د. أحمد الحطاب - المقاولات الكبرى والمواطنة

ما معنى أن يكونَ شخصٌ أو مؤسسةٌ مواطنا(ة)؟ ببساطة، كل شخص، ذاتيا كان أو معنويا، يعطي لنفسه صفة المواطنة أو نقول إنه يتَّصف بالمواطنة، لا بد أن تتوفَّر فيه على الأقل الخصال التالية :

1.نكران الذات abnégation بمعنى أن مصلحة الوطن فوق كل شيء وفوق كل اعتبار،

2.حب الوطن patriotisme، أي الإحساس العميق بالانتماء لهذا الوطن والاستعداد للدود عنه في الحِلِّ و دالتَّرْحال،

3.السعي للصالح العام civisme، أي أن المصلحةَ العامة تسبق المصلحة الشخصيةَ ،

4.المساهمة في تنمية ورقي وازدهار بلاده (وطنه) حضاريا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ولو بقدر ضئيل.

قد يقول البعض إنه من الصّعب في عصرنا هذا الذي تسود فيه المادية والفردانية أن تتوفَّر هذه الخصال في الأشخاص في حياتهم اليومية. أتفق وفي نفس الوقت لا أتفق مع هذا الرأي.

بالفعل، أتفق لأننا نلاحظ اليوم أن شريحةً عريضة من الناس تجردت تجردا واضحا من هذه الخصال إلى درجة أن البعض منهم فقدوا إنسانيتهم وأصبحوا عبارة عن آلات مُبرمجة تحرِّكها الأنانية والجشع والربح السريع و دلو بطرق غير مشروعة. يتصرَّفون وكأنهم غرباء عن بلدهم هذا، ضاربين عرض الحائط كل القيم النبيلة التي تحكم العلاقات بين الناس و دتوجهها نحو الاتجاه الرصين، الرزين والمتعقِّل. ناس هاجر عقلُهم وضميرُهم من رؤوسهم إلى جيوبهم (شْكَايْرْهُمْ) وعلّقوا على جبينهم شعار "ومن بعدي الطوفان".

من المسئول عن هذا الوضع الاجتماعي الشاذ الذي يتنافى مع طبيعة الإنسان الفطرية، المجبول على فعل الخير؟ كما يقالُ، الإنسان ابن بيئته (وسطه)، أي إنه نِتَاج لهذه البيئة. كلما صَلُحَتْ البيئة، صلُح الإنسان. وصلاح البيئة لا يأتي من فراغ. وهذا يعني أن للبيئة مُصلحون. فمن هم هؤلاء المصلحون؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، دعونا نقوم بتشريح البيئة التي تُنْتِجُ الإنسان.

البيئة هي المكان الذي يترعرع ويتربى فيه الإنسان. فهي إذن الأسرة والمجتمع والمؤسسات. وهذه المكونات الثلاثة هي التي تلعب دور المصلحين. في الماضي، بفضل هؤلاء المصلحين، كانت تربية الفرد تبدأ في الأسرة وتكتمل في المجتمع و المؤسسات حيث كانت هذه البنيات تشكِّل وحدةً متكاملةً. فحين تخلَّتْ بعض الأسَر والمؤسسات عن دورها التربوي، فمن البديهي أن سوء التربية انعكس وينعكس على المجتمع فتصبحُ بعضُ شرائحه عُرضةً للشذوذُ الأخلاقي وللإغراء المادي. وإذا كان للأسَر دور حاسم في التربية الحسنة، فدور المؤسسات لا يقلُّ أهميةً هو الآخر. وهذا ما حدث بالطبع عندما فشلتْ مؤسسة المدرسةِ في أداء مهمتها التعليمية والتربوية. وهذا ما حدث عندما تعفَّنت مؤسسات أخرى كالإدارة وعلى الأخص الأحزاب السياسية التي هي في الحقيقة مدرسة من مهامها أن تغرسَ في نفوس الأجيال الصاعدة الخصالَ الأربعةَ السالفةَ الذكر وخصالا أخرى كالشفافية والجدية والصدق والفكر النقدي والنضال والتضحية و الحوار و...

هذا من جهة و من جهة أخرى، لستُ متَّفقا مع الرأي الذي يقول بأنه من الصعب أن يتحلَّى الفردُ في عصرنا هذا بالخصال الأربعة السالفة الذكر وذلك لسبب بسيط جدا : كل شخص منا ولو كان فردانيا، ماديا أو أنانيا، يختبئ في وجدانه، في كيانه، في لاوعيه، في أحشائه... قدرٌ و دلو ضئيلٌ من المواطنة وحب الوطن. ما يحتاجه هو تحريك ذلك القدر من المواطنة وإذكاءه ليخرجَ إلى حيز الوجود. وهذا يقودونا للقول بأن المغاربة كلَّهم مواطنون ومحبُّون لوطنهم إن على مستوى القول والفعل أو على مستوى النوايا. وقد أبانوا غير ما مرة عن غيرتهم على وطنهم.

لكن وعلى ما يبدو أن هناك فئة من الشعب المغربي، رغم احتواء وجدانها وكيانها ولاوعيها وأحشائها على ذلك القدر من المواطنة، لا تريد عمدا تفجيره أو إظهاره حفاظا على مصالحها. وعندما أتحدث عن التَّفجير والإظهار، أقصد على مستوى القول والفعل. إنه من السهل الحديث والتَّهليل بالمواطنة ورفع الشعارات التي تُمجِّدها بينما تطبيقها على أرض الواقع يتطلب جهداً وتضحيةً وإيثارا وعطاء، الخ. هذه الفئة هي فئة الليبراليين، أصحاب المقاولات الكبرى الذين يحتكرون جزأ كبيرا من الأنشطة الاقتصادية وثروات البلاد. ولا داعي للقول أنه عندنا بالمغرب، الليبرالية تقترن بالغنى والثراء الفاحش، الشنيع والوَقِح.

فتعالوا معي أيها القراء المحترمون لنرى هل فعلا الليبراليون المغاربة (المقاولات الكبرى) مواطنون كما يدعون ويتشدَّقون في المنابر الرسمية وغير الرسمية؟ وبعبارة أوضح، هل فعلا حاولوا أن يحرِّكوا ذلك القدرَ الضئيلَ من المواطنة، الذي يختبئُ في وجدانهم وكيانهم ولاوعيهم وأحشائهم؟ ومن أجل التأكد من تحريك هذا القدر الضئيل من المواطنة، سأركِّز في التحليل على الخصلة الرابعة السالفة الذكر، أي : "المساهمة في تنمية ورقي وازدهار بلاده (وطنه) حضاريا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ولو بقدر ضئيل".

قد يقول قائل إن المقاولات الكبرى، من المسلَّم به، تساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. نعم وبدون شك ما دام لها دور في إغناء الناتج الداخلي الخام وما دامت تشغِّل اليدَ العاملةَ وما دامت تؤدي الضرائب. لكن، وهنا تكمن المواطنة الحقة، هل يتمتَّع العمال المُشَغَّلون بها بكامل حقوقهم من حيث مستوى الأجور والتغطية الاجتماعية والصحية وتثمين المسار المهني، الخ.؟ وهل فعلا هذه المقاولات تؤدي الضرائب كما يحددها القانون كمّاً وهل تخضع لمراقبة جبائية منتظمة، عادلة ومحايدة؟ وهل تُتَّخذ في حقها الإجراءات الضرورية المنصوص عليها في القانون في حال تجاوزاتها، الخ.؟

الواقع المعاش يحدثنا بلغة مخالفة ويسير تماما في الاتجاه المعاكس لهذه التساؤلات. وحتى مساهمتُها في الناتج الداخلي الخام، فإنه يعتمد على أرقام معاملاتها التي تتضمَّن أرباحا طائلة تستفيد منها أولا وقبل شيء المقاولات الكبرى نفسها. وإذا قارننا هذه الأرباح بما تخصصه للأجور وبعض التعويضات والضمان الاجتماعي إن كان مُنصفا، فسنجد أن هذه المقاولات تستغِلُّ البشرَ استغلالا وحشيا ولاإنسانيا. أضف إلى هذا عمليات الطرد والتوقيف وأحيانا ظروف عمل بهيمية إن صح القول. وفوق هذا وذاك، من المُلفِت للانتباه أن أرباب هذه المقاولات لا يولون أي اهتمام لشِغِّيلتهم من الناحية الإنسانية إذ لم نسمع يوما أن الرؤساء المدراء العامّين أو المدراء العامّين التقوا مع هذه الشغيلة وتجاذبوا معها أطراف الحديث حول مختلف الأمور كما يحدث ذلك باليابان مثلا. الشغيلة في تصور هؤلاء الرؤساء والمديرين عبارة فقط عن سواعد يُستغلُّ عرقها وجُهدها إلى أقصى حدّ. أين هي المواطنة؟ وكل ادِّعاء معاكس، فإنه استهزاء بعقول الناس، بل إنه تحدي صارخ لمن بيدهم اتخاذ القرارات!

ورجوعا أيضا للخصلة الرابعة، فإن المواطنة تقتضي أن تعتني المقاولات الكبرى بتنمية المناطق، وخصوصا القروية، التي توجد بها معاملها ومصانعها. ويتمثل هذا الاعتناء في بناء المدارس وشقِّ الطرق وجرِّ الماء الصالح للشرب وإدخالِ الكهرباء والاعتناءِ بالفقراء وإحداثِ أنشطة مُدِرّة للدخل، الخ. نادرة هي المناطق، إن لم نقل منعدمة، التي نالت حقَّها من اهتمام المقاولات الكبرى بتنميتها. وأحسن أمثلة يمكن سياقها في هذا الصدد، المناطقُ التي تُسْتغلُّ مناجمُها من طرف المستثمرين، مدينة جرادة كنموذج. أين هي المواطنة؟ وكل ادِّعاء معاكس، فإنه بمثابة ذر الرماد على العيون، بل ديماغوجية وقحة، بل خيانة للوطن. وهذه الخيانة لا تنطبق فقط على المقاولات الكبرى، بل تنطبق كذلك على المسئولين الذين يدركون ويرون بكل وضوح ما يجري ولا يحركون ساكنا. بل الغريب في الأمر أن هؤلاء المسئولين، ومن رفيعي المستوى، نصَّبوا أنفسهم محامين، وبالمجان، للدفاع عن الرأسمال والليبرالية المتوحشة! والشعب، فليذهب إلى الجحيم!

ودائما في إطار الخصلة الرابعة، فإن المواطنة تقتضي كذلك أن تُساهم المقاولات الكبرى في رقيِّ وازدهارِ المناطق التي تستقِرُّ بها حضاريا وثقافيا. والرقي والازدهار الحضاريان والثقافيان يحتِّمان على هذه المقاولات، أولا وقبل كل شيء، القضاء على الأمية. لأنه، بكل بساطة، لا رقيَّ ولا ازدهارَ بدون بشر متعلمين و واعين ومثقفين. إذا استثنينا بعض النماذج الناجحة المحدودة، فإن المقاولات الكبرى لا تولي أي اهتمام لا برقي ولا بازدهار المناطق المتواجدة بها. بل إنها تدرك تمام الإدراك أن محو الأمية يشكل خطرا على مصالحها. تثقيف وتعليم الناس سيقودان إلى توعيتهم وتمتيعهم بالفكر النقدي الذي سيجعلهم مدركين لحقوقهم و واجباتهم. وفضلا عن كل هذا، ما هي الشركات الكبرى التي اعتنت بشباب المناطق القروية بإحداث ملاعب رياضية ونوادي للمسرح وللموسيقى؟ أين هي المواطنة؟ الشركات الكبرى لا تهمُّها الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمناطق التي تنشط بها. ما يهمُّها هو استنزاف ثرواتها بعلْمٍ صارخٍ من المسئولين إن لم نقل بتواطؤ معهم!

من قال ويقول إن الشركات الكبرى مواطنة، إلا مَن رحم ربي، فهو : كاذب، انتهازي، منافق، له حاجة في نفس يعقوب، مُنتخَب له ريع أو يسعى للحصول عليه، مسئول يخاف على كرسيه، مول اشكارة، نقابي مقنَّع، وصولي، المشتاق إِلاَ داق وسياسي متملِّق من طينة مَن تعرفونهم. مواطنتهم لا تتعدى اللسان. و دإن تعدَّت في غفلةٍ منهم اللسانَ لتذهبَ جوارَ القلب، فإنهم بختنقون!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى