رسائل الأدباء رسالة من د. عبد جاسم الساعدي الى جيلالي خلاص

عزيزي جيلالي ...
عدت قبل أيام من بغداد، بعد غيبة طويلة، يمكن اعتبارها منقطعة لولا شرط العلم بالمكان.
كنت حزيناً كل الحزن، أن أرى بغداد المشبعة بالحركة والحيوية والجمال، كما عهدتها وركضت في شوارعها، هامدة كأنها تؤبن عزيزاً عليها.
انزاحت الحركة عن الأحياء الشابة في بغداد وتحولت الى خراب وأنقاض هجرها الناس.اندهشت، شعرت بالخراب النفسي، لم يبق في شارع الرشيد التاريخي المعروف بتراثه الثقافي والحضاري والسياسي، شيئاً يذكر وكأن جامع "الحيدرخانة " التاريخي قد أغلق أبوابه وانفض الناس من مقاهي الشارع الثقافية التي عرفت في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات. ذهبت عن المناطق الشعبية نكهتها في باب الشيخ وباب المعظم وفضوة عرب وشارع الكفاح.
يبدو أن النظام البعثي السابق قد خلع عن قصد أبواب بغداد وجعلها عرضة للرياح والعواصف، شوّه الطابع الجمالي الشعبي لحضور الشيخ عبد القادر الجيلالي في باب الشيخ، فلا تعرف هل لا زال في مكانه أم انتقل الى مكان آخر، فالمبنى الجديد لا يوحي ببقائه. تسرح الكلاب السائبة في منطقة البتاويين والباب الشرقي. بغداد لم تعد كما كنا نتجول ونتظاهرفيها.
أمتلأت بالنفايات والمتسكعين واللصوص والمهربين. اختفت المرأة منها وانسحبت الى سجنها في البيت، فلا تشم في بغداد غير رائحة الذكورة وأصوات الباعة وهواجس الخوف من دبابات المحتلين التي ترابط في كل شارع وزقاق.
تسمع هديرها كل لحظة, فصارالعراقيون يميزون بين أنواعها, لهم خبرة في أصوات الطائرات والمدفعية والدبابات. بقيت جدارية فائق حسن في ساحة الطيران شامخة، تتحدى الرعب والموت. يهرول الناس, يتحركون بسرعة قبل مغيب الشمس للعودة في بيوتهم في مدينة الكاظمية والثورة والزعفرانية وبغداد الجديدة والكرادة. لا يبدو لديهم متسع من الوقت للنظر الى الجدارية.
تقف امرأة تحتها تتسول المارة لمساعدة معوق في عربة، وترابط الى جانبها دبابتان امريكيتان. أما مأثرة جواد سليم, فتبدو وقد غزاها الذبول، لم تجدد نفسها، تشعرك بانحسارها وعزلتها عن العالم الذي يجري سريعاً حولها.
صديقي جيلالي ماذا تقول اذا عزلنا شارع العربي بن مهيدي في الجزائر العاصمة عن مكان، كما لو ألغينا شارع الرشيد من بغداد ؟ تذكر يوم وقفنا معاً وقد اصابتني هزَة, أتساءل فيها وأقارن بين ماضي شارع العربي بن مهيدي في الثمانينيات وحاضره الخافت، وكأن زلزالاً هدَ طرفيه.
لماذا تنكفئ الشوارع الجميلة وتنسحب من دورة الحياة ؟
هل للارهاب والخراب والموت صلة، فتفقد بذلك حيويتها ولمساتها الإنسانية ؟
انتقلت بغداد التي عرفناها في شبابنا جميلة، تزهو في حركة الناس فيها، الى الاطراف، فابتعدت عن "دجلة " وأبي نواس وعن المقاهي والحانات المتألقة الرشيقة على امتداد النهر. هل تم ذلك بفعل انشاء الطرق السريعة والأنقضاض على معالمها القديمة، ام لغايات سياسية، حتى لا توازي قصور الرئاسة ولا تشكل قلقاً عليها ؟
عزيزي جيلالي
تتوارد الخواطر وتلتقي بين كلمة الاهداء في كتاب الذاكرة والحنين في القصة العراقية القصيرة في المنفى.. وسؤالك عن حدائق "بارك السعدون" في بغداد..كنا نركض في بغداد . . نحلم، ترتفع من أيدينا طيارات ورقية، هبت عاصفة رعناء، حملت معها أسراب الجراد وحشرات، اغلقت منافذها الى حدائق "بارك السعدون" ترتجَ بين الحين والآخر ذبذبة، طلقات، صمت، جلد، خوف، ذنب..
أحياء بغداد الأخرى، فالخراب شامل وقد زحفت مباني الحزب الحاكم ومقراته الأمنية والأستخباراتية فأقتلعت الأشجار وتحولت الأرض الخضراء التي كنا نقضي أجمل الأوقات فيها الى دور تعذيب واعتقال.
صديقي جيلالي ..سأعود الى بغداد قريباً، لأقضي الشطر المتبقى من حياتي فيها، كأني أعود الى أم فقدت الحنان اليها طوال ثلاثة عقود. لعلني أوقف البكاء والإهانة التي شغلت جزءاً كبيراً من الذاكرة في ديارالغربة.بكيت وعانيت في جزائر عميروش و جميلة بوحيرد واللاز ورشيد بو جدرة الذي أسهم في ايقاف اللعبة الأمنية بين المخابرات العراقية والجزائرية لإعادتي وعائلتي الى بغداد في ليل داهم . يمكنك أن تسأل مدير الأمن العام الهادي الأخضر, الذي اصبح فيما بعد وزير الداخلية في حكومة الشاذلي بن جديد "ولك الحق نيابة عني أن تفتح تفاصيل الملف الذي ألحق ضرراً نفسياً ومعنوياً بي وعائلتي.
حوصرت في دائرة أمن "وجدة" في المغرب لساعات للادلاء بمعلومات عن الجزائر والجالية العربية في المغرب " لمناسبة زيارة " شمعون بيريز" الشهيرة.
بعد عام ونصف العام من سحب السفارة العراقية في الجزائر, جواز سفري وإلغاء عقد عملي في جامعة تيزي وزو والتهديد بالترحيل الى بغداد.
اعتبروا الموضوع مغلقاً في الحال ولا يمكن العودة إليه، لأنه يخالف موافقة وزارة التعليم العالي في المغرب في عقد العمل في جامعة محمد الأول الذي وصلني الى الجزائر.
غلبتني الحاجة اللعينة في لندن على القبول مصححاً "فاشلاً" حسب المفهوم الوظيفي عند الاشقاء العرب طوال أحد عشر عاماً, أكابد فيها مرارة التفرقة والتمييز والحسابات الوطنية و "الشللية" البغيضة والنفاق الذي يبلغ اوجه وشراء الضمائر والكذب الصحافي والأعلامي الفاضح.
تحتفظ الذاكرة المثقلة طوال سني الغربة بصور أخرى جميلة غير التي أوردتها، فتبقى "الجزائر" عنوان المعادلة مع الجهة الأخرى، ساعدتني على الدخول المباشر في أجوائها، فاسندت اليً الجامعة تدريس الأدب الجزائري الحديث لمدة خمس سنين، ما جعلني انهمك بشغف لإصدار كتاب "الشعر الوطني الجزائري بين حركة الاصلاح والثورة " هذا العام, من خلال منشورات التبيين/ الجاحظية.
كما فسحت لي جامعة محمد الاول في المغرب الفرصة نفسها لتدريس الأدب القصصي في المغرب.
لقد كانت العلاقات الحميمة مع أكاديميين وأدباء وباحثين في الجزائر والمغرب علامة جميلة ومضيئة لي في رحلة الغربة.
ومن ينسى من العراقيين احتضان الجزائر في أوائل الثمانينيات الجمع الكبير من الاساتذة والأكاديميين والتقنيين والأطباء وأصحاب الكفاءات الاخرى, الذين غادروا وطنهم إتقاء من بطش النظام فيه. وإن أنسى .. لا أنسى الوقفة الودية لأساتذة جامعة تيزي وزو على قرار إنهاء عقد عملي ومحاولة تسفيري والعائلة الى بغداد.
جيلالي العزيز..
أحيي الألفة والتواضع الجم عند أصدقائنا الجزائريين والمغاربة مبدعين وكتاباً وأساتذة وباحثين. لعل عودتنا الى العراق توفر لنا فرص الوفاء لأستقبالكم في بغداد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى