د. محمّد محمّد الخطّابي - الخِيرَالْدَا (قصّة قصيرة)

القطار يقطع المسافات فى سرعةٍ خارقة، المسافرون حيارىَ، ارتسمت علامات الشّدوه على وجوههم، الزّوابع والتوابع تهبُّ علينا بين الحين والآخر، الأشجارُ والأحجارُ والمباني تعود الزّمانَ والمكانَ القهقرى أمام زحف القطار فى إصرار مُذهل، وسرعةٍ فائقة، القطار ما زال مستمرّاً فى انطلاقه. أرخىَ الليلُ سدوله، بدأت أشعّة القمر تتسلّل بين المرتفعات والآكام، راعَ الناسَ ما رأوا، كلّ واحدٍ منهم صار ينظر إلى الآخر فى عُجْب وذهول. فمنذ خروج القطار من ذلك النفق المدلهمّ الحالك انقشع كلّ شئ أمام أعيننا، تغيّر كلّ شئ فى لمحٍ من العين، وكأنّ الدّنيا قد أضاءت بعد ظلام، واخضرّت بعد اقفرار، تغيّرت ألواننا، وأشكالنا، وسحننا. اِلتفتٌّ ناحية اليمين لأرى جليسي فى المقعد، فإذا بقبّعته الإفرنجية تحوّلت إلى عمامةٍ زرقاءَ داكنة، وها هي ذي ملامحُ مُحيّاه تتغيّر كذلك لتفقد بياضَها، وتكتسب بشرة الوجه لوناً يميل للسّمرة يشبه لونَ الأرض.

أخذ الرّجلُ يُحدّق فى وجهي وكأنّه يعرفني منذ قرون خلت، كانت دهشتي عظيمة أنا الآخر عندما رأيته يُمعن النّظرَ فى الجهة التي تعلو رأسي، ولم تكد ضحكته تتفجّر من فيه حتى ردّدت صداها المقصورة التي نملأها صحبة حفنة من المسافرين الذين كان مُعظمهم يغطّ فى نوم عميق. بعد ما أصابهم ما أصابنا من تغيّرٍ فى السِّحن، والجَنان، واللسان، والأردية.

– أيُّ دابةٍ هذه التي نركبها يا صاح…؟

كاد لساني يغرق فى جوفي، فرّكتُ عينيّ وأذنيّ، كيف يحدّثني هذا الإفرنجي الأشهل بلسانٍ عربيٍّ فصيح..؟ لم أتردّد، ولم أترك للدّهشة مجالاً لتعتريني، بل رددتُ عليه بلغة الواثق من نفسه:

– إنهّا حكمة الله يا أخي، وأنعم بها من حكمة.

وأردفتُ:

– من أين وإلى أين…؟

– من مجريط العامرة وإلى إشبيلية الزّاهرة.

عندما توطدّت صلاتنا، وتأكّدتُ من حسن طويّة الرّجل ونيّته، اِنقشعت غمامة الحيرة بيننا، وصار يسألني فى اِنشراح عن أحوال بلنسيّة، وشأن مُرسية، وعن أخبار شاطبة، ومآل جيّان. فاعتراني الشّدوه ثانيةً إلاّ أنني تظاهرتُ بأننّي على علمٍ ويقين بأخبار هذه الحواضر، والمداشر، والأصقاع جميعِها.

فقلت:

– لا جديد .. كلّ شئ على ما كان عليه.

وكان فى اِعتقادي أنّني تنصّلت من سؤاله إلاّ أنّه سرعان ما قاطعني:

– تلك حكمة الإله، فلكلِّ شئٍ إذا ما تمّ نقصانُ…!

* * *

عندما طفقتْ أشعّةُ الشّمسُ تتوسّط كبدَ السماء، وصل القطارُ المحطةَ الواقعة فى وسط المدينة العتيقة، فإذا بجموع من البشر فى أثواب بيضاء ناصعة يمشون الهوينى، فى زحمة بدون اِكتظاظ، وعجلةٍ دون إسراع، وروائح الطّيب تملأ الأجواءَ عبقةً،زكيّةً، فوّاحة. نزلنا أنا وصاحبي واِختلطنا داخل الجمع الغفير، فجرّنا مدّه حتى ألفينا أنفسَنا داخل المسجد العظيم، وقد اِنطلق صوت المؤذّن حلواً رخيماً سُمع فى كل المدن والقرى، والمداشر، والعشائر، والبقاع، والضّيع والأصقاع. صاح الإمام فى الجموع: الله أكبر، ثمّ صار يخطب فى الناس، حسب ابن بسّام الشنتريني فى “الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة”:

“أمر يعقوب المنصور الموحّدي رضي الله عنه خلال إقامته بإشبيلية بعمل التفافيح الغريبة الصّنعة، العظيمة الرّفعة، الكبيرة الجرْم، المُذهبّة الرّسم، فرُفعت فى منارنا هذا بمحضره. وحضر المهندسون فى إعلائها على رأيه مركّبة على عمودٍ عظيم من الحديد الحامل لهذه الأشكال المسمّاة بالتفافيح إلى الهواء. كان عدد الذّهب الذي طليت به هذه التفافيح الثلاث الكبار، والرّابعة الصّغرى، سبعة آلاف مثقالاً كباراً يعقوبية. عملها الصُنّاع بين يديّ أمير المؤمنين، ولمّا كملت سترت بالأغشية من شقاق الكتّان لئلاّ ينالها الدّنس من الأيدي والغبار، وحُملت على عجَل مجرورة حتى إلى الصّومعة بالتكبير عليها والتهليل حتى وصلت، ورُفعت بالهندسة إلى أعلى الصومعة، ووُضعت فى العمود، وحُصّنت بمحضر أمير المؤمنين أبي يوسف المنصور، وبمحضر وليّ عهده أبي عبد الله النّاصر، وجميع بنيه، وجميع أشياخ الموحّدين، والقاضي، وطلبة الحضر، وأهل الوجاهة من الناس، وذلك يوم الأربعاء عقب ربيع الآخر من عام أربعة وتسعين وخمسمائة،ثمّ كشفت عن أغشيتها فكادت تغشي الأبصارَ من تألقها بالذّهب الخالص الإبريز وبشعاع رونقها”.

كنت كمن أغمي عليه لفترة مّا من الوقت، فرّكتُ عيني، ثمّ جمعت حقائبي، وتقدّمت بخطى وئيدة،متثاقلة، قطعتُ الميدان الكبير، واِمتطيتُ سيّارة أجرة نحو الفندق الذي يقع قبالة صومعة الخيرالدا بالذات، الذي عادة ما أنزل فيه كلما عنّ لي زيارة مدينة إشبيلية وصومعتها الأسيرة. صاح سائقُ التاكسي وهو يمرّ بمحاذاة سور ”الجامع الكبير “: سِنيُورْ، رْوِينَاسْ أرَابِيسْ، رْوِينَاسْ أرَابِيسْ.

فأدركت أنّه كان يقول لي إنّها آثارنا، إنها آثارنا. قهقه ثمّ، ونفث دخاناً كثيفاً من فمه وإستمرّ فى سوقه فى إتجاه الفندق، بينما سرتُ أنا أتمتم فى همس، وأقول فى نفسي: أجل……. هذه آثارنا تدلّ علينا / فانظروا بعدنا إلى الآثار !

* * *

ما أن اِستلقيتُ على السّرير حتى ظهرت لي صومعة الخيرالدا (*) عاليةً،سامقةً، شامخة، مشعّة جميلة تتوسّط النافذة تناطحُ عنانَ السّماء، تعلوها مجموعة من النواقيس، سرعان ما بدأت تقرع..وتدعو المؤمنين للصّلاة، مثلما كان يفعل المؤذّن منذ قرون خلت.

كان الجوّ صحواً، هادئاً، ساكناً وقد بدأ الغسق يكسو أسوارَ المدينة بألوانه الحمراء الزّاهية بينما تتراءى أشجارُ الليمون، والنارنج، والبرتقال، تملأ الحدائقَ ذات الطابع العربي الأصيل التي تنتشر فى مختلف أرجاء المدينة وأرباضِها. دنوتُ من النافذة، وصرتُ أتأمّل الفواكهَ، والثمارَ المدلاة فى أغصانها من الأشجار الباسقة.

نظرتُ إلى أسفل فكدتُ أفقد عمامتي، أعدتها إلى رأسي، وعاودتُ تثبيتها، طفقتْ ريحُ الصّبا تأتي من كلّ صوب، محمّلةً بروائح الطّيب، والمِسك، والعَنبر، والزّيتون، والتمر، والعنب، والفلّ، والقرنفل، والياسمين، والرّياحين، مختلطة بحلو الكلام، وعذب الأنغام، تبدَّى لي وسط الرّصافة والجسر نخيلٌ كثيف، تناءى عن بلد النّخل، ومياه، وأنهار، وأشجار، عالية مختلف ألوانُها وأشكالُها، يصل حفيف أوراقها أسماعي من بعيد، وخرير المياه، والنافورة العتيقة المهجورة،التي تتوسّط الحديقة، يئنّان، يبكيان معاً العهدَ والجدَّ والدّارَ، يشكوان فى اِنسجام وتناغم أبديٍّ مبكٍ بُعْدَ الدّيار، وشَحْطَ المَزَار.

طفقتِ الطيورُ المغرّدة بالأدواح الشّاهقة تبعث أنغاماً رخيمة أصيلة تختلط فيها ومعها أصواتُ زرياب، والموصلي، بقوافي اِبن خفّاجة، واِبن زيدون، وحمدونة بنت المؤدّب، وولاّدة بنت المستكفي، وابن سهل، وابن زُمرك… اِلتفتُّ داخلَ الحجرة، فقرّرتُ أن أخلد للنّوم بعد أن أخذ التّعبُ منّي كلَّ مأخذ، لم أجد تفسيراً للصّور التي تتراءى لي، وتلازمني ولا تبرحني، القطار، العمائم، الحمائم، الأذان، النواقيس، الخطيب، المصلّون، الخليفة، التفافيح، الطيور، الثمار، الأشعار!

* * *

اِستعذتُ بالله، وقمتُ لتوّي، وقرّرتُ أن أتوضّأ لأصلّي لعلَّ اللهَ يُقصي عنّي ما يتراءى لي من صور، وأشباح وأوهام، وأخيلة تختلط ما بين النّوم، واليقظة، والأحلام، حاولتُ أن أثوب إلى رشدي، وأستجمع كلّ قوّاي العقلية، والذهنيّة، والنفسية وأقنعها أنّني جئتُ إلى هنا مدعوّاً لحضور تظاهرة ثقافية تاريخية كبرى، وبالمرّة لأخذ قسطٍ من الرّاحة والاِستجمام، إلاّ أنّ أصداء الأنغام الرّخيمة ما برحت تلازمني، وقرع أصوات نواقيس الكنائس ما فتئت تصدح فى الآفاق، وما زلتُ فى حيرةٍ من أمري.

الصّمت يملأ الغرفة، وعيناي ما زالتا مفتوحتين تحدّقان فى الظلام الدامس تستجديان الكَرىَ فى خنوع، ليس من ضوء سوى شعاع القمر الذي يتسلّل من النافذة فى شكل ذرّات مبعثرة، متناثرة، قوية، نفّاذة، وهّاجة.. ترى لماذا يتضاعفُ ضوءُ القمر فى هذه المدينة..؟

أظنّني حيناً أنّني قد نمتُ، أومكثتُ برهةً بين اليقظة والمنام، وأخالني حيناً آخر أنّني ما برحتُ أقاوم شياطينَ الجنّ والإنس التي تتمرّغ فى دهاليز عقلي، وتسبح فى أحشائي، وتتمرّغ بين أضلعي، وتحيلني إلى بوتقة اِجتمعت فيها كلّ الحِقب الزّمانية السالفة، التي غبرتْ، وخلتْ، ومضتْ، واِنقضتْ، وذهبتْ لحال سبيلها… ربّاه ماذا أصنع..؟

تتلاطمُ الأصوات، وتتزاحمُ الصّور، ما انفكّت الكلمات تنثال منهمرة على فمي بدون رابط أو قيد… يا أهلَ أندلس للّه ذرّكمُ… ماءٌ وظلٌ وأنهارٌ وأشجار.. أنظروا بعدنا إلى الآثار…. يا زمانَ الوصل بالأندلس… وجاؤوا بأنفاطٍ عظامٍ كثيرةٍ… يحطّمون أسوارَ المدينة المنيعة، سلامٌ على القاضي ومَنْ كان مثله… يا حسرتي للعلم أقفرَ ربعُه… إذ يقود الدّهرُ أشتاتَ المُنى… ما جنّة الخُلدِ إلاّ فى دياركمُ… أتى على الكلِّ أمرٌ لا مَردَّ له… يروع حصاه حاشيةَ العذارىَ…فتلمس جانبَ العِقد النّظيمِ!..

أيّ سعيرٍ هذا الذي أتلظّى فيه، أضغاثُ أشعار، وأشلاء أحلام، وبقايا صُوَر، العمائمُ، والحمائمُ ما زالت تشكّل قوسَ قزحٍ حولي حتى كدتُ أتحوّل إلى أثير تائه فى عباءة هذا الليل الحالك البهيم، أو أغدو روحاً حائرة،هائمة، تحوم حول مساجد، وكنائس، وبيَع قرطبة الغرّاء، وغرناطة الحمراء، وطرابلس الفيحاء، وطليطلة، والفسطاط، وحِمص، وإشبيلية، ودمشق، وبيروت، وشاطبة، وفاس، ومرسية، ويثرب، وجيّان، والقيروان، ومرسية، ووهران، وبادس، والمزمّة وتطوان… باحثاً عن هذه الحبّات الثماني المتناثرة الثمينة التي فرّط الزّمنُ أطرافَ عِقدها النظيم.

فتحتُ عيني فى إجهاد، كانت أصواتُ البّاعة المتجوّلين تصلني من بعيد، وغنائيّات حسناوات إشبيلية، وضرباتُ أرجلهنّ، وتصفيقات أكفهنّ تداعبُ سمعي ممزوجة بهديل الحمائم، وزقزقة العصافير، وخرير المياه المتدفّقة من النافورة المرمريّة البلّورية التي تتوسّط السّاحة العمومية الكبرى التي تفصلني عن الخيرالدا. نهضتُ لتوّي، وإتجهت نحو النافذة التي تطلّ على السّاحة. فإذا بإنعكاس الشمس يكاد يذهب ببصري يشعّ فى منارة “برج الذّهب” (**) وعلى صفحة نهر ”الوادي الكبير” الذي يشقّ المدينة الجميلة نصفين، التي كانت ذات يومٍ من أبهى حواضر الخليفة الشاعر المنكود الطالع المُعتمد بن عبّاد، الذي كانت له فيها السّلطة، والهيبة، والصّولة، والصّولجان.

مرّت ثلاثة أيام فى لمحٍ من البصر، فى شغفٍ وحسرة، وحبور وحيرة، وعندما عدتُ إلى مدريد وجدتُ بالبريد ظرفاً، فتحته على عَجل، فإذا بداخله دعوة لحضور حفل كبير تقيمه ذلك المساء إحدى المؤسّسات الثقافية الإسبانية الكبرى بمناسبة ”الذكرى الثمانمئة لتشييد الخيرالدا “، طويتُ الدّعوة فى هدوء، وأدخلتها فى أحد جيوب سترتي. اِبتسمت، ودلفتُ إلى داخل البيت، أنزع عنيّ ملابسي، لأستريح من عناء، ووعثاء رحلةٍ طويلةٍ، طويلةٍ، دامت ثمانمئة سنة!

______________________
* الخيرالدا” من أكبر، وأجمل المعالم العمرانية الحضارية بمدينة إشبيلية بالأندلس، الأخت التوأم لصومعتيْ “حسّان” بالرّباط، و”الكتبيّة” بمراكش، من بناء الموحّدين فى القرن الثاني عشر الميلادي.
** برج الذّهب” أقوى وأمتن وأشهر القلاع الحصينة والمنيعة فى القرون الوسطى بإشبيلية من بناء الموحّدين كذلك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى