيل:

وما خبزه إلا كآوى يُرَى ابنه ... ولم يُرَ آوى في حزون ولا سهل

وقد ازدهرت الفكاهة في الشعر العربي في صدر العصر العباسي، وبرز في مضمارها في أجيال متتالية طبقاتٌ على رأسها بشار فأبو نواس فدعبل فابن الرومي؛ وتمتاز في شعر الأوَّلَيْن بالاستهتار، وفي شعر الثاني بالصرامة ولذع السخرية، وفي شعر الأخير ببراعة التصوير. وازدهرت الفكاهة في الشعر الإنجليزي في العهد الكلاسي في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر، وهو العهد الذي اشتد فيه الأثر الفرنسي في الأدب والمجتمع الإنجليزيين، وكان من فحول الفكاهة فيه سويفت وبوب ودريدن.

والحق أن ذلك العهد هو أشبه عهود الأدب الإنجليزي بالأدب العربي؛ ففيه انضوى الأدب حيناً تحت جناح الملكية وسار في ركاب الحاكمين، واختلط بالسياسة وخاض غمارها، وانغمر في جو المدينة وأهمل جانب الطبيعة، وتأنق في اللفظ وأغرب في المعنى، واحتدمت الخصومات الأدبية السياسية بين رجاله مماثلة لما كان بين جرير والفرزدق، وبشار وحماد، والبديع والخوارزمي، من مصاولات ومقارعات؛ وولِعَ الأدباء بالوزراء والقواد، وفشت الفكاهة واتخذها فريق سبيلا للمجون، وفريق ذريعة للنقد الاجتماعي والإصلاح.

وقد نظم دريدن أحد فحول ذلك العهد قصيدة هجاء لشاعر مزاحم له أفعمها بالتهكم المكسو بثوب الجد، وبوّأ غريمه (عرش الغباوة) في جو من الجلبة والمراسيم والمواكب والشارات مماثل لتتويج الملوك، وجعله يلي ذلك العرش معهوداً إليه من شاعر غبي من شعراء الجيل السابق لجيلهما. ولهذا القصيد الساخر مماثل في النثر العربي شديد الشبه به، وإن يكن قد كُتب قبله بنحو ثمانية قرون، أعني العهد الذي كتبه الصابي على غرار عهود الخلفاء والأمراء إلى عمالهم، على لسان مطفل أكول إلى آخر هو المقصود بالدعابة، وقد بدأه بقوله: (هذا ما عهد به علي بن أحمد المعروف بعليكا، إلى علي بن عرس الموصلي حين استخلفه على إحياء سننه، واستنابه في حفظ رسومه، من التطفل على أهل مدينة السلام وما يتصل بها من أرباضها وأكنافها، ويجري معها في سوادها وأطرافها، لما توسمه فيه من قلة الحياء، وشدة اللقاء، وكثرة اللَّقم، وجودة الهضم).

وتتسم الفكاهة في الأدب الإنجليزي على العموم بالعفة التي هي سمة الأدب كله كما سبق ذكره في كلمة سالفة؛ أما في الأدب العربي فتهوي أحياناً في يد الهجائين إلى حضيض السباب، وفي يد المجان المستهترين إلى وهدة الأفحاش. وتتعلق الفكاهة الإنجليزية بالصفات والأخلاق والأعمال وتكشف المتناقضات من آراء الناس وأقوالهم؛ وفي العربية يتناول العبث الخَلْقَ بجانب الخُلُق. فدعابات ابن الرومي ملأى بذكر أعضاءِ الجسم من أنوف وأقفية ولحى، وعيوبه من حدب وصلع وعور. ويُشَبَّهُ المعبوثُ بهم بالحيوان، فيقول حماد وقد زعم بشار أن له جنّياً يُوحي إليه:

إذا خاطب الجني قرداً مشنَّفاً ... فقل لخنازير الجزيرة ابشري

وفي كلا الأدبين فحول من الأدباء نأى بهم طبعهم عن الفكاهة، وسما بهم قصدهم في الحياة عن العبث واتسمت آثارهم وحياتهم بالجد والعبوس، منهم في الإنجليزية ملتون ووردزورث وتنيسون، وفي العربية المتنبي والشريف الرضي وأمثال أولئك عادة ذوو مطامع بعيدة يستغرق نشدانُها أنفسهم. ورسالات لا ينفكون عن النظر إليها، أو مُثُلٌ عليا يُحسون أن التفكه يهبط بهم من عنانها.


فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 170
بتاريخ: 05 - 10 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى