كيت سوبر - الماركسية والتفكيكية.. نظرة على أطياف ماركس (النص كاملا) ترجمة: سعيد العليمى

يـعرض الفصل الحالي كما يوحي بذلك عنواني بعض الأفكار حول المواجهة بين الماركسية والتفكيكية كما تتمثل في كتاب جاك دريدا أطياف ماركس (1). وحتى أقدم بعض الخلفية لسياق المناقشة ، سوف أبدأ ببعض الملاحظات الأكثر عمومية حول وضـع الماركسية اليوم ، وأثر نظريـة وسياسـات ما يمكن أن يدعى بشكل فضفاض ما بعد الحداثة عليه .
قلة من الناس سوف تجادل في حقيقة أن الإضطراب الثقافي والسياسي المزدوج الذي تشهده الأعوام الحالية - وأهمها هيمنة أنماط التفكير ما بعد الحداثيه في الغرب التي إقترنت بإنهيار " الإشتراكية الفعلية القائمة " في أوروبا الوسطى والشرقية والتلاشي اللاحق لهياكل قوى الحرب الباردة – قد غير بشكل درامي السياق الذي يوجه فيه أي شكل من أشكال الخطاب الاشتراكي. وبالفعل ، فقد بلغ الأمر ببعض ممن ينتمون إلى اليسار أن يجادلوا بأنه لا ينبغي لنا بعد ذلك أن نحاول إنقاذ فلسفة فقدت الثقة بشكل مضاعف . يحاول مثل هؤلاء الناس أن يثبتوا على ضوء أحداث أوروبا الشرقية ، أنه يتعين علينا أن نقبل حقيقة التحليل ما بعد الحداثى للماركسية بوصفها عقيدة " حكاية كبرى " قدر لها أن تتفق عن ممارسة شمولية ، تكذب من الآن فصاعداً عظمة المخططات المطروحة للترقي الإجتماعي . فيما تبنى البعض الآخر خطاً مناقضاً من الاستجابة ، محاولاً إثبات أن لا شئ يتعلق بهذا السياق المتغير ينبغي أن يسمح له بأن يخل بإتزان التفكير الماركسي . لقد طرحوا رأياً مفاده أن البراهين والبرامج الجوهرية للإشتراكية لم تتأثر بأى معنى بإنهيار نظام شديد البعد عن " الإشتراكية الحقيقية " أو بالأنماط النظرية ما بعد الحداثية التى تمثل ببساطة إنعكاسا للمنطق التسليعي للرأسمالية، وأكثر أشكال التعبير الليبرالية البورجـوازية معاصرة . وفقاً لوجهة النظر هذه عن الأحـداث الراهنـة لا شئ هنا يستدعي أي نوع من إعادة بناء التفكير الاشتراكي أو الماركسي . على النقيض من ذلك ، فإن الواجب هو إعادة تأكيد معتقداته الأساسية بكل ما يمكن من قـوة كثقل مضاد في مواجهة ليبرالية اليسار الزاحفة .
سأحاول أن أبرهن على وجوب رفض ردى الفعل معاً . فكليهما يفتقر إلى فهم تعقيدات الوضع الذي نجد أنفسنا فيه الآن ، وكلاهما - رغم أنهما يستنتجان نتـائج مختلفـة من هـذا الوضع - يعتمدان على وضع تعـارض شديد التبسيط بين المنظورات " الإشتراكية " و " ما بعد الحداثية " . يتجاهل النمط الأول من رد الفعل السمة الرجعية المباشرة لكثير مما أعقب الأيام العنيفة للثورة في 1989 . فربما تكون الإشتراكية الفعلية القائمة قد شُيعت ، ولكن الفراغ الذى تركته نادراً ما ملأته تلك اليوتوبيا التعددية لتوليد الإختلاف التى دعانا إليها ما بعد الحداثيين عند إنقضاضهم على الماركسية وعلى منطقها " الشمولى " . على النقيض مـــن ذلك، يمكننا أن نجادل بأن ما أقصى وأنكر عليه أي تمثيل سياسي جاد في أوروبا الوسطى والشرقية هي تلك الأشكال من الثقافة النقيضة المعارضة ( النسوية ، البيئوية ، النـزعة المناهضة للعسكرية ، الإشتراكية الديمقراطية ) التي تطلعت لتأسيس " طريق ثالث ما " لتجاوز التعارض الثنائي للحرب البارده . بهذا المعنى فإننا لم نشهد تدشينا لمنطق بديل نقيض الرأسمالية - ضد - الشيوعية ، وإنما لزخم إقتصادى وسياسي متـلاحق يهدد بإمتصاص كل " الإختـلاف " التعارضى ضمن " هوية " مجتمع السوق على النمط الغربي .
ولكن إذ نطرح إعتراضاً على الإستجابة الأولى فهذا يعنى في هذه الشروط أن نلفت الإنتباه إلى ما يسم به النمط الثاني من الإستجابه ، وهو الماركسى الأرثوذكسي، من إغفال : أي ، الطابع الهام والبنائي لأشكال سياسات " الإختلاف " التي تحدت الطريقة التي تجاهلت بها الماركسية الأرثوذكسية موضوعات السلام ، والبيئة ، وموضوعات التمييز بين الجنسين ، والإضطهاد العرقي والجنسي - أو سعت إلى تمثلها ضمن سياسة طبقية . الى المدى الذى قد توصف فيه هذه الحركات الإجتماعية الجديدة التى إنبعثت من هذا التحدي بإعتبارها " ما بعد حداثية " في تأكيدها " الهويات " الجديدة والفاعلين السياسيين الجدد ، وفي مساءلتها لأشكال معينة من نزعة التنوير الإنسانية والعلموية ، سوف أحاول أن أبرهن أن أثر التفكير ما بعد الحداثي على الاشتراكية الأرثوذكسية لم يكن بأية حال سلبياً كلية. لقد كان هاماً بالفعل مساءلة عقلانية التنوير ، والإيمان بالعلم والتقنية ومفهوم " الحياة الجيدة " الذي ألهمته ، ليس لأنها في أقل القليل قد شجعت مقاربة أبويه وشكلاً تقنياً للرفاهية الإنسانية وحفزت نماذج من النمو والاستهلاك سرعان ما تتكشف عن أنها بغير سند بيئياً مولده توزيعاً عالمياً مدمراً للثروة ما ينفك يتزايد .
لقد احتجنا (ومازلنا نحتاج ) على حد سواء الى أن نتحدى الفكرة الإنسانوية بمعنى أننا نحتاج إلى أن نكون واعين بالمجموعات والجماعات المستبعدة أو المهمشة بواسطة إدعاءاتها الشمولية - وأحيانا - الإمبريالية بلا جدال . كان الباعث إلى تأكيد الإختلاف على الهوية ، ولعرض الاتجاهات المستعمرة في الخطاب الإنساني ، ولإثارة مشكلة " النـزعة الشمولية " في النظرية الشمولية ، هاماً لليسار ، في هذا الصدد ، فالتحولات التي أثر فيها بشأن مقاربــة العلم ، والسلطــة ، والذاتية واللغــة يمكـن أن تنبذ بوصفها صيغــاً متـعددة لــــ " التحريفية البورجوازية " على حساب حبس التفكير الماركسى فحسب عن الإرتباط بالموضوعات والأنصار الذى يمكن أن يجدد منها قوته .
يجب أن ندرك مع ذلك أن حركة ما بعد الحداثة لها ديناميكية دفعتها إلى مواقف نظرية تضع توجهاتها الآن في تعارض مع عديد من التطورات الثقافية التي ساعدت في البداية على أن تـروج . لقد إندفـع المنطق الذي تحدى أنواعاً معينة من " تفكير الهوية " وفكك تصورات معينة عن الحقيقة ، والتقدم ، والنـزعة الإنسانية ، وما إلى ذلك ، إلى مساءلة مطلق إمكانية الموضوعية أو عمل إحالات في اللغة إلى ما ليس بأثر للخطاب . هذا منطق يطلب منا ليس فقط أن نتبرأ من فرضيات التضامن العفوية والمصالح المشتركة ، وإنما أن ننظر لأي إيعاز بالتضامن بإعتباره مشكوكاً فيه. كما أن محاولة تقديم أي تشخيص سياسي عام أو علاج من المفترض أن تندرج في النظريـة " الشمولية " ومن ثم تتلائم مع الممارسة الشمولية . بمعنى آخر ، إن لدينا ديناميكا " نظرية " تسحب البساط السياسي من تحت أقدام الإصرار الأصيل المتضمن في الحركات الإجتماعية الجديدة التي نفكر فيها بمفهوم "هويات " جديدة . إذا دفع منطق الإختلاف إلى حده الأقصى ، فإنه يستبعد أي تحليل كلى وموضوعي من نوع يتيح لنا أن نعينها بصفتها " رأسمالية " ، أو " أبوية " أو بالفعل " شمولية " في إرتباطها مع المشروعات التحويلية التي تؤيدها مثل هذه التحليلات .
إن ما يترتب فلسفيا على هذا هو النسبية المطلقة ، التي تدعونا إلى التبرؤ من مطلق التطلع إلى الحقيقة بوصفها هدفا لا يمكن بلوغه من ناحية المبدأ ، ولا حتى فكرة تنظيمية . فالنظريات هي ، بعد كل شئ ، حكايات فحسب ونحن نختار ذاتياً من بين الحكايات ما يبدو لنا أنه أعظم فائدة أو يوفر لنا أعظم قدر من الراحة . ، ومن هذا المنظور تصبح الأحكام الأخلاقية مسائل تفضيل شخصية ، ولا تتوفر لنا من ثم أي أسس موضوعية للمصادقة على أو شجب أي ممارسة ثقافية نوعية . والنتيجة ، هي أن النقاد حاولوا أن يبرهنوا أن نظرية ما بعد الحداثة تلغى إمكانية الدخول في أي نوع من المواجهة النقدية مع زماننا ؛ وهي إذ ترفض أي تأسيس للقيم ، فإنها بذلك تغض الطـرف مبدئياً عن أكثر التقاليد والأشكال السياسية رجعية وإضطهاداً .(2)
ربما يكون من الأدق والأعدل أن نقول ( مادام المدافعون عن التعددية ما بعد الحداثية قد دافعوا دائما تقريبا عن هذا بإعتباره أساسا لسياسات أكثر ديمقراطية ) فأن ما يثار هنا هو سؤال عن مدى إتساق البلاغة السياسية للمناظرة ما بعد الحداثية مع أنطولوجيتها ضد - الواقعية : الى أى مدى يمكنها أن تعزز بتماسك إلتزاماتها الديمقراطية والمساواتية المعلنة بينما ترفض أن تعترف بأى ملامح ماوراء منطقية ، غير معيارية للعالم ولأنفسنا التى قد تفسر وتبرر الخيار الأخلاقى في صالحها ؟
من المستحيل إنكار الإنتهاكات التى إرتكبت تحت غطاء البلاغة الإنسانية الليبرالية ، أو المدى الذي حميت فيه مصالح نخب سلطة معينة بعرضها بشكل منافق بوصفها شاملة للمجتمع الإنساني ككل . ولكن يتعين علينا أن نسأل بالتأكيد ماذا نفعل حينما نعرض ظلم الإمبريالية الغربية ، أو أشكال الهيمنة الثقافية في بلادنا ، إذا لم نستنكر إخفاق مثل هذه الممارسات في أن ترعى إنسانية ، وكرامـة وحقوق هــؤلاء الذين تستبد بهم . بمعنى آخر ، من الصعب علينا أن نرى كيف يمكن أن نقدم نقداً متسقاً للإضطهاد بدون أن نقر ، ضمنا على الأقل بعمومية الحاجات الإنسانيـة . إذا ثنينا العصا بعيداً في صالح الإختلاف والنسبيــة الثقافيــة حتى نصل إلى إنكار أي قيم أخلاقية شاملة أو خصائص عامه بحكم كوننا بشراً ، عندئذ فإننا لا نقوض فحسب كل أسس أي تضامن يتعاطف مع معاناة الآخرين ، وإنما نحن مدعوون أيضا للنظر لأي وكل تميز يتسم به الاشخاص بإعتباره أمرا جوهريا فيهم، بإعتباره مظهراً سرمدياً لهويتهم الذاتية . بإختصار ، إذا كنا منصاعين فقط لمنطق الإختلاف ، فإننا نهدم بالتأكيد الأسس التي تقوم عليها أي دعاوى بأن الهويات المختلفة لها نفس الحقوق بصدد ذات أشكال الإعتراف : أي اننا نفكك الأسس التي يمكن وفقا لها تصور ترويج أي سياسات ديمقراطية .
قد يجادل بأنها بالتحديد حساسية دريدا للطبيعة المخربة ذاتياً " لسياسات الإختلاف " هي التي أدت به إلى أن يحجم حتى الآن عن أي تصريح محدد حول أخلاقيات وسياسات التفكيك . ولكنه ، في الوقت ذاته ، قد بين أنه حساس لإتهام نقاده بأن التفكيكية قد تظاهرت لوقت طويل بإلتزام أخلاقي وسياسي يسارى بينما ترفض الإعتراف به بصراحة ، أو أن تمنحه شرعية فلسفية . ومن ثم فإن ذلك هو موضع إهتمام أطياف ماركس ، مادام دريدا ينهض هنا أخيراً لتحدى هؤلاء الذين أتهموه بالمراوغة حول هذه الأطروحات ويقدم لنا بعض الإضاءة حولها .
أريد أن أبدأ برصد ثلاث مظاهر هي الأكثر إرتباطـاً في أطياف ماركس في هذا الصدد . في المحل الأول ، إنه يقدم تصريحاً محدداً عن الإنتساب السياسي . يوضح دريدا هنا إبتعاده عن الذين إحتفلوا بزوال الماركسية وعن كل هؤلاء الذين سوف يرددون صدى نبوءات فوكوياما الإنتصارية حول " نهاية التاريخ " (3) إنه في غاية الإستعداد للإعتراف بأننا إذا قسنا " إختلال " زماننا (4) بدرجة البؤس الإنساني التى تبدت بالفعل ، أو وشيكه الحدوث ، فإن زماننا منحرف حقا . وهو يوضح غاية الوضوح في إتهاماته العشر للرأسمالية الكوكبية ، (5) أنه يشارك في وجهة نظر ماركسيه فضفاضة حول مصادر الإختلال .
بينما يتابع دريدا إلى ما لانهاية موضوعته الفلسفية عن ماذا يعنى أن تكون الأزمنة إما "متزنة" أو " مختلة " ، وناصحاً إيانا ، بالفعل ، بأنه من الخطأ أن نحاول تحديد ماذا يعني أن تكون " متزنة " ( مادام هذا سوف يعنى أن نضفي وجودا ontologize، أن نفرض جسما على روح أو وعداً طيفياً يشوه عند أي محاولة لتجسيده) . بمعنى آخر بينما يحجم إلى ما لانهاية ، ، عن أي بيان محدد عن كيفية أن تكون " متزنة " وكذلك ببيان عن أكثر الوسائل عملية لتحقيق أي توجه كهذا ، برغم ذلك فإن دريدا ، في لحظاته النقدية الأشد إتساقاً ، يستهجن بوضوح إستغلال وإضطهاد النظام العالمي المعاصر ، وينظر للإقتصاد الرأسمالي بوصفه قائما في جذر المشكله ولهذا المدى ينحاز إلى ماركس .
ثانياُ ، ينهمك دريدا هنا للمرة الأولى بإسهاب الى حد ما مع كتابة ماركس ويقدم عدداً من القراءات وثيقة الصلة بالموضوع في هذه العملية . ويكاد بعض منها أن يكون شديد الأصالة ( على سبيل المثال لقيت نواقص التقييم الواقعي الذي قـام به ماركس للأيديولوجيا ، في الأيديولوجيا الألمانيـة ، إهتماماً واسعاً من المعلقين الأسبق ) ولكن هناك إنتقادات ديريدية أخرى أكثر تفردا ، أجدرها بالذكر التعليق الموسع الذى يقدمه حول القسم الذى جرى تجاهله بشكل واسع من الأيديولوجية الألمانية الذي ينهمك فيه ماركس في تعويذته الوسواسية ضد " أشباح " أنوية ماكس شتيرنر .
لقد تساءل بعض المعلقين لماذا يكرس ماركس مثل هذا البحث العميق لدفاع شتيرنر عن " تفرد " الفرد في كتابه ، الأنا وخاصيته (6) . يذهب دريدا إلى مدى معين لتقديم الحل في مقترحه بأن ماركس هنا قد حُصر في صراع ُمنكر للذات مع نفسه - مع طيف doppelg"anger ، أو مع إزدواج أفكاره الخاصة . ربما ما كان موضع رهان هنا ، رغم أن دريدا لايضعه بهذه التعابير ، هو المدى الذى إعتمد فيه دفاع شتيرنر عن الأنوية egoism نفس براهين الذات التى إستعملها ماركس وإنجلز نفسيهما ضد إنسانية فويرباخ المجردة ومعتقداتها الشيوعية . (لقد "خدع " إنجلز حقاً الى حد بعيد بالكتاب حتى أنه كتب الى ماركس في عام 1844 يقول بأن هناك حاجة لتأكيد “ بعض التفاهات فقط “ ضد شتيرنر “ ولكن علينا أن نقبل ما هو حقيقي في مبادئه. ") إذا كان كتاب شتيرنر مزعجاً بالنسبة الى ماركس ، فقد كان ذلك بسبب أنه إستلزم منه أن يبين كيف يمكن للمرء أن يرفض النـزعة الإنسانية المجردة بينما يدافع في نفس الوقت عن الشيوعية ضد تهمة أنها تضمنت تضحية بالفرد في سبيل مفهوم الجماعة المجرد . إن كتاب شتيرنر قد حث ماركس على أن يبين كيف أن الشيوعية التي تطلعا إليها لم تكن متسقه مع تحقق الفردية فحسب وإنما كانت السبيل الممكن الوحيد للتحقق الذاتي الفردي .
قد لا يوافق دريدا أيضا على ذلك ، ولكن يبدو لى أن جزءاً من إهتمامه بمناقشة ماركس - شتيرنر ، وجزء من الإهتمام بالإنشغال بها في أطياف ماركس ، انه يستهدف مسألة في كتابه ماركس حيث يصارع ماركس نفسه ضد نوع من التوكيد التفكيكي الأولى " للإختلاف " الفردي " ضد إدماجات الجماعية الشيوعية.
إن الملمح الثالث الجدير بالإنتباه في كتاب دريدا هو أنه يعترف بأنه إذا كان على التفكيك أن يرتبط بأخلاقيات وسياسات ، فينبغي ان يعتمد هو نفسه في برهانه على عنصر غير قابل للإختزال ومقاوم للتفكيك ، يتعين أن يكون بمعنى ما مـؤسسا للقيمة . أو كما يطرح ذلك دريدا نفسه ، فإن" نزعة خلاصية " معينة ، فكرة معينة عن العدالة والديمقراطية ، تعد جوهرية بالنسبة لسياسات تحررية :
ما يبقى غير قابل للإختزال بالنسبة لأي تفكيك ، ما يبقى غير قابل للتفكيك كما هي إمكانية التفكيك ذاتها ، ربما تجربة معينة للوعد التحريري ، ربما شكلية نزعة خلاصية بنيوية ، نزعة خلاصية دون ديانة ، خلاصية دون نزعة خلاصية ، فكرة عن العدالة .... " (7)
لا يمكن إنكار أن دريدا سرعان ما يؤكد لنا أن هذه ليست فكرة عادية عن العدالة ، إنما هي عدالة ينبغي أن تميز عن أي من مفاهيمها الراهنة ومحمولاتها المحددة. مع ذلك فهو يقر صراحـة هنا بالحاجـة إلى تبنى موقف إرشادى - وهذا تنازل هام لهؤلاء الذين كانوا يشيرون لبعض الوقت بأن هناك عدم إتساق بين التردد الأخلاقي للتفكيك وما يعرضه دعما لبرنامج سياسي تحريرى . أنا لا أوحي بأن دريدا لم يومئ سابقاً إلى التأسيس غير القابل للتفكيك للنقد التفكيكى ، وإنما فقط إلى أنه في مداخلته مع ماركس يقر على نحو أكثر وضوحاً من ذي قبل بلزوم إعطاء شكل بمعنى ما ، أيا ما كان تخطيطياً ، للأهداف المقبلة أو الغايات على ضوء الحالي الذي نرفضه، وربما حتى قول شئ ما عن الوسائل التي يمكن بواسطتها أن تتحقق .
وتبقى نوعية هذا الاقرار وهي نوعية مازالت شكلية صرفة، هي العنصر المتوقع أكثر في المنطق الذي أنطلق منه كتاب " أطياف ماركس". رغم أن دريدا ربما يكون مستعداً لأن يقبل مقولة أن النقد التفكيكى يكون معقولاً فقط إذا ما قيس بخلفية ، أو ضمن سياق إرتباط أخلاقى معين ، إلا أنه لا يزال يبدو نافراً للغاية من أن يضفي علية أي مضمون . في التحليل الأخير ، فإن الرسالة المهيمنة في كتابه هي أننا لا ينبغي أبداً أن نضفي وجودا ontologize ، وينبغي أن لا نبقى أكثر من ملاحقين بشبح روح سياسات تحررية ، كما ينبغي ألا نسعى لتجسيدها في أي مجموعة من السلع ، أو المؤسسات أو الإستراتيجيات ، مادام فعل ذلك _ يتضمن _ بشكل حتمي خيانة الروح ذاتها .
يحاول دريدا أن يبرهن على ان ما تقاسمه ماركس مع خصوم الشيوعية ، ، كان الخوف من شبحها - وهو خوف متعارض مع خوفهم ، مادام لم يكن خوفاً من أنها قد تتجسد وتصبح حضوراً مشخصاً ، وإنما بالأحرى من أنها قد لا تتجسد ، و بمعنى آخر ، أنها قد تبقى طيفية فحسب - لكنه كان مع ذلك خوفاً عاماً من الطيفية ذاتها . وفقا لدريدا ، فإن ما ينبغي أن نخافه أكثر ، وأن نحذر منه أكثر ، هو دافع التعويذ ذاته - الحافر لتلبيس الروح باللحم ، لجعل توقنا الخلاصي متعينا. يتعين علينا أن نحب الشبح ، أن نعانق الطيف - الذي يعنى أنه ينبغى علينا أن نفكر ونتصرف دائما ضمن الحيز الواقع بين الفكرة المُنظمة الشكلية على نحو مطلق وخاوية المضمون وتشخصها أو تمثلها في أي حضور" كامل " . يتطلب منا المنطق الطيفي ، إذا جاز القول ، أن نقبل بأن الموقع الوحيد للفضيلة السياسية هو الفضيلة ذاتها .
وهكذا ينبغي أن نقوم بنقد محايث متواصل لإخفاق الواقع القائم في أن يرتقي إلى مُثله عن العدالة والديمقراطية ، ولكن يتعين علينا أن ننقد في نفس الوقت هذه المثل ذاتها على ضوء عدالة ليست (عدالة ) القانون والحق ، وديمقراطية لا ينبغي خلطها مع أى من مفاهيمها القائمة – عدالة وديمقراطية لا ينبغي أن ينتظر من واقع بديل أن يحققها أو يمثلها بوصفها قابلة للتحقق . ينبغي بالأحرى أن ننطلق ضمن إطار روح عدالة مؤجلة إلى ما لا نهاية : ما يسميه دريدا : عدالة الهبة " ، التى لا تتوقع و لا تتطلب أى مقابل من " الآخر " ، بروح ديمقراطية مؤجلة إلى ما لا نهاية و التي تقول أخلاقها " نعم للغريب ، " و هي " أخلاق " إستضافة مطلقة لا تضع شروطاً على الترحيب ؛ أخـلاق تحجم عن كل تمثـلات الهوية ولا تـطرح مطالب على "الآخر" ليتماهى مع أي نظام قائم للحقوق أو الشرعية أو أي قانون معطى مسبقاً للشرف أو العدالة .
يمكن أن تثار بضعة مسائل حول هذا التنقيح التفكيكى للوعد التحريرى الماركسى . في المحل الأول ، يمكن لنا أن نسأل بالتأكيد بأى معنى ، إذا ما كان هناك أي ( معنى ) ، يمكن أن يقال عن ذلك أنه ماركسى ، حتى في روحه . من السهل قبول وجهة نظر دريدا ( وهي لا تكاد تثير الجدل بالنسبة للماركسيين مادام أغلبهم قد عبر عنها) بأن ماركسية ملائمة لعصرنا هي ماركسية جرى إصلاحها ، بل حتى ماركسية منقحة جذريـا . ولكن يمكن لنا أن نجـادل بأنه أن نفكر بـروح ماركس ( يعنى ) أن نفعل أكثر من أن ندين الفعلي في ضوء المستحيل . أو إذا ما تناولنا المسألة من زاوية مختلفة قليلاً ، فقد نسأل عما إذا كان هناك بالفعل شئ يمكن أن يدعى روح ماركس حيث أن كل أدبه – حول التحدد الاقتصادي ، حول القاعدة والبناء الفوقي ، حول التضادات الطبقية والصراع الطبقي ، حول الأيديولوجية ، حول المادوية ، حول " البشر الواقعيين وظروفهم " ، بإختصار ، حول أنطولوجيا نظام الإنتاج الرأسمالي ووسائل واتجاه تحولاته – قد جرى تعتيمه أو جُعل طيفيا ، إما شجب بوصفه لم تعد له عـلاقة بزمننا أو أنكر عليه معناه الحـرفي . يحيل دريدا ( وهو يريد أن يحيلنا ) الى ماركس ولكن إذا إعتبرنا أن هذا هو ماركس الذى يعتبره صالحاً للتقديم (لأن يقدمه لنفسه ، ولنا ، ولأزمنتنا ) فشرط ذلك أن نكف الاعتقاد في معناه الحرفي ، ماركس الذى هو بمعنى ما ليس فقط " ليس ماركسياً " وإنما ليس ماركس ، وربما نسأل لماذا ماركس ؟ متى ، بإيجاز ، يكف العمل بروح ماركس عند حد معين عن أن يكون ماركسياً – ويصير فلنقل " ليبرالية يسارية " أو " ديمقراطية جذرية على طراز " إرنستولاكلو وشانتال موف (8) ، اللذان لا يترددان في وصف نفسيهما بإعتبارهما " ما بعد ماركسيين " .في نفس الوقت الذي تبدو فيه طبعة دريدا من الماركسية التى نزع عنها وجودها deontologized وكأن لها صلة أوثق بمنطقهما مما مـع الأعمال الفعلية لماركس نفسه ؟
ولأنني لا أنظر لهذه الأسئلة باعتبارها بلاغية محضة ، لذا فإنني لا أحكم مسبقاً على الإجابة عليها . ولكن هناك بعض المعاني الضمنية في نصيحة دريدا لها علاقة بها والتي أريد أن أجادل فيها . أولا ، لم نتقيد بمنطق قد يبدو أن تأكيده الأساسي ينصب على الطبيعة التوفيقية لأي فعالية سياسية ملتزمة ، بدلا من المكتسبات التي يمكن أن تحرزها – الأمر الذي قد يبدو انه يتضمن إمكانية أن نكون حساسين سياسيا إلى حد بعيد في الفكر فقط ، أو في الفلسفة ، ولكن ليس في ممارستنا الفعلية أبدا ؟ من وجهة نظري ، أن دريدا لا يقر بما فيه الكفاية بخاصية " أن تكون أو ألا تكون " لكثير من الأنشطة السياسية لليسار : متابعته النشطة العينية لــ " طريق ثالث " عبر أنطولوجيات الحرب الباردة ، على سبيل المثال : إصراره على أن يؤازر العدالـة ، والمساواة والديمقراطيـة ، ولكن ليس عدالـة أو مساواة أو ديمقراطية الشيوعية السوفيتية أو الرأسمالية الليبرالية ؛ إلتزامه بتنويعه مـن بين البرامج _ ( بين الماركسية والوجودية ، بين الاستجابات البروميثيوسية واللاعقلانية لأزمات البيئة ، بين السياسات الطبقية من ناحية ، وما بعد حداثة " كل شئ صالح " من ناحية أخرى . ليست (المسألة ) في كون التمثلات النوعية لهذه المواقف السياسية منيعة بالنسبة للنقد التفكيكي : وإنما في أن هذا النقد تمثلي للغاية . بدعوتنا إلى النظر إلى كل ممارسة باعتبارها محكوم عليها مسبقاً بالإخفاق في تجسيد ديمقراطية حقيقية أو أصيلة ، فإن هذا النقد لا يقدم ضماناً ولا معياراً للحكم على الطابع التقدمي لهذا الحد أو ذاك للأفعال المختلفة ، وللممارسات والأشكال المؤسسية . أضف إلى ذلك ، فإن دريدا لا يلاحظ إلا قليلاً الوسائل التي يمكن أن يقال إستنادا لها بأن ممارسة الجناح اليساري قد جسدت " الطيفية " ، وبأنها انطلقت بروح ضئيلة الوساوس. واقعة أن دريدا يغلف حيطته ضد الماركسية " الغائية " في بلاغة جديدة لا ينبغي أن يعمينا عن حقيقة ان الروح العامة التي تتحرك بها حيطته هي ( روح ) مراراً ما ظهرت ضمن المعسكر الماركسي والاشتراكي ، وقد تجسدت أحياناً في بعض أشكال الممارسة النظيفة نسبياً.
ولكن إذا كان منطق الطيف يدعونا الى اسقاط التمييزات ضمن سياسات اليسار الفعلية ، فإنه أيضاً ، وعلى العكس ، مخطئ في إفتراض أنه يمكن أن تكون هناك أية سياسات لا تتضمن خياراً ما ، قراراً ما حول كيف ومتى تفعل ، وتمثل ما عن الآخر كـشرط لهذا الفعل . إذا كان هذا يعد تلوثا ، من ثم ، نعم ، فما من سياسة بدونه . نحن لا نستطيع أن نغير العالم ، حتى بأدنى قدر ، إذا بقينا ملتزمين بنصيحة ألا نعين ونجسد السياسات ontologize . ولا يمكن أن يكون هناك أي إمتداد للتعاطف أو التضامن مـع ضحايا الإضطهاد الذى ليس " بريئاً " – إذا ما كانت هذه هي الكلمة الملائمة – بقراءة أو تقديم حالتهم في ضوء " هويتنا " ، في ضوء ، مفهوم عن كيف سيكون حالنا إذا ما كنا في وضعهم ، عن ماذا كنا سنشعر إذا قدر علينا أن نعاني مصيرهم . الإستهلال الخلاصى أو إستضافة الآخر هي في عمومها حسنة جدا إذا ما طرحت ببساطة باعتبارها حذراً ضد التمثلات السياسية شديدة التعجل – أو كـتحد ، على سبيل المثال ، للسياسات الحكومية الجارية حول الهجرة. ولكن إذا كان دريدا يعنى أننا ملومين ببعض عدم الإحترام للآخرية المطلقة للآخر بشأن أي أو كل تمثل للآخر باعتباره مماثلاً للذات ، فهذا يبدو إذن توصية ليس للعدالة أو الديمقراطية ، وإنما للطمأنينة السياسية : فإننا إذا ما تحدثنا بدقه ، سننتهك مطلق فرضية معاناة أو إمتهان الآخر على أيدى المعُذب أو المضطهد ، ومن ثم قد يكون من الأفضل لنا أن لا نتدخل .
سوف يُجادل بأن دريدا نفسه يدرك إستحالة ما يدافع عنه ، وذلك صحيح بمعنى ما . وهكذا فهو يكتب عن الإستهلال الخلاصى أنـه " سوف يكون من السهل ، من السهل جدا ، تبيان أن إستضافة كهذه لا بديل لها ، و هي مع ذلك شرط الحدث ومن ثم التاريخ… هي المستحيل نفسه ، وشرط إمكانية هذا الحدث هو أيضا شرط لا إمكانة" ؛ مع ذلك فإن الاعتراف قد جرى فقط في سياق منطق إنتهى الى أنه بدون تجربة المستحيل هذه ، فقد نتخلى كذلك عن أي عدالة أو أي مطالب لسياسات تقوم على" ضمير خير " . " وإننا قـد نعترف كذلك " هكذا يدعي دريدا ، " بالحساب الاقتصادى ونعلن أن المواقع الحساسة بأن الأخلاق ، الإستضافة ، أو الخلاصيات المتنوعة سوف لا تزال تنصب على حدود الحدث من أجل حجب القادم … " (9) من ناحية ، إن سياسة عادلة أو تجربتها هي أمر مستحيل ؛ من ناحية أخرى ، لا توجد سياسة عادلة أو شريفة بدون تجربتها .
ولكن يمكن لنا أن نزعم أيضا أن شرط أي سياسة ذات " ضمير خير " هو الرفض المطلق لهذه الثنائية . لأنه بمجرد أن نسأل لماذا ما يسمى بديمقراطية الإستضافه غير المحدودة " مستحيلة " ، فإننا نواجه حقيقة أن فكرة المستحيل تخفي هنا إخفاقا في الإلتزام الأخلاقي السياسي . إنها مستحيلة بسبب أنه ، كما ورد أعلاه، لا يمكن أن نقول " لا " لمعاناة الآخر إذ كان قول " نعم " للغريب تعنى الامتناع عن أي أو كل تصور مسبق لكيف يتعين أن يعيشوا . إنها لمستحيلة بسبب أن إحترام الإختلافات المطلقة للآخر – بعدم فرض شروط على الإستضافة – سوف يحرم الآخر منطقياً من أي أساس لمناقشة أشد أشكال الإستقبال عدم إستضافة ؛ وسوف تتطلب من كل وأي " مضيف " أن يقبل كل هؤلاء الغرباء الذين تكمن غرابتهم في عدم قدرتهم الجذريـة على قبول أو فهم مطلق مبادئ الضيافة ، والديمقراطية أو العدالة . إنها لمستحيلة بسبب أن العدالة ليست مسألة كرم أو إحسان ، وإنما هي علاقة تبادلية يمكن بطبيعتها أن توجد فقط في سياق الإلتزامات والمسؤليات المتبادلة .
يمكن لنا أن نفهم معارضة دريدا للإعتراف بهذه الشروط التي تتعلق بإمكانية الديمقراطية والعدالة على ضوء عدم المساواة والتفاوت في التوزيع التي إرتكبت باسم مفاهيمها القائمة وأشكالها المحددة ؛ ولكن جوهر نقد هذه التفاوتات ضمن الاقتصاد العالمى لن يكون له معنى إلا إذا كان نابعا من فكرة عن العدالة بوصفها مشاركة – بوصفها تتضمن إلتزاما بتوزيع عادل للطيبات والموارد . أنا لا أرى كيف يمكن أن يكون من العدل أن نتجاوز عن مفهوم للعدالة كهذا ، وإنني لأفكر بالتأكيد في تعاسة بلاغة " عدالة الهبة " إذا كانت تنطوي على أن أشكالا معينة من " العطايا " التى يمكن أن تتحقق من خلالها مثل هذه العدالة على نحـو أفضل ( مثل إلغاء ديــون العالم الثالث ) قد نظر إليها بإعتبارها " عطايا " أو " هبات " بـدلا من أن تكون تعويضا لما نهب سابقا ، من السرقات والإستيلاء على الملكية .
إن رفض دريدا أن يضفي وجودا ontologize ومعارضته أن يتفكر في الأشكال السياسية والمؤسسات التى قد تحقق مفهومه المفارق عن الديمقراطية والعدالة تعرضه لإتهام بأنه ليس مرتبطا بالفعل بأخلاقيات العدالة والديمقراطية على الإطلاق – بل تعرضه للدعاوى الساخرة بإنه قد كان لدينا ولحد بعيد بالفعل كثير من " عدالة الهبة " وقد كان أغلبها في صالح المجتمعات الأكثر وفرة وإمتيازاً على هذا الكوكب . هناك حدود لقبولنا لفكرة أن توصيات دريدا لتعزيز سياسات تستند إلى" ضمير خير " هي ذات ضمير خير حال غياب برنامج عمل شروط إمكانها ، أو أى إلتزام بالصراعات الأخلاقية التى تقدم الإستضافة التي لا بديل لها ترحيبا غير محدود .
ولكن هناك وجه آخر لأخلاق دريدا التي تقول " نعم للغريب " و ينبغي أن نكون حـذرين منها : دعوتها لتآكل أو إسـقاط التمييز المفهومى بين الإنسانى و "الحيوان " أو حتى نطرحها بشكل أكثر دقة ، دعوة دريدا لنا بأن نعامل كل تمييزاتنا الحدسية بين الإنسان وغير الإنسان " الآخرون " بوصفها شكلا من التنظيم المفهومى غير المضمون . في حوار حديث ، على سبيل المثال ، يزكى بأن " الأحد ما " الذي خاطبه في الإستهلال الخلاصى هو من لا نستطيع ولا ينبغى أن نعينة مقدما – ليس كذات ، أو وعى ذاتي ، ولا حتى بإعتباره حيوانا ، أو إلهـا ، أو شخصا ، رجلا أو إمرأة ، حيا أو ميتا .(10) هناك عدد من الدعاوى المماثلة في أطياف ماركس . ولكن هل يمكن لنا أن نحدد حتى من كان أو لم يكن " الأحد ما " إذا ما إنصعنا لهذه التوصية ماذا يعني أن يكون هناك أحد ،في غياب أي تعريف أو تحديد ؟ بمعنى آخر ، هل هذه وصية متماسكة ؛ وحتى إذا كانت كذلك ، هل يمكن لها أن تكون أخلاقية، هل يمكن لمثل هذا اللاتمييز أن يكون أساس دولة ؟
أجد من المحير كون دريدا يدافع عن منظور أخلاقي يبدو في قيمته الظاهرية وكأنه جاهز جداً للتنصل من هذه الإختلافات ( في إستعمال اللغة ، أو إدخالنا ضمن نظام رمزي ) التي تميز الإنسانية من المخلوقات الأخرى ، والتي كانت موضع الإهتمام البنيوي وما بعد البنيوي . ألا يحاول أن يبرهن هنا بطرق قد تربط الأخلاق التفكيكية ببعض الأشكال الأشد تبسيطاً وإختزالاً من النـزعة الطبيعية : على سبيل المثال قد تربطها بهؤلاء ، الذين ناظروا من أجل توسيع المجتمع الأخلاقي ليشمل الرئيسات غير البشرية أو مع خصوم " المركزية الإنسانية " الذين رفضوا أي إمتياز للبشرية على أشكال الحياة الأخرى ؟ من الواضح أنه كان ينبغي أن يكون هناك جدالا حول هذه الموضوعات وسلسة من المواقف التي يمكن أن يجرى تبنيها بشأنها . إن شكواى هي أن دريدا يومئ لهذه التآكلات المفهومية للتمييز بين الإنسان والحيوان بدون أي إعتبار لمصاعبها ضد الواقعية ، وفي تجريدها تماما من المناقشات الهامه والمكثفة التي جرت حول هذه الموضوعات في الأخلاقيات البيئوية .
مسألة أخيرة ، ولعلها واضحة : هناك شئ واحد يمكن أن نزعمه كما يفعل دريدا ، هو أنه " ليس ثمة مستقبل بدون ماركس " ومسألة أخرى أن نفترض أننا سوف نرى دائما نزوعا شعبياً للإشتراكية في المستقبل . شئ واحد ينصح به هو أن الدين الخارجي ينبغي أن يعامل " بروح " نـقد ماركسي ( أياما ما كان معنى هذا ) وأمر آخر هو أن نفترض أنه سوف يتناول دائما من خلال تعرية الرأسمالية الكوكبية. إذا ما فسر سؤال هل سيأتي ماركس مرة أخرى بوصفه سؤالا عن عودة أي دعم قوى لبرنامج اشتراكي ، إذن قد يكون هناك كذلك مستقبل بدون ماركس ، على الأقل لفترة معتبرة مقبلة . في الواقع لم يبد أبدا شبح الشيوعية يحوم في أوروبا بدرجة أقل منها في الوقت الراهن . ولكن إذا كان هناك أي شئ يشبه هذا الشبح يتوقع في المستقبل القريب كرابح صوت إنتخابي محتمل في المستقبل ، إذن سوف يتطلب هذا الأمر من كل هؤلاء الملتزمين بروحه أن يتمردوا ضد الإعتراض الدريدى : أن يضعوا بعض اللحم على هذا البديل للفعلى ، أن يفكروا في الأشكال المؤسساتية التى قد تحقق تجمع المهمشين هذا المسمى الإشتراكية الحقيقية أو الديمقراطية .
يبدو لى أن النظام الرأسمالي يستند بدرجة أقل لأى إيمان شائع في قدرته على تأمين حياة طيبة ، أو على تفادى الأزمات الكبرى لعصرنا ، وإنما يستند إلى الشكية العميقة ، المبررة بطرق عدة ، حول القابلية العملية لتطبيق أي بديل . بهذا المعنى ، قد نجادل بأن المشكلة بالنسبة لليسار لم تكن كثرة المخططات ، وانما قلتها المتناهية : استعداد جم لإستحضار روح فكرة " الإشتراكية الحقيقية " كطريقة لفصل الذات عن ما إرتكب باسم الماركسية ، وإيلاء إنتباه قليل للأشكال العينية التي قد تطبق بها هذه الفكرة . إذا ما كنا نرغب بالفعل في أن نقضي أكثر على أشكال البؤس الفظيعة، والإبادة الجماعية ، والبربرية البيئوية ، و حرب الإبادة (كما يفترض دريدا أننا نفعل ) ، عندئذ كلما بدت الإلتزامات العملية لنظرية اليسار – الاشتغال على إشتراكية السوق والسياسات الإقتصادية البديلة ، على مفاهيم جديدة للمواطنة ، وأشكال التفويض الديمقراطي ، على التحرر من العمل وعلى مؤسسات الكوسموبوليتانية الجديدة – أكثر عوناً من التحذيرات الدريدية المستمرة ضد إستباق الاشكال التى يتكشف عنها المستقبل .
من المفارق أن دريدا يوصى بماركس شبحى إذا وضعنا في اعتبارنا كيف كان ماركس ليشمئز من ذلك حتى أنه يقوم بما هو أكثر من استحضار روح الشيوعية ، وإذا وضعنا في اعتبارنا مقاومته لتعيين المؤسسات السياسية التي قد تحقق تلك الأمنيات الشهيرة المجردة : مجتمع وفرة ، مستقبل لا يقاس بأي معيار أخلاقي قائم : التوزيع وفق الحاجة ، وتطور غنى وكلى للفرد . حيث بيدو ماركس أقرب الى روح التفكيك فانه ، وذلك قابل للجدل ، في هذه الإيماءات الصياغية التي أشار بها إلى مجتمع تجاوز إلى حد بعيد الأوضاع الفعلية القائمة حتى أن شروط تحققه لا يمكن أن تمفهم. ماركس هـو ماركس الشبحى في رفضه لأن يتصور الشيوعية في تخيله لها ، في يوطوبيا ضد الطوباوية . (11) إنني لا أستهجن الرؤية ذاتها – إن عالما لا يعد يتطلع إلى مثل هذا الرقى السياسي هو عالم مفقر . إن ما أقوله ، على أي حال ، هو أن الفراغات الأنطولوجية يمكن أن تقدم نفسها كرهائن للحظ ، و إن رفض ماركس لأن يفكر في سياسات الشيوعية خلق عدداً من مثل هذه الفراغات الأنطولوجية ، وانه إلى المدى الذي انتهت فيه هذه الفراغات إلى أن تملأ بواسطة " الاشتراكية الفعلية القائمة " فقد لعبت دوراً في زوال الماركسية ذاتها . أو ، لنطرح ذلك بمعنى آخر ، إننا لا نستطيع إن نتفادى بالضرورة فظائع ناجمة عن شمولية خلاصية برفضنا أن نضفي وجودا ontologize ، وإنما قد نترك حتى فضائا أكبر لها . بالتأكيد ، ينبغي أن نكون حذرين للغاية إزاء كل هؤلاء الذين يعرفون كيف يغيرون العالم ، وكيف يتعين أن يبدو حين يفعلون . ولكن مادام العالم سوف يتغير على أي حال ، هناك أيضا مخاطر في أن نقصر أنفسنا بشكل غاية في الضيق على مهمة " النقد النقدي " : على نقد دائم لإختلال كل الأزمنة ، على الإخفاق الأبدى للفعلي في أن يرتقى لعقلانية لن تأتى أبدا . (12) يمقت دريدا سياسات" الحضور الكامل " سواء إتخذت شكل إحتفال بنهاية التاريخ أو معرفة مطلقة عن كيف ينبغي أن ينتهي ؛ وإنني لأوافقه . ولكن ليس ، كما أظن ، بترك الفراغات الأنطولوجية الكلية أننا نحترز على نحو أفضل ضد أشكال الكمال هذه .


هـــوامـــش

*** يمثل هذا المقال الفصل الحادي عشر من كتاب ما بعد الماركسية والشرق الأوسط ، مجموعة من المؤلفين ، تحرير فالح عبد الجبار ، والصادر عن دار الساقي – لندن الطبعة الأولى 1997 " .: الماركسية والتفكيكية : الغرب ضد الآخربعض الأفكار حول كتاب جاك دريدا أطياف ماركس -- بـقلـم : كـيـت سـوبـر

جاك دريدا،أطياف ماركس ، ترجمة بيجي كاموف ( روتلدج ، نيويورك ولندن ، 1994) . (ظهرت ترجمة عربية لكتاب ج . دريدا أطياف ماركس قام بها الدكتور منذر عياشي ، وصدرت عن المركز الثقافي العربي – حلب/ سوريا . الطبعة الأولى عـام 1995 المترجم ) .
مثال بليغ عن الجدالات التى تولدت حول هذه الأطروحه تعرضها حكاية اقتبستها مارتا نسباوم في مقالها " الاشتغال الإنساني والعدالة الاجتماعية : دفاعاً عن النـزعة الجوهرية الأرسططاليسية " النظرية السياسية ، المجلد 20 ، العدد الثاني (مايو 1992) . تروى نسباوم ، كيف حدث ، في مؤتمر دولي عن القيمة والتكنولوجيا ، أن عبر أنثروبولوجي فرنسي عن أسفه لأن إدخال مصل الجدري من قبل البريطانيين إلى الهند قد قضى على عبادة الإلهة التي اعتادت أن تصلى لها الجماعة حتى تتفادى الجدري . وحين أثير اعتراض بأنه من الأفضل بالتأكيد أن يكونوا أصحاء من أن يكونوا مرضى ، كانت الإجابة التي قدمت هي أن الطب الغربي يمكن أن يفكر فقط في حدود التعارضات الثنائية بين الصحة والمرض ، الحياة والموت ، ومن ثم كان متسما بفقدان الحس للآخرية الراديكالية للثقافـات الأخرى .
فرانسيس فوكوياما ، نهاية التاريخ والإنسان الأخير ( فرى برس ، نيويورك 1992 ) .
يلعب أطياف مـاركس بشكل مطول على فـكرة كـون الأزمنة " مختلة " ( أنظر ، بصفة خاصة ، الفصل الأول و ص ص 77 – 8 ) تجرى الإحالة إلى حديث هاملت رداً على زيارة شبح أبيه في بداية المسرحية " الزمان مختل وإنني لألعن اليوم الذي ولدت فيه إلى أن أضعه في نصابه " ( هاملت ، الفصل الأول ، المشهد الخامس ) .
وضعت في قائمة بشكل مختصر " الكوارث " العشر للنظام العالمى المعاصر وهي : ( 1 ) " البطالة الجديدة " ( 2 ) التشرد ( 3 ) المنافسة الإقتصادية ( 4 ) تناقضات السوق " الحرة " ( 5 ) الدين الأجنبي ( 6 ) صناعة السلاح ( 7 ) الأسلحة النووية ( 8 ) الحروب الإثنية الداخلية ( 9 ) دول " الشبح " الرأسمالية الخاصة بعصابات المافيا وإحتكارات المخدرات ( 10 ) هيمنة الغرب على تفسير وتطبيق القانون الدولى . ( أنظر دريدا ، أطياف ، ص ص 81 – 6 ) .
خصص القسم الأول من الأيديولوجية الألمانية لمناقشة مؤلف شتيرنز رغم أن ماركس يصف مؤلفه بأنه يملك " أكثر العقول ضحالة " بين الهيجليين الشباب . طبع أولاً باللغة الألمانية تحت عنوان Der Einzige und sein Eigentum ، وظهر كتاب شتيرنز باللغة الإنجليزية تحت عنوان The Ego and His own ترجمة ستيفن باينتجتون ( بنيامين تاكر ، نيويورك ، 1907 ) .
دريدا ، أطياف ، ص 59 .
إرنستو لاكلو وشانتال موف ، الهيمنة والإستراتيجية الإشتراكية ( قرسو ، لندن ، 1985 ) ؛ إرنستو لاكلو ، تأملات جديدة حول ثورة عصرنا ( قرسو ، لندن ، 1990 ) ؛ شانتال موف ، عودة السياسي ( فرنسو ، لندن ، 1990 ) .
دريدا ، أطياف ، ص 66 .
" تفكيك الراهنية " حوار مع جاك دريدا ، ترجمة جوناثان راى ، الفلسفة الراديكالية ، عدد 68 ( خريف 1994 ) ص 32 . طبع الحوار أصلاً في الشهرية الفرنسية إنتقالات passages ، في أغسطس 1993 .
أنظر ستيفن ليوكس ، الماركسية والأخلاقية ( مطبعة كلارندون ، أوكسفورد 1985 ) . الفصول الثاني والرابع والخامس .
إستخدم ماركس عبارة " النقد النقدى " في الفلسفة الألمانية ليصف موقف هؤلاء الهيجليون الشباب ( خصوصاً الإخوة باور ) الذين نظروا لمهمة الفلسفة بوصفها نقدأ تأمليا دائماً .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى