منقول - «رسالة الأديب» (58-1959): نموذج لجدل الثقافة والسياسة (*)

«المجلة» لغة وتاريخا:
إذا كان ما يدل عليه لفظ «المجلة» اصطلاحا، أمر حديث تاريخيا وطارئ مستورد عربيا ومغربيا، فإنه ليس كذلك لغة. يدل على ذلك قول أبي عبيد «كل كتاب عند العرب مجلة»، وهذا الالتباس أو التداخل الدلالي للفظة، لا يقتصر على العربية، بل امتد منها ربما إلى لغات أخرى، مثل الانجليزية، ذلك لأنهما (=الكتاب والمجلة) من حيث الشكل الخارجي، يشبهان بعضهما في كثير، ويترجح لذلك احتمال الأصل العربي لكلمة Magazine الذي أخذته الإيطالية أولا ثم عنها، اللغتان الفرنسية فالانجليزية. وعلاقة ومعنى... التكريس والخزن والتخزين، اعتبرت في الحالتين، فقد استعمل العرب عبارة «خزانة الأدب» للدلالة على نفس معنى» «مخزن المعلومات» للدلالة على «المجلة» لأول مرة في انجلترا سنة 1802. وذلك لتمييز مخزونها الشهري والمتنوع... عن الكتاب.
تنتمي المجلة إلى جنس الصحافة، وهذه تعتبر من أهم مظاهر الحداثة، فهي البنت الشرعية للصناعة وللمدينة وللحرية وللدولة العصرية... بالتالي لظهور الطبقات الحديثة، وفي المقدمة منها الوسطى وسوقها الوطنية المركزية وتجارتها الدولية. حيث ستكون في المنطلق، منشورا يخبر ويعلن عن الأسواق وعن السلع وعن الأسعار وعن الصفقات ثم عن المناسبات الحزينة والمفرحة... قبل أن تتحول إلى الإخبار عن سياسة المدينة والدولة والعالم...

لقد كان الخبر (مع الأمر) مصدر ومظهر سلطة، بالنسبة لإدارات الدول في المجتمعات القديمة وحكرا عليها؛ ومع ثورة الحداثة والتحديث وعصرهما الحديث.. أضحى الخبر حقا عاما، وسيلته الأساس هي الصحافة بشتى صيغها وأدواتها، ويحق القول لذلك، أنه إذا كان الكتاب وكانت الكتابة.. اختراعا ارتبط تاريخيا باختراع الدولة وإدارتها، فهما لذلك عابران للأزمنة الاجتماعية (مثل ظاهرة «الدولة» نفسها) فإن المجلة والصحافة، هي اختراع الطبقة الوسطى ونخبتها أو طليعتها من «المثقفين» الذين زاحموا (ثم عوضوا) «كتاب الدولة» الإقطاعية.
المجلة شكل أو صيغة وسط، بين الجريدة أو الصحيفة والكتاب يشركها بهما:
1 - أنها كثيرا ما تصدر في شكل كتاب، ولذلك تسمى به أحيانا «كتاب دوري»، غير أنها وعلى خلاف معه.

2 - دورية الصدور ومنتظمته، فزبناؤها ينتظرونها حسب التزامها: الأسبوعي أو الشهري أو الفصلي أو السنوي (=الحوليات)
3 - لا تعدم البعد الإخباري عن موادها، ولهذا فهي أيضا، كثيرا ما تأخذ في الإخراج صيغة الصحيفة.
4 - موادها متنوعة: إخبارية ? تقريرية ? تحليلية ? جدالية ? مقالات ? تحقيقات ? أدب ? طرائف وترفيه ? صور وكاريكاتير... إلخ

5 - موادها قصيرة عموما، ولا تمنع أن تكون غير موقعة.
6 - تبث موادها غالبا برسوم وصور... للتوضيح أو للتعبير أو للترفيه والاستراحة بين مقال وآخر..

7 - تشرف على إنتاجها والاستكتاب لها... إدارة للتحرير مختصة وقد تكون متفرغة، وتميزها لذلك برموز وإخراج فني... ثابتين غالبا. يضفيان عليها شخصية تفرزها وتميزها عند العرض التجاري، وتؤسس لها مع قارئها ألفة وتجاوبا.
وأخيرا، فإن المجلات تصنف عموما ما بين 1-عامة جامعة 2-أو خاصة و/أو مختصة.
والنوع الأول، تميز في التجربة التاريخية غالبا ب:
1 - استقلاله عن إدارتي الدولة والأحزاب السياسية، وكأهم أداة لبروز المثقفين والدفاع عن استقلاليتهم واستقلالية الثقافة.
2 - ركوبه متن الآداب غالبا (شعر ? قصة ? نقد ? مقالة ? خاطرة ? حوار..) سبيلا وسطا ما بين العلم المختص من جهة، والسياسة (الإدارية أو الحزبية) من جهة أخرى.
-1
إذا نحن تجاوزنا ظاهرة الرسائل المنتظمة والمتنوعة الموضوعات ? ل:»إخوان الصفا» لأننا نكاد نجهل كل شيء عن التاريخ العربي الوسيط. فإن أول ظهور للإعلام الصحفي الحديث كان في أوربا (انجلترا) مطلع القرن 17؛ واحتاجت صيغة المجلة إلى قرن بعد ذلك (1716) غير أن شرط الالتزام بانتظام دوريتها، لم يحدث إلا في العام (1731) انجليزيا دائما. مع قلق واضطراب في التسمية استمر معها حتى يومه، خلافا لدقة المصطلح في اللسان العربي.
لم تكن الفجوة بين العالمين الأوربي (الغربي) والإسلامي-العربي حينها، بدرجة العمق والاتساع التي هي عليه راهنا، ففي العام (1878) أصدر الشاعر إبراهيم اليازجي مع الطبيبين (زلزل وسعادة) أول مطبوع عربي تحت اسم «مجلة» بعنوان (الطبيب) يقول مفتتحا لها: «... جليس العالم وأستاذ المريد والموعد الذي يتلاقى فيه المفيد والمستفيد، بل هما خطيب العلم في كل ندوة وبريده إلى كل خطوة، والمشكاة التي تستصبح بها بصائر أولي الألباب، والمنار الذي تأتم به المدارك إذا اشتبهت عليها شواكل الصواب..» وعي واضح العبارة صريح الدلالة مستوعب لخصوصية الوظيفة... لا يحتاج لذلك، إلى مزيد شرح أو تعليق..

والمجلة المغربية، اقتداء بشقيقتها المشرقية ونظير أمهما الأوربية، عبرت عن نفس المعنى والوظيفة التاريخيتين: لسان الثقافة والمثقفين، وضمير السياسة ومخيالها. حارث أرضها وزارعها، ولا حصاد نقابيا وسياسيا بدون تمهيدها، موئل إنتاج الأفكار ومختبر الاجتهادات والمشاريع الاجتماعية والمجتمعية، والمنطقة الحرة بين إدارتين: الدولة من جهة ومعارضاتها من جهة ثانية.
بتركيز، فالمجلة هي أداة الاستنهاض، والرافعة الأهم لراية الإصلاح والحرية والتحرير والديمقراطية. أي المضمون الحقيقي لكل حداثة أو تحديث.
وكما في التجربة الغربية، فلقد انتهت صيغة صدور المجلة إلى أن تكون أسبوعية، عندما يطغى عليها الاهتمام السياسي، وإلى فصلية عندما تكون ثقافية و/أو جامعة. وفي الحالتين فلقد توسلت بها التيارات الجديدة والتقدمية أساسا ودائما بنفس الخصائص الفنية: قصر المواد ? جمل قصيرة ? سلامة التعبير ? الابتكارية والإبداع ? أفكار وتحاليل ? غنى المعطيات والأخبار والصور ? مزاوجة بين الإقناع والامتاع ? القصة القصيرة والخاطرة.. ذات طابع نقدي، شخصي، جدالي ? بعد تعليمي ? الحوارات ? الاستطراد ? موادها دون إحالات غالبا ? مبوبة ? أناقة في الإخراج... إلخ.
-2 رسالة الأديب / العتبة
1 - صدر عددها الأول (يناير 1958) في 44 صفحة من مدينة مراكش. عن «المطبعة الاقتصادية بالرباط»، وهي حالة تأسيسية في النشر الجهوي لمغرب الاستقلال. توقفت لاحقا مع التطورات اللاحقة، لمركزة وتمركز إدارتي الدولة والمجتمع المدني سيان (؟!).
أما الطباعة في الرباط، فلعله لدواع تقنية، أو ربما تمويلية (؟!)

2 - انتظمت في الصدور الشهري إلى حدود العطلة الصيفية لنفس العام (صدر فيها عدد مزدوج) ثم الأزمة في حزب الاستقلال، حيث صدر عددان (أبريل وماي 59) بعد تعثر، ثم توقفت فجأة ودون إعلان مسبق.
3 - في آخر عدد منها (التاسع ? ماي 1959) تغير عنوان مقرها الإداري من مقر الحزب في المدينة، إلى العنوان العائلي لمديرها ورئيس تحريرها (=الفرقاني)، ما يدل على دور الانشقاق في صفوف حزب الاستقلال على تعثرها ثم تأخر صدورها وتوقفها المفاجئ. إما بسبب انعكاسه على لحمة هيئة التحرير والكتاب والقراء، أو لانشغال الفرقاني بإعادة التأسيس لحزب «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية»(؟!) وفي تقديري، أن العامل الثاني هو الأرجح.
4 - تحدد «رسالة الأديب» نفسها منذ الغلاف الخارجي، بكونها «مجلة شهرية تبحث في الآداب والفكر والسياسة والاجتماع» هي «جامعة» إذن. وكذلك كانت فعلا. غير أن ما يثير في التعريف مسألتان:
أ-»تبحث» وهو أمر يقتضي التخصص لا التنوع، وإدارة للتحرير مناسبة.. فضلا عن الجمهور الموجهة إليه. والحال أن طابعها الأدبي ? الثقافي، بالتالي الأيديولوجي ? السياسي، كان غالبا وصريحا.
ب-»الاجتماع» وهو مصطلح حادث، بل وطارئ حينها. والغالب أنه يعكس نوعا من الميل والاهتمام المتميز لدى مسؤولها الرئيس (الفرقاني)، وهو ما سنقف عنده لاحقا.
5 - وينبهنا الغلاف أيضا، كون اسمها مستمد من اسم «جمعية الأديب» التي تصدر عنها، ليست مبادرة هيئة تحرير أو ملكية شخص، بل لسان جمعية ثقافية محلية أو جهوية بالأحرى، موجه لعموم الساحة الوطنية، وهو أمر متأثر بتجارب مشرقية، وأخرى عند العرب في المهجرين الأمريكيين، على خلاف الوضع في التجربة الأوربية (فرنسا).
6 - تضع المجلة أيضا على صدر غلافها، شعارا أو رمزا، هو عبارة عن ريشة وشمعة مشتعلة ومضيئة فوق كتاب، ودلالات وإيحاءات الوعي والموقف الرومانسي واضحة... وذلك من حيث إبراز أهمية الثقافة ودورها في التحرير والتغيير (الإصلاحي أو الثوري) والدور التنويري للمثقف والذي لا يتحقق، نظير الشمعة، بدون التزام وتضحية... ولم يكن مصطلح «الأديب» يعني في حينه، سوى ما يعنيه اليوم مصطلح «المثقف».

7 - جمالية كتابة الاسم «رسالة الأديب» توحي بالتقشف والعملية والاستعجال والعصرنة... لا التؤدة والأناقة... اللذين يتطلبان احترام قواعد الخط الكلاسية الموروثة.
8 - مجموع صفحات أعدادها التسعة هو (552) صفحة بمتوسط (60) صفحة للعدد، ما يعني أنها مجلة متوسطة ملائمة.
9 - وباستثناء العدد الأول، فجميع أعدادها محلاة بصور على صدر غلافها الأول: معمارية ? فلاحية ? تراثية... غالبا. مضافا إليها مقتبسات من كلمات مأثورة لمفكر أو أديب مشهور... أقرب إلى الحكمة منها إلى أي موضوع آخر.
10 - لا توجد للمجلة هيئة تحرير معلنة. والغالب أنها لا توجد أصلا. فالفرقاني يقوم بكل شؤونها، عدا الإشهار، الموكول إلى مسؤول ثم إلى وكالة تجارية مختصة (يبدو أنها بمبادرة من الحزب مكلفة بست مجلات وصحف حزبية أو محسوبة على الحزب). هو المدير ورئيس التحرير وهيئة التحرير، الذي يشرف على جميع الأبواب ويجيب ويعيد صياغة وينشر ويعلق... على جميع المراسلات، بل هو يشارك فيها أحيانا أيضا كقارئ (؟!) ويوقع لذلك بعدة أسماء وكنى وألقاب وصفات...: محمد الحبيب الفرقاني المحرر م.ح أبو زكي مبعوث رسالة الأديب ابن الشعب رسالة الأديب أديب رقيب خبير قروي ابن منظور... إلخ.
11 - للمجلة مراسلين في ثمانية مدن مغربية (؟) وهي تعلن فضلا عن ذلك عن حاجتها إلى ستة آخرين في ستة مدن أخرى (؟) وهو أمر لافت للعجب بالنسبة لمجلة ثقافية، وغير لافت إذا كانت في أصل الهدف من تأسيسها، أو قد يكون هدفا طارئا على مسيرتها، ألا وهو المساهمة في تغيير الحزب من داخله أو عند الاضطرار، إعادة تأسيسه تحت اسم «الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال» ثم لاحقا ومباشرة «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية».

12 - حظيت المجلة ببعض الإعلانات الإدارية ثم التجارية (لوسيور ? وكالة أسفار «أنفا») مستفيدة في الغالب من الشروط المناسبة لحكومة ع. الله إبراهيم.
13 - بقيت مسألة التمويل، ولعلها الأكثر أهمية في دلالة المشروع. وقد سألت المرحوم حولها، وفاجأني بما كنت أنتظر نقيضه تماما. أخبرني بكون ميزانية الانطلاق، كانت خمسة آلاف فرنك (سنتيم) من قبل أحمد بلا فريج (؟!)
14 - تكاد الحالة الفريدة التي التقت فيها المجلة خلال صدورها مع الموقف الرسمي ل»الدولة» هو نشرها لصورة الملك محمد 5 وهو يخطب خطابه التاريخي الثاني (بعد خطاب طنجة) في محاميد الغزلان مؤكدا على الحقوق التاريخية الثابتة في الأراضي المغربية المستمر احتلالها شرقا وجنوبا. ولهذه الإشارة اليوم دلالات عميقة ومتعددة لا تخفى على وطني أو على منصف...
3 - التبويب
تربو أبواب «رسالة الأديب» على العشرين بابا، دون احتساب التفصيل والتعدد في عناوين بعض الأبواب مثل مراسلات القراء (البريد بريد الرسالة معرض الآراء أسئلة القراء ركن الطالب حول العدد الماضي...) ما يجعل منها مجلة جامعة، متنوعة مفيدة وممتعة.. ومن تم جماهيرية لا نخبوية، أهم أبوابها بغض النظر عن التفريع والتفصيل.
أولا: السياسة والإيديولوجيا: وهما لا أقل من (36 مقالة في 92 صفحة)، وذلك دون احتساب المنحى السياسي أو البعد الإيديولوجي لبقية المواد الأخرى نفسها، كالشعر والتاريخ.. فضلا عن الكاريكاتير والطرائف والنكات... (واقعيا، لا أقل من نسبة 50% من صفحات المجلة مجملة) تم الاهتمام بالسياستين الوطنية أساسا والمحلية أو الجهوية بالدرجة الثانية.
أهم الكتاب كانوا: علال الفاسي ? ع. الله إبراهيم (حوار..) ثم الفرقاني نفسه خاصة.
وقد التزمت لذلك ركنا دائما حول السياسة المغربية في شهر، هو بمثابة إخبار مركز، وتقييم للأحداث والصراعات التي شهدها مغرب بدايات الاستقلال، واتخاذ مواقف منها جميعا في اتجاه إستراتيجية الجناح اليساري لحزب الاستقلال، فضلا عن تيار المقاومة وجيش التحرير والحركتين العمالية والطلابية...
ثانيا: إن الآداب والفنون بشتى أشكالها وصيغها، تأخذ في المجلة، المرتبة الثانية من حيث الأهمية والحيز، ذلك لأنها لا نقل في مجملها عن (73 مادة في 118 صفحة)، تتوزع تفصيلا كالتالي:
أدب ونقد (24 مادة في 30 صفحة)
لغة (3 مواد في 6,5 صفحات)
أدب أجنبي، (1 مادة واحدة في 3 صفحات)
الشعر: (25 مادة في 27 صفحة)
قصة: (8 قصص في 29 صفحة)
وللفنون ركن تابت ، مواده غير موقعة غالبا، وذات طبيعة تعليمية (في الرسم خاصة) تناول السينما والمسرح والموسيقى والغناء... (12 مادة في 22 صفحة) وساهم فيه عدد لا بأس به من الكتاب المشارقة ومن المغاربة: ع. الله المصالجي، أحد رواد الإخراج في السينما المغربية..
أهم الكتاب كانوا: ع. الله كنون، ع. العزيز بنعبد الله، علال الفاسي، ع. القادر حسن، المهدي البرجالي، محمد برادة، ع. الجبار السحيمي، التناني، الحمداوي، محمد الشاوي، مصطفى المعداوي، أحمد الخلاصة، محمد بن حسن، أحمد صبري، العلمي... والفرقاني طبعا.
لقد كان التوازن متحققا عموما بين العناية بالآداب العربية الكلاسية والحديثة، كما كان صدور المجلة، مناسبة لنشر بعض نصوص الشعر المقاوم في عهد الحماية مما لم يتح له النشر خلالها، وشجعت بالطبع الأقلام الشابة والحساسيات الجديدة في القصة والشعر، فضلا على الدعوة إلى الاهتمام بالفنون الحديثة كالسينما والرسم والمسرح... وترجمة بعض المقالات لمغاربة كتبت في الأصل باللغة الفرنسية.
لم تخرج «رسالة الأديب» بذلك وبغيره، عن تقاليد وإستراتيجية الوعي النضالي الرومانسي أوربيا ومشرقيا، والذي احتفى بدوره كثيرا بفنون الآداب، وسيلة للتنوير والتحديث، والدعوة إلى النهوض وإلى الحرية والتحرير، ومناهضة التخلف والظلم، واضطهاد المرأة وتهميش الشباب وتكريس التقاليد المضرة...الخ.
ثالثا: لعل جديد «رسالة الأديب» حقا، وما يلفت النظر إلى تميزها وامتيازها في حينه، هو عنايتها الخاصة بموضوع المجتمع وقضاياه، خاصة القروي الفلاحي منه، ما يمكن اعتباره التأسيس المحلي والوطني لهذا الفرع من علم الاجتماع وذلك قبل أن يأتينا من قبل مستشرقين معاصرين، أو بعض الخريجين المغاربة من فرنسا على ضئالتهم وضئالة إنتاجهم (؟!) .
يستأثر هذا الحقل، بمختلف تجلياته ب (23) مقالة أو استطلاع، وذلك في حيز يستغرق (63 صفحة)، وهي نسبة محترمة جدا في تلك الشروط، أخذت منها المناطق الفلاحية (الأطلس خاصة) (3 مقالات في 12 صفحة)، وسر ذلك دائما هو شخص رئيس التحرير، والذي هو ميلادا ونشأة، من منطقة تاحنوت، من ضواحي مدينة مراكش. فعلاقته بالموضوع متعددة الدوافع والأهداف.
إن الأمر يحتاج من قبل مؤرخي علم الاجتماع المغربي والعربي وبالأخص منه القروي إلى توقف وعناية...
وتأخذ التربية والتعليم قسطهما ب (6 مقالات في 25 صفحة)، تركزت خاصة حول حالة التعليم العتيق (ابن يوسف) وتهميشه على جميع المستويات في مغرب الاستغلال المفترض فيه العكس. الأمر الذي تناول منه، مقرراته وبرامجه وأساتذته وطلبته وبناياته وميزانياته... الخ.
مبررات ذلك متعددة، فمن تلك المؤسسة بالذات انبثقت حركة المقاومة وجيش التحرير، ومنها أيضا برزت حركات الإصلاح اليسارية في «حزب الاستقلال» وطلبته وأساتذته غالبا ما كانوا الأكثر اضطهادا وبالتالي الأكثر نضالية، خاصة وحقد الاستعمار عليهم وعلى ثقافتهم العربية-الإسلامية، استمر، وأحيانا بشكل مضاعف، مع مرحلة الاستعمار الجديد... ومن قبل بعض تلامذته المغاربة في الإدارة...
علم الاقتصاد هو الحقل الأفقر في الثقافة العربية إلى يومه. ولذلك لم يحظ سوى بمادة واحدة في ثلاث صفحات، كانت عبارة عن تقديم لمقتضيات «المخطط الخماسي»، المنجز الأهم في تجربة حكومة ع. الله إبراهيم، وذلك تم من قبله هو نفسه، ذلك لأن الأطراف الأخرى المساهمة في إنجازه، لم تكن ثقافتها تسمح لها بالدعوة له بغير لغة المستعمر (؟!)
رابعا: ثم تأتي في الترتيب من حيث الأهمية، القضايا الثقافية العامة، بما في ذلك خاصة: الفلسفة والحضارة. وهي كالتالي من حيث توزع موادها:
الثقافة: (9 مقالات في 30 صفحة)
الفلسفة: (1 مقالة واحدة في 03 صفحات) من قبل مشرقي.
الحضارة: (6 مقالات في 24 صفحة). توزعت بين مشارقة (3) وترجمة.
ثم التاريخ: (2 مقالتان في 3,5 صفحات)
وهي عموما، مواد وسط، بين البعدين البحثي والتعليمي، أهم كتابها كان الأستاذ ع. العزيز بنعبد الله والمهدي البرجالي..
خامسا: إن المحور الذي لا يقل أهمية، أن لم تفق أهميته بالنسبة للتحرير، بقية المحاور الأخرى هو القراء، ما يعني العناية بالبعد الجماهيري للمجلة وربما أيضا الاستقطابي لخطها الثقافي-الإيديولوجي والسياسي، تعددت لذلك الأركان والأبواب والأسماء والوسائط... ولكن الهدف ثابت والمستهدفين كذلك، وهكذا ففضلا عن «ظاهرة» المراسلين في المدن، وعن الاستطلاعات، وما تقتضيه من حوارات واتصالات مباشرة بالمعنيين بها... نجد الأبواب التالية، والتي تحضر متزامنة أو متعاقبة: بريد الرسالة/معرض الآراء/البريد/أسئلة القراء/حول العدد الماضي/ركن الطالب/المسابقات (في الشعر والقصة).
ومن مفارقات ذلك الوكد، كون رئيس التحرير نفسه، يشارك في مراسلة المجلة باعتباره قارئا (؟!) وذلك تشجيعا منه، ربما، للقراء على الكتابة وعلى المراسلة...
بلغت تلك الأركان وبغض النظر عن تسمياتها (19 ركنا)، شغلت حيزا في حدود (39 صفحة).
سادسا: بقي ركن الطرائف والفكاهة الترفيه (5 مواد في 6 صفحات) ويمكن إضافة الكاريكاتور (6x6 دون توقيع) والصور، خاصة على الأغلفة الخارجية (6x6) وهي عموما ذات طابع ثقافي-عمراني-تراثي ما عدا حالتين:
1-صورة الملك محمد 5 وهو يخطب في محاميد الغزلان.
2-صور استعراضات فاتح ماي العمالية (أ.م.ش) النقابة الوحيدة والعتيدة والتقدمية زمنئذ، وهو أمر مفهوم بالنسبة للخط التحريري للمجلة ومراجعه الإيديولوجية ومطامحه السياسية.
سابعا: عرض الكتب والمجالات... (4 مرات في 8,5 صفحة) وتناولت إصدارات تونسية مجلة «الفكر» ولبنانية «الثقافة الوطنية» (محسوبة على الحزب الشيوعي) وفرنسية... مع العلم أن المجلة عمدت أحيانا، إلى إعادة نشر بعض مواد تلك المجلات، ومن ذلك مثلا قصيدة غزلية لكامل الشناوي أداها غناء محمد ع. الوهاب، واشتهرت في حينه..
ثامنا: مقالات علمية ولا تعدو مرتين، أحدهما في علم النفس، والأخرى من قبل أستاذ مصري.شغلتا ثلاث صفحات.
تاسعا: بقيت الافتتاحيات، ويبدو أن مقالات رئيس التحرير، أو أحيانا مواد بعض الزعماء (ع. الله إبراهيم...) اعتبرت مؤدية للوظيفة... ولذلك نشرت في موقعها، إلا مرتين:
1-الافتتاحية التي عرضت لدواعي الإصدار والأهداف منه، والخط التحرير للمجلة...
2-دعوة لأدباء المغرب حتى يبادروا إلى تأسيس رابطة وطنية تؤطرهم وتعبر عن مشاغلهم ومطالبهم ومطامحهم...
عاشرا: ثمة إشهارات صريحة، وأخرى غير مباشرة، وربما أيضا غير مؤداة، شملت دعاية للمعرض التجاري الدولي، تضمنت تنويها صريحا بالصناعات السوفياتية، وبإدارة التجارة الخارجية المغربية وأيضا وبمناسبة أخرى، دعاية صريحة لكل من ألمانيا من جهة وهولندا من جهة ثانية (؟!).
وما يلفت الانتباه في هذا الصدد، هو نشر المجلة لمسابقة من قبلها، عن حسن إعلان تجاري «مغربي-أصيل»، يصلح لتقديمه نموذجا لإعلان يراعي الذوق المغربي لا الأجنبي. (؟!)
(*)- مهداة إلى الأستاذ الجليل السيد عبد الله الشليح، بمناسبة تكريمه.
يتبع


نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 19 - 09 - 2011

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى