د. أحمد الحطاب - كم من أمِّيي وفاسدٍ ألبسوهما ثوبَ النقاوة

إن أكبرَ وأبشعَ جُرم يتم ارتكابُه في حق هذا البلد السعيد، هو الإفلات من العقاب. وإن أفظعَ طعنةٍ تعرضت وتتعرَّض لها مصداقةُ الدستور، هي عدمُ تطبيق ما نصَّ عليه في شأن "ربط المسئولية بالمحاسبة".

ومن أخطر نتائج هذا التَّهاون، وصول السياسيين الفاسدين إلى مراكز السلطة وإلى البرلمان حيث يتسلَّحون بالحصانة البرلمانية ويصولون ويجولون ويعثون في البلاد فسادا. أما الأميون، فضالَّتُهم المفضلة هي الوصول إلى الجماعات المحلية ليحولوها إلى مِلكيةٍ خاصة لهم ولمن يسير في فلكهم من الفاسدين.

في هذا الجو المشحون بالفساد، ما يتبادر للأذهان هو : ما هو دورُ الأحزاب السياسية؟ وما هو دور الحكومة؟ وما هو دور القضاء؟ وما هو دور المعارضة؟ وما هو دور المجتمع المدني؟ وما هو دور المجلس الأعلى للحسابات؟ وما هو دور المجالس الأخرى (المنافسة، المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي)؟ إن لم تتجنَّد هذه الجهات والمجالس للقضاء على الفساد، فإنها فقط أجهزة لهدر المال العام.

فهل نحن بصدد الرجوع إلى عصر الجاهلية؟ والجاهلية، كما هو متعارف على مدلولها، تعني اصطلاحيا الفترة التي سبقتْ مجيءَ الإسلام والتي كان العرب غارقين فيها اجتماعيا وعقائديا في ظُلمات الجهل أو الجهالة. إننا فعلا دخلنا عصرا جديدا من الجاهلية. جاهلية أبطالُها ناس أميون، أشباه الأميين، أشباه المثقفين، سياسيون فاسدون حتى النُّخاع... جاهلية يحميها الدستور والقانون. جاهلية سمحتْ للأمية والفساد أن يسودَا، بل وأن يُسيِّرا شؤونَ البلاد. جاهلية أعطت لمن لا يفرقون بين "الليف و الزرواطة" الحقَّ لتسيير وتدبير شأننا العام والمحلي. جاهلية تَعِثُ باسم الديمقراطية والقانون. جاهلية تحتل الصَّدارة في المشهد الجماعي. جاهلية يؤطرها القانون 113.14. جاهلية فتحت الأبواب على مصراعيها لمن فشلوا في حياتهم السياسية، لمن غادروا الدراسة مند سنين ولم يتجاوزوا مرحلتها الابتدائية، لمن لم تطأ أقدامهم قَطُّ عتبة المدرسة، لمن يتربَّصون الفرصَ لإشباع ميولاتهم الفاسدة والمُفسدة، لمن لهم مهارة في التزوير والتدليس والمكر، لمن...

إنها فعلا مهزلة بكل المقاييس : مَن لَبِسُوا أو لُبِّسُوا ثوبَ النقاوة لإخفاء جهالتهم وفسادهم، أصبحوا هم سادة الشأنين العام والمحلي. يصولون ويجولون في دهاليزهما حسب أهوائهم ضاربين عرض الحائط دولةَ الحق والقانون ودستورَها وقِيمَها. بل لقد شكَّلوا مع السلطة لوبيات قوية ومتحالفة ضد الإرادة الشعبية وضد القانون في واضحة النهار ولا من يحرك ساكنا!

أي تدبير هذا يُسْنَدُ إلى سياسيين فاسدين شِعارُعم في الحياة : ومن بعدي الطوفان؟ السياسي الفاسد، أحسن ما يمكن أن يقومَ به، هو إنتاج الفساد وزرعُه في المجتمع.

أي تدبير محلي هذا يُسند إلى أميين يجدون صعوبةً في كتابة أسمائهم وفي ترتيب الحروف الأبجدية وفي النطق بها؟ فما بالك إذا تعلَّق الأمرُ بالحكامة، والتدبير المالي والاستشراف والتخطيط والتقييم وإصدار القرارت والمقررات وصياغة المساطر ودفاتر التَّحملات وتقنين الجبايات وإدارة الاجتماعات وحسم النزاعات وتسيير الشؤون الاجتماعية والاقتصادية وإقامة تواصل مثمر مع الساكنة والتفاوض مع السلطات وصياغة وتدبير وإنجاز وتقييم المشارع...

والله، أنا شخصيا، لم أعد أفهم شيئا! في هذا البلد السعيد، نصوغ دستورا يضاهي مضمونُه عددا كبيرا من الدساتير وقانونا متعلقا بالجماعات المحلية عرف تقدُّما كبيرا بالنسبة للصِّيَغِ التي سبقته. الدستور يحمي المواطنَ ويضمن كرامتَه والقانون يفتح الباب واسعا للتنمية البشرية والمحلية. كرامة المواطن التي نص عليها الدستور تأتي بالتطبيق العقلاني، الرشيد والمُتبصِّر للقانون المتعلق بالجماعات المحلية. وليكون لهذا التطبيق نتائج تظهر انعكاساتها الإيجابية على الساكنة، يجب أن يُعهدَ به لأناس لهم دراية بالشأن المحلي وبكل الاعتبارات التي من شأنها أن تسهِّلَ عملَهم وعلى رأسها المستوى التعليمي الذي يجب حتما أن يتعدى بكثير المستوى الابتدائي.

وفي نهاية المطاف، يُفْتَحُ البابُ واسعا للأمية لتُسيِّرَ الشؤونَ المحلية للشعب الذي أكثر من 60% منه غير أمِّيين! ما هذه الازدواجية القاتلة في السياسة الحكومية؟ من جهة، دستور وقانون لا غبار عليهما. ومن جهة أخرى، نفسُ السياسة الحكومية تنسِف الدستورَ والقانونَ بفتحها البابَ واسعا للأمية والجهل والفساد لتسيير شؤون المواطنين!

وما يزيد في الطين بلةً، هو أن وصولَ السياسيين الفاسدين والأميين إلى مراكز السلطة، واضحٌ للعيان. والمواطنون يعرفون حق المعرفة هؤلاء الأميين والفاسدين ويعرفون ما قاموا به من دسائس وخُدَعٍ للوصول إلى مراكز السلطة. بل السلطات نفسُها تعرف حق المعرفة مَن هم هؤلاء الفاسدون ومَن هم هؤلاء الأميون، لكنها لا تُحرِّك ساكنا!

فلا غرابةَ أن يفقد المواطنون الثقةَ في السياسة وفي الأحزاب السياسية وفي البرلمان وفي الأغلبية وفي المعارضة وفي الحكومة وفي جميع المؤسسات المنبثقة عنها!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى