متحف باردو.. هدية تونس إلى العالم

من أهم التحديات التي تواجهها مجتمعاتنا اليوم هو الصمود أمام محاولات فصلها عن بعضها البعض، وفصل مكونات وثقافات المجتمع الواحد إلى جانب فصل الجيل الحالي والأجيال الصاعدة عن جذورها وتاريخها ومحاولة تقديم قراءات مجتزأة له على أنها حقائق، ومن هنا تأتي حاجة كلٍ منا إلى الإعتياد على البحث والتفكير والقراءة والتأمل والتحليل والمقارنة لنكون مناعة ضد كل ما هو مزيف، وبلا شك فإن بلادنا تحتضن تاريخاً عظيماً يحتل مكانةً هامة بين مختلف الأمم التي نحترمها جميعاً، وقدمت اسهاماتٍ لا تنسى للحضارة الإنسانية علينا أن نعرفها أو نكون على الأقل فكرةً مبسطة عنها لذا نذهب اليوم في رحلةٍ مميزة إلى تونس الخضراء لزيارة أحد أجمل وأهم متاحفها (المتحف الوطني في مدينة باردو)..

والذي يقع في مدينة باردو التي تبعد حوالي ٤ كم عن العاصمة التونسية، والتي تعود تسميتها إلى كلمة ذات أصل إسباني (البرادو) وتعني الحديقة أو الحقل، حيث يُعتبر ثاني متحف في العالم بالنسبة إلى فن (الفسيفساء الرومانية) بعد متحف فسيفساء (زيوغما) في تركيا، وهو أقدم وأهم متحف تونسي كما يعد من أهم المتاحف التي تتمتع بشهرةٍ عالمية عدا عن كونه يحظى بمكانةٍ خاصة في دول حوض البحر الأبيض المتوسط، ويعد ثاني متحف في القارة الإفريقية بعد (المتحف المصري) بالقاهرة نظراً لثراء مقتنياته وتنوعها وقيمتها الكبيرة على مستوى التاريخ الإنساني، والذي يرصد تاريخ تونس منذ آلاف السنين ويمر بالعديد من الحضارات عبر مجموعةٍ واسعة من القطع الأثرية التي لا مثيل لها، وتحتوي على ما يقارب ١٣٠,٠٠٠ قطعة تم العثور عليها واستخراجها من الحفريات التي تمت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين والموزعة على خمسين قاعة ورواق، وتتألف من ثلاثة أدوار تمتاز بأساليب معمارية وفنية وتقنياتٍ مختلفة مغاربية وتركية وإيطالية وأندلسية وتونسية، وذلك بتناسقٍ عظيم فيه عددٌ كبير من النوافير والأحواض المحفورة في الرخام المستورد، وقاعة مفتوحة على الهواء الطلق تتوسطه فسقـية وبلاط أرضي من الرخام الأبيض والأسود كما هو الشأن في جميع الغرف الأخرى المزخرفة بالذهب واللازورد والنقش على الجبس، وتتميز بمجموعة ٍ من الفسيفساء التي تعد من أغنى المجموعات التي ساهمت في جعله ضمن أهم عشرة متاحف على مستوى العالم، ومن ضمن المواضيع التي تُصّورها: المعتقدات والأساطير (الأبطال الأسطوريون ، الآلهة والإلهات) ، الزمن وتقسيماته (الفصول: الخريف والشتاء والربيع والصيف والتقويم: السنة والأشهر و الأيام والكون والتنجيم) ، والخرافات والمعتقدات المتعلقة بالتطيّر (العين الشريرة) والأضاحي المقدمة للآلهة والأديان التوحيدية، وتحتل أوجه الحياة اليومية مكانة بارزة في هذه الفسيفساء ومنها الحياة البحرية: صيد الأسماك والتجارة البحرية ، وأصناف المراكب والحياة الريفية: العقارات الكبيرة ، الفيلات الترفيهية ، صيد الوحوش الكبيرة ، الرياضة والترفيه ، إلى غير ذلك..

وتشمل آلاف اللوحات الفسيفسائية الرومانية التي يعود تاريخها من القرن الثاني قبل الميلاد إلى ما بعد القرن السادس الميلادي وتغطي مساحة ٥٠٠٠ متر مربع من مجموع مساحة المتحف التي تبلغ ٢٣,٠٠٠ متر بعد توسعته عام ٢٠١٢، وأدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) ضمن قائمة التراث العالمي لما ينفرد به من كنوز أثرية على غرار التماثيل ولوحات الفسيفساء التي يتجاوز عددها ٤٠٠٠، وتعكس تعاقب الحضارات على تونس وتغطي تاريخها بكل محطاته بدءاً من عصر ما قبل التاريخ وإلى أواسط القرن العشرين وهي حسب الترتيب : ما قبل التاريخ، العصر البوني، العصر الليبي، العصر الفينيقي، العصر الروماني، المسيحي القديم، فالمرحلة الوندالية والبيزنطية، ثم العهد الاسلامي، والذي يمتد الى غاية اليوم..

تم افتتاح (متحف باردو الوطني) الذي تم إنشاؤه بموجب مرسوم (بيلي) أميري بتاريخ ٧ تشرين الثاني/ نوفمبر/ شتنبر عام ١٨٨٢ في ٧ أيار/ مايو/ ماي ١٨٨٨ بحضور (علي الثالث باي) الذي نسب إليه في بادء الأمر وكان اسمه (المتحف العلوي)، وهو والي تونس الممثل للدولة العثمانية ومقره في مدينة تونس العاصمة، ويقع في منطقةٍ واحدة تضم القصر (البايلي) الأميري القديم في باردو (مقر البرلمان التونسي) بالإضافة إلى (متحف باردو الوطني) والذي اكتسب أهميةً تاريخية عدا عن قيمة محتوياته من الأحداث الهامة التي شهدها في تاريخ تونس من بينها (موكب الإعلان عن عهد الأمان) عام ١٨٥٧ و(موكب الإعلان عن أول دستور لتونس) عام ١٨٦١، ويضم هذا الصرح العديد من الأجنحة والقاعات ومن أهمها:

- قاعة ما قبل التاريخ : والتي تضم معلم (هارميون) وهو الأقدم في المتحف حيث يعود إلى قرابة ٤٠,٠٠٠ عام أي في (العصر الموستيري)، ويعد من أول أشكال التعبير الروحاني لدى البشرية، وهو عبارة عن كدس مخروطي الشكل يبلغ طوله ٧٥ سنتيمتراً بعرض ١,٥ متر، ويتكوّن من ٤٠٠٠ قطعة من الصوّان و العظام والأكر الكلسية، وفي القاعة توجد أيضاً الأواني الفخارية والأدوات الحجرية التي استخدمها الإنسان خلال هذا العصر القديم..

- قسم الآثار (البونية الفينقية): ويضم هذا القسم عدداً من تماثيل الآلهة أهمها أنصاب نذرية مُكرّسة للإلهين (بعل حمون) كبير الآلهة لدى القرطاجيين وهو إله الشمس والمطر ورمز الرخاء، و(تانيت) آلهة الخصوبة ذات الرأس الأسدي والجسد الأنثوي، وهما المعبودان الرئيسيان ضمن مجمع الآلهة القرطاجية، بالإضافة إلى قطعٍ مصنوعة من مواد مختلفة تتعلق بالممارسات الدينية البونية ومنها : درع من الذهب المصمت لمحارب من كمبانيا، أصناف من الحلي، لوحة تصوّر كاهناً يحمل طفلاً ليقدمه قرباناً، أثاث جنائزي من عدة دول متوسطية ( تتشكّل منه المجموعات المصرية واليونانية في المتحف)، كما تضم قطعاً كثيرة من الخزف والفخار المحلي والمستورد ومجموعةً من الحلي النسائية التي تعود إلى هذه العصور..

- قسم الآثار الرومانية والذي يتوزع على عدة قاعات منها قاعة قرطاج الرومانية : وهي عبارة عن فناءٍ مستطيل يحيط به من جميع الجوانب الأربعة رواق مع ستة أقواس طولياً وثلاثة عرضياً، مدعمةً بأعمدة من الرخام الأبيض ويعلو كلا الأقواس المركبة أفاريز رقيقة وأقواس ومقرنصات مذهبة، وتشمل محتويات المتحف التاريخي (أي القصر القديم لحريم “محمد باي”) تقريباً كامل مجموعاته الشهيرة من الفسيفساء والمنحوتات الرومانية..

- ويشمل قسم الآثار الرومانية أيضاً قاعة فيرجيل: والتي تضم لوحةً مصنوعةً من قطعٍ أثرية نادرة جداً للشاعر الروماني (فرجيل)، بلغ طولها ١,٤ متر بعرض ١,٣٨ متر، تعود إلى القرن الثالث الميلادي وقد جرى اكتشافها في موقعٍ أثري في (حضرموت القديمة) بمدينة سوسة في الساحل، وهو على شكل صليب تزين الجدران في جزئها السفلى لوحات الجليز المزين بزخارف هندسية ونباتية، في حين أن الجزء العلوي تغطيه المنحوتات الجصية البيضاء المتشابكة والمتداخلة في شكل تعرجات وقلوب وسعف نخيل وأوراق شجر، وهي الفسيفساء الوحيدة التى تجسد هذا الشاعر وهو يرتدي حلّةً رومانية بيضاء اللون وتحيط به ملهمة التاريخ (كليو) وملهمة الفنّ (ملبومان)، وذلك بإستخدام قطعٍ صغيرة من الرخام والكلس وعجين الزجاج..

- وتقع قاعة سوسة ضمن قسم الآثار الرومانية أيضاً : وهي قاعة الإستقبال في القصر وتقع ضمن قسم الآثار الرومانية، حيث تتميز بزخارفها البديعة والقباب التي تغطيها والمصنوعة من الخشب المذهب والتي تركّزت في بهو المتحف، وبها أكبر اللوحات الفسيفسائية في العالم وتصور أسطورة النصر لـ(نبتون) التي جعلت (متحف باردو) يحتل المرتبة الثانية ضمن فن الفسيفساء، اذ تبلغ مساحتها ١٣٠ متراً مربعاً وتزن أربعة أطنان وتعود الى القرن الثاني الميلادي، وتعتبر أكبر لوحة فسيفساء عمودية في العالم، كما تشمل (قاعة دقة) في داخل المتحف أيضاً مجموعة من الآثار واللوحات الفسيفسائية الرومانية...

- قاعة المهدية : والتي تعرض ضمن المجموعة اليونانية بالمتحف، وتحوي عدداً من الآثار التي اكتشفها بحارة إغريق أثناء عثورهم على حطام سفينة رومانية قبالة سواحل المدينة بين عامي ١٩٠٧ و ١٩١١ منها تمثال (هرماس)، والمعروف أيضًا بإسم (كنز المهدية)، ويحتوي على قطع أثرية وتحف تعود إلى (الفترة الهلنستية) وهي قطع مصنوعة من البرونز والرخام والخشب (تماثيل نصفية للآلهة اليونانية ، تمثال برونزي للآغون الذي يبلغ طوله ١,٢٠ متراً)، ويعتقد المؤرخون أن هذه التحف جاءت أساساً من (ميناء أثينا) بين سنتي ٧٠ و ٨٠ قبل الميلاد وكانت على متن سفينة متجهة نحو السواحل الإيطالية، غير أن عاصفةً منعتها من عبور (مضيق ماسينا) فحولت طريقها نحو شمال إفريقيا حيث غرقت على بعد قرابة خمسة كيلومترات من سواحل مدينة (المهدية)، وظلت على عمق ٤٠ متراً في قاع البحر...

- قاعة الفسيفساء المسيحية : وتعرض قطعاً أثرية وفسيفسائية نادرة تعود إلى الزمن المسيحي الأول، مثل (اللوحات الجنائزية) و(حوض تعميد) مسيحي لتعميد الرضع في إفريقيا البروقنصلية والذي عثر عليه في (قليبة شكال) شرق تونس، ويتضمن نقوش تكريم للقديس و أب الكنيسة الغربية (قبريانوس) القرطاجي، وهو عبارةٌ عن حوضٍ من الزجاج المزوق والذي صنف كأحد أجمل و أعرق أحواض التعميد في العالم، والذي يبرز الإزدهار المسيحي الذي شهدته المنطقة ككل، حيث أن المسيحية الغربية نشأت في قرطاج..

- الجناح الإسلامي : يشتمل على باقةٍ غنية وجاذبة من المخطوطات والحلي والمنحوتات الحجرية والخشبية، وتحف تعود إلى مختلف العهود، كما يشتهر بورقات (المصحف الأزرق) المكتوب بالذهب الذي يعود إلى القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، و(مصحف الحاضنة) (عمة المعزّ بن باديس الصنهاجي)، ويعرض قطعاً خزفية من موقع رقادة (القيروان) وأخرى من صنع ورشات القلالين بالعاصمة المستخدمة في أغراض الزينة وأشياء مألوفة الإستعمال محلياً، وتختزل ثلاث محطات تاريخية، وهي:

١- (القيروان) عاصمة الأغالبة وهي أول عاصمة إسلامية بالمغرب الإسلامي..

٢- (المهدية) عاصمة الفاطميين قبل انتقالهم إلى مصر ومهد الفن الفاطمي..

٣-مدينة (تونس) من خلال الخزف والنقوش الحفصية...

- القسم النوميدي : ويشمل جملةً من الموضوعات التي تشمل المعتقدات والديانة والكتابة اللوبية علاوةً عن تأثيرات اللغات الأخرى، حسب المناطق كما يتضح من النقوش والنحوت البارزة..

- غرفة التيبروس : وهي غرفة مستطيلة الشكل كانت مخصصة للموسيقى سابقاً، تغطيها اللوحات الخشبية المزينة بأشكال هندسية على أرضية من الذهب..

غرفة أوذنة : والتي تتوافق مع غرفة الطعام القديمة وهي مستطيلة الشكل ومجهزة بسقف خشبي محفور ملون..

ومن أبرز الأجنحة الجديدة إلى جانب الجناح الإسلامي، نجد (قاعة اليهودية) التي تبرز جوانب هامة من التراث اليهودي التونسي..

وبكل أسف تعرض هذا الصرح الشامخ في ١٨ آذار/ مارس عام ٢٠١٥ لهجومٍ إرهابي أسفر عن وقوع ٢٢ ضحية بين السائحين ورجال الشرطة بالإضافة إلى بعض الإرهابيين الذين قتلوا ضمن هذه الحادثة التي عاد بعدها المتحف إلى الحياة، لكنه توقف مجدداً في ٢٥ تموز/ يوليو/جويلية عام ٢٠٢١ بسبب غلق البرلمان المجاور له تبعاً لبعض الظروف السياسية التي نتمنى أن تنتهي قريباً ويعاد افتتاح المتحف من جديد وسط العديد من المطالبات من قبل المختصين والمثقفين وحتى من عامة الشعب بتحييده عن أي إشكالات خوفاً من تعرض محتواه للتلف بفعل الرطوبة خاصةً وأن مقتنيات المتحف بحاجة إلى عنايةٍ ومتابعة وصيانة دورية للحفاظ على سلامة مقتنياته التي لا تقدر بثمن وهي ما تبقى لنا من إرثنا الحضاري والثقافي الذي أوشكت الذاكرة على نسيانه..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى