روشان صفا - خِيْرتٍي

قرر أحمد أن يستأجر «بارتيشن» في أحد المولات الكبيرة؛ ليعرض فيه مشغولاته من الفضة والذهب، فهو موهوبٌ في صياغة الذهب، تلك المهنة التي تعلمها في مدرسة الصنايع، وحصل بعدها على الدبلوم.
كانت نشأته في الصاغة بحي الحسين، تربى بين أزقته وحواريه، فهو جزءٌ منه، لا يخلو شارع ولا بازار إلا ويعرف أحمد، فهو حُلو اللسان، جميلُ الطبع، مما جعله محبوبًا من كبار التجار.
يُصمِّمُ المشغولات في دفتر صغير، وينفذها في ورشة الحاج مصطفى التي يعمل بها، تتردد عليه الفتيات اللاتي يأتين له بالتصاميم الجاهزة من «الإنترنت»، وينفذها بمنتهى البراعة.
كان يستخدم كسر الذهب والقديم منه ونشارة الفضة، ويُعيد تشكيلها من جديد ليجمع رأس مال، ويتمكن من فتح ورشة خاصة به، ويحقق حلم حياته بأن يكون من كبار تجار الذهب في الصاغة، واستطاع أن يبيع أرخص من محال الذهب بتقليل المصنعية.
كانت المهندسة ليلى إحدى الفتيات التي تروِّجُ له مشغولاته الذهبية، من خلال تطبيق نفذته له، وكان مشروع التخرج الخاص بها في السنة النهائية في كلية الحاسبات، وحصلت على تقدير امتياز في تقييم المشروع الذي سمّته «خِيرتي».
كان التطبيق موجودًا على «متجر الألعاب»، ومن فرط سعادته أهداها حلق ذهب بعد أن شاهد التطبيق، وطلب منها أن تديره له، وتبلغه بطلبات الشراء أولًا بأول، مُقابل نسبة مالية تأخذها كعمولة.
وافقت ليلى على هذا الاتفاق الذي كان بداية جديدة لها وله، حتى لا تتعلق بأي أمل.
كان صارمًا لا يُبادلها مشاعر الحب، الذى عبّرت عنه بفيض الاهتمام به، هى لا تعلم أنه أغلق على قلبه منذ أن تركته (نجوى) جارته في السكن التى أحبها منذ نعومة أظفاره، ورفضت الزواج منه لفقره، هو حاليًا يفعل أي شيء وكل شيء، إلا أن يدخل في عَلاقات غرامية.
تحول لشخص قاسي القلب، لا يرقُّ قلبه لأي مخلوق مهما كان إلا الحاج مصطفى، فهو الذي رباه وعلمه، ويُحبه حبًا كبيرًا، ويَعُدُّه أحد أولاده، ويعطيه مئة وخمسين جنيهًا في اليوم.
وفي يوم من الأيام، كان جالسًا على قهوة في حي سيدنا الحسين، بعد أن توسط في صفقة قلادات فرعونية من الخرز والزجاج باعها لمجموعة من السائحين الألمان، نظير ألف دولار، وكان سعيدًا بهذه الصفقة، طلب حجر «معسل قص»، وكان غارقًا في الاطلاع على التطبيق ومُشاهدة صور المشغولات وقراءة رسائل ليلى حول طلبات الشراء، ومقارنة الطلبات بالتصاميم المخزنة على هاتفه.
حينها جاءت فتاة شقراء سُكرية اللون، ترتدي قميصًا زيتيًا، تحته «توب» أسود، وتركت شعرها الأشقر يتمايل مع رأسها يمينًا ويسارًا، وقعت عيناه عليها، وكأنه أصيبَ بمَسٍّ من الجن، وبدأ قلبه يتمايلُ معها ويلاحقها بعينيه وهو غير واع حين خلعت كتف القميص اليسرى، لترسم عليها تصميمًا بالحناء، واختارت علامة ما لا نهاية الحب، تلك العلامة التي تحبها كثيرًا، فهى دائمًا ما تهديها لأصدقائها.
كان أحمدُ جالسًا في الجهة المُقابلة لها، تعلق بجَمالها، ورقتها، كان معها صديقاتها، كل واحدة منهن رسمت بالحناء على أطرافها، تركت (جنى) كتفها للحنانة، تلك المرأة التي تدور على المقاهي في حي الحسين، لاكتساب الرزق عن طريق رسم الحناء للأجانب والعرب، واتفقت الفتيات معها على النقش بالترتيب.
نسي أحمد الورشة والذهب والأرجيلة التي كان يدخنها، فقد دق قلبه وعاوده الشعور الذي فارقه منذ زمن.
ترك متابعة التطبيق، وبدأ يتابعُ مراحل الرسمة على كتفها، وكان قلبه يدقُّ بشدة وهو لا يعرف السبب، ظن أنها أجنبية حتى سمعها تطلب من حمص، صبي القهوة، شاي كشري بالنعناع.
كانت تدخن «الفيب»، وتضحك بصوت عالٍ، وتتمايلُ مع بعض العازفين على العود والطبلة على أدوار سيد درويش، ومحمد عبد الوهاب، وأغاني الفلكلور الصعيدي الذي يُحدث حالة من السعادة بين أروقة المقاهي في الحي العتيق.
قرر أحمد أن يُكلمها.. ولكن كيف؟
هرعَ إلى المحل، وحمل مجموعة من المشغولات الذهبية والفضية، وأحضرها للقهوة في علبة قطيفة، واقترب منها. كانت الحنانة ما زالت ترسُم على كتفها، بينما هي تطالع الهاتف.
بدأ في عرض الخواتم والسلاسل التي أحضرها من الورشة عليها، وهي غير منتبهة له، فالمكان مُزدحمٌ بالباعة والمارين. لم ييأس فصبر حتى انتهت المكالمة، وبدأ في عرض المشغولات عليها.
كان الخوف والاندفاع لها هما ما يُحركانه، خطفت قلبه بلا أي مجهود منها، كان يُحدِّقُ في ملامح وجهها ناسيًا نفسه:
- اتفرجي يا ست البنات.
جنى: جميل جدًّا الشغل ده.
أحمد: تؤمري بإيه يا ست الكل؟
جنى: عندي صورة حلق على الهاتف، لو عندك هاته.
أحمد: أنا عندي تطبيق على الإنترنت اسمه خيرتي، وبعمل شغل مخصوص وبالطلب، حضرتك تختاري التصميم وأنا أنفذه في أسبوع.
جنى: تمام
أحمد: ده رقم الواتس، ابعتي عليه التصميم، وأنا أوصله لكِ.
كان سعيدًا أيما سعادة، لأنها أخذت رقمه وسجلته على هاتفها، تولد بداخله الأملُ من جديد، وعاش في حُلم جميل رسم ملامحه في خياله للحظات قليلة.
نظرت للرسمة على كتفها بعد أن انتهت الحنانة من الرسم، وبدأت بالتقاط بعض الصور السيلفي وهو ينظر غاضبًا؛ لأنها لم تعطه رقمها:
- حضرتك ها تاخدي إيه؟
جنى: أعطِني رقم الواتس والصفحة، وأنا ها بعت لك.
كتب رقمه على ورقة وأعطاها لها، ووقف صامتًا؛ حتى سمع صوتًا ينادي عليه من بعيد.
«عطيات» التي تبيع زي الراقصات الشعبي المزركش بالخرز والترتر في المحل المجاور له تنادي عليه:
- إنتَ بتعمل إيه هنا؟! إنتَ نسيت باب الورشة مفتوح، اِلحَق الورشة اتسرقت.

روشان صفا / مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى