أ. د. محمد كريم الساعدي - أرسطو وعالم الأشياء الواقعية

أرسطو أحد تلامذة ( أفلاطون ) البارزين ، أتخذ من عملية المواجهة مع الواقع والبحث في مادياته وظواهره حلاً فلسفياً جديداً مغاير لتفكير أستاذه ، اذ رد " الاعتبار الى العالم ـــ عالم الأشياء الواقعية ـــ الذي أعتبره افلاطون عالماً للأشباح والظلال ، وقد فعل ( أرسطو ) هذا بالفعل عندما أنزل المثل من العالم السماوي العلوي الى الأشياء الواقعية وجعل المثل صوراً ، وتصور الصور بوصفها طاقات وقوى كامنة في الموجود تتحرك حركة ( سماها أرسطو الانتليخيا ) وهي حركة صوب غاية محددة من شأنها أن تصبح الإطار الذي تتجمع فيه حركتا خلق الشيء وإيجاده "(1) وهذا الإطار قد غير من الرؤية نحو الأشياء ،أي غير الأتجاه من الباطن الى الظاهر، ومن المثل الى الواقع ، ومن العقل الذي يتجه الى العالم العلوي الى العقل العملي الذي يبحث بالأشياء خارج إطار الماورائيات الأفلاطونية التي شكلت قطع مع العالم المادي . عد ( أرسطو ) هذا العالم الذي يجب أن نبدأ به ونؤسس عليه أفكارنا واعتقاداتنا في إطار البحث وليس الابتعاد والذهاب الى عالم المثل الأفلاطوني الواقع خارج الصورة صورة الأشياء فهو بحث عن التطابق بين الصورة والمادة من أجل الوصول الى الموجود الطبيعي حتى أنه عد الموجود الطبيعي هو الطبيعة بذاتها وليس خارجها ،وعندما وضع نظام للأفكار والمعاني وضعها على وفق هذا التصور ؛ إذ إن" رأي (أرسطوطاليس ) أن الافكار والمعاني المسلمة بالوجود هي الموجودات المحددة والتي تأتي فقط عن طريق العلاقات ومتغيرة الى موجودات أن كل وجود محدد يحمل عناصر منطقية وسليمة التفكير كما يحمل عناصر روحية لا مادية وهو ما يسميه (أرسطوطاليس ) (الشكل أو النموذج ) هذا الشكل أو النموذج الروحي اللامادي كفكرة إذا ما تحقق بالتحديد يكون متماثلاً ومتوافقاً مع طبيعة الشيء المعطى أو جوهرياته لهذا يصبح الشكل أو النموذج هو الجوهر والأساس والذي لا ينفصل عن الشيء ذاته فهو في داخل الشيء وهو شريك في المادة الاساس التي يعيش عليها "(2) . إنَّ ( ارسطو ) إذ يؤكد الى عدم الذهاب خارج العالم الواقعي والطبيعة من حولنا فهو يرى بأن ما يمكن أن نسميه الأفكار التي تؤدي الى عالم المثل عند ( أفلاطون ) هي موجودة في الشيء ذاته في واقعيته على شرط يوجد توافق بين الفكرة والشيء وتحقق التطابق يكون العالم محسوماً ومعاشاً بشكل سليم وهذا التحقق ناتج من كون الأشياء في الوجود هي من تحقق معانيها في داخل الذهن البشري إذا تم الاستبصار بها بشكل سليم وليس البحث في خارجها عما يؤكدها ويؤكد وجودها فكيف نتحقق من وجود صورها في عالم آخر قد لا يصل اليه بعض البشر الى عالم مثالي مبني على انطباعات قد لا تتحقق و تتطابق مع ما هو موجود كما الشيء في الطبيعة .إنَّ " مزاج (أرسطوطاليس) الفكري درج على رقية العالم التجريبي من منطلقاته الخاصة يوصف واقعاً مئة بالمئة لم يستطيع أن يسلم باستنتاج (أفلاطون) القائل : أن اساس الواقع موجود في ملكوت كيانات مثالية متعالٍ ولا مادي كلياً آمن .أن الواقع الحقيقي هو عالم الأشياء الملموسة القابل للإدراك بالحواس لا عالم أفكار سرمدية عصي على الأدراك ونظرية الأفكار بدأت في نظره غير قابلة للإثبات من ناحية ، ومثقلة بحشد من الصعوبات المنطقية من ناحية ثانية "(3) ، لذا فهي لا تتماشي مع الفكر الأرسطوطالي حتى وأن كان هذا الفكر قد تبناه في مرحلته الأولى للفكر الأفلاطوني ، ولكن عملية بناء منظومة معرفية عن الكون والحياة والإنسان يتطلب إيجاد مسلمات منطقية يتعامل معها الفكر الفلسفي مع الواقع المعاش دون البحث فيما وراء الأشياء عن الأشياء ذاتها وفي ذاتها ، لذا فقد عمل الفكر الأرسطوطالي بالبحث عن الصورة والمادة وما هو موجود بالقوة وما هو موجود بالفعل وما هي العلل الأربعة التي يمكن من خلالها يمكن معرفة الوجود والموجود والجزئي المقيد بالزمان والمكان ، لذلك جعل العلل أربعة أنواع وهي " العلة المادية والعلة الصورية والعلة الفاعلة والعلة الغائية ، العلتان الأولى والثانية تمثلان الوجود الكوني للشيء والثالثة والرابعة تمثلان الوجود الحركي للشيء أو تمثلان الشيء في حالة التغيير والضرورة (...) وعلى ذلك فأن نقطة البدء في التفكير الواقعي بوجه عام ليست هي الذات العارفة ( المثالية الرومانسية ) وليست الصيرورة الموجهة التي يسيطر عليها وجود المطلق فيها (الواقعية الروحية ) ،بل الكون الطبيعي في صيرورته الأصلية ( الواقعية والطبيعية) "(4). إنَّ ما بين الوجودين الحركي والكوني للشيء وحركيته هو ما يقع في تشكيل المعرفة الأرسطوطالية الواقعية في فهم الأشياء بكلياتها الكوزمولوجية وحركتها التي تسهم في صنع ماهيتها وتثبيت صورها التي تنتقل من حال الى آخر نتيجة لهذا الوجود الحركي الذي يصاحب الأشياء في مديات وجودها منذ بدايتها وحتى النهايات و" هنا يظهر كل الظهور أن أرسطو يعطي أولوية كبيرة للبحث عن العلل كموضوع أساسي للوعي الفلسفي ويؤكد أن هذا الأمر لم يعط حقه كاملاً ،ولذلك فهو يجترح رؤية جديدة أساسها أن الهيولي والصورة علتان ذاتيتان يتكون منهما الشيء ويعلم بهما كما يتكون التمثال من النحاس وصورة ( ابولون ) علما أن العلة تقال أيضاً على نحوين آخرين الواحد ما تصدر عنه بداية الحركة والسكون والثاني الغاية التي تقصد اليها الحركة فتكون العلل أربعاً : علة مادية وصورية وفاعلية وغائية "(5) ،وتتحقق ( الانتليخيا )عند ( أرسطو ) من خلال العلل الأربعة التي تشكل مضمون الحركة التي تحتوي في داخلها حركة خلق الشيء وحركة إيجاده .

الهوامش

  • سليمان ، جمال محمد احمد : مارتن هيدجر : الوجود والموجود ، بيروت : دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، 2009 ، ص 36.
  • توماس ، بيتش : انطولوجيا المسرحية ، ترجمة : كمال الدين عيد ، القاهرة : المركز القومي للترجمة ، 2009 ، ص 116 .
  • تارناس ، ريتشارد : آلام العقل العربي ، ترجمة : فاضل .... ، ابو ظبي : كلمة ، هيئة ابو ظبي للثقافة والتراث ، 2010 ، ص 85.
  • الكومي ، محمد شبل : الوجود والحرية ، القاهرة : الهية المصرية العامة للكتاب ، 2009 ، ص 105-106.
  • أسبر ، علي ممد : ماهية الوعي الفلسفي ، دمشق : دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر ، ط1 ، 2010 ، ص 40.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى