أدب أندلسي عبدالرحمن البرقوقي - 1 - قصة الفتح بن خاقان

تمهيد:

آما وقد خطت (الرسالة) هذه الخطى الرغيبة الموفقة، وبلغت المبالغ في الفخامة والضخامة والطرافة والإحسان، والحشد والاحتفال، والعناية بالدراسات الدبية الممتعة الموفقة، والترحيب بكل ما يقدم إليها من الموضوعات القيمة الفائقة، فلماذا لا أُلقي دَلوي أنا الآخر في الدلاء، وانشر في (الرسالة) من الآن شيئاً مما تنطوي عليه أضابيري الأندلسية الزاخرة بشتى الموضوعات في هذا الفردوس الإسلامي المفقود - كما كان يسميه فقيد العروبة صديقنا المرحوم احمد زكي باشا - فمن ترجمة أديب إلى قصة شاعر إلى تاريخ فيلسوف إلى حياة علام إلى طرفة أدبية إلى نبذة فلسفية إلى تحفة علمية إلى شطحة صوفية، إلى ما شئت مما تهيأ لي أن اكف على دراسته منذ نيف وثلاثين عاماً حتى صرتُ أطول له عِشرة، وأبطن به خِبرة. . . ولا تسلني لماذا تولعت هذا التولع بدراسة الأندلس وكل ما يمت إلى الأندلس بسبب، فذلك ما اجهل أنا أيضاً علته. . وقد جفت الأقلام وطويت الصحف وقضى الله أن أكون ممن شغفه حباً هذا الفردوس الذي إذا أنت حاولت أن تنزه نفسك بين رياضه النضرة المهرة المثمرة، تجتلي أنوارها، وتجتني من أَمَمٍ أثمارها، وتستمع إلى تغريد بلابلها، وتتروّى من رحيق جداولها، ألفيت ما ينبعث له عجبك وإعجابك، وتشتهي مذاقه حتى يسيل له لعابك، ويتأرجح عبيرهُ المفعَّم فيملأ خياشيمه طيباً، ويستخفّك تغريده المغم فتترنح له تطريباً؛ بيد أنك إذا أنت حاولت هذا الإمتاع من طريق الأسفار التي وضعت في الأندلس قديماً للقيتَ من الألاقى ما لقيت مما لا يكاد ينهض به إلا الأفراد أوتوا من الشوق ما يجلدهم على معاناة البحث والتنقيب والارتياض بتذليل كل صعب عسير. ومن ثم استخلصت لك من نادرة الأسفار، ومغرِّبة الأخبار، باقة جمعت مختلف الأزهار، وسفطاً يحتوي شتى الأثمار، وحاكياً يسمعك احسنَ النغم، وناجوداً تحتسى منه شراباً لا إثم فيه ولا لمم.

أوّه لقد شط القلم، وسجعت ثم سجعت، وتلك التي تستك منها المسامع. . . ومن عذيري من الفتح بن خاقان إذا هو أعداني بسجعه، وتأثر طبعي بطبعه، وان لم يدرك الظالع شأو الضليع؟ ولكن لا تُرَع فسوف أتجنب السجع ما أمكنني تجنبه، وكذلك لا تتوقع ما دمت بصدد هذا الفتح أن ستسمع سجعاً أندلسياً كثيرا قد يضجرك ويسلمك إلى السأم والملال. فسوف أشعشع كل أولئك بما يلطفه ويسيغه أن شاء الله. . .

وإذا كنت اقدم بين يدي كلماتي قصة الفتح بن خاقان فليس ذلك عن قصد قاصد، ولعل الذي وجّه الذهن إليه الآن هو ما أخذته عيني أخيراً في بعض التواليف الحديثة الموضوعة في بلاغة العرب في الأندلس لبعض أصدقائنا من أساتيذ الجامعة إذ يقول: انه لم يترجم للفتح بن خاقان غير ابن خلكان، وإن المقَّري لم يترجم له في نفح واحد. . . واليك بعد ذلك قصة هذا الأديب الأندلسي:

الفتح بن خاقان

ظهر أبو نصر الفتح بن محمد بن محمد بن عبيد الله بن خاقان عبد الله القبيسي الإشبيلي في عصر هو من خير العصور ومن شر العصور في وقت معا: كان عصراً ذهبياً من ناحية الثقافة، إذ كان عصرا يفقه بكل أنواع المعارف، من علم وأدب وفلسفة، وكان في الوقت ذاته عصر اضطراب سياسي مزعج. . وبَينا الأندلسيون زمَن ملوك الطوائف متمتعون بحرية لاحد لها، يتبجحون فيها ما شاء لهم التبجح، ويلاقي مُثَقَّفُوهم من ملوكهم أقصى غايات الأريحية والإكرام يعيشون في إذرائهم عيشاً تلين لهم مثانيه ومعاطفه، وتدنو عليهم مجانيه ومقاطفه، إذ أنملوكهم كانوا كذل أدباء أفاضل، وعلماء أماثل، أثرت فيهم الحضارة لأندلسية أثرها، فرققت من حواشيهم، وألانت من جوانبهم - بيْناهم كذلك، وجفون الخطوب عنهم نيام، إذ قلب لهم الدهر الخؤون ظهر المجن، وليس لهم جلد النِمر، فكلب عليهم الإسبانيون من الشمال، وطمع فيهم برابربَرٌ العُدوة - مراكش - من الجنوب، فغزاهم المرابطون الخشنون وأزالوا ملكهم، فاستحالت حال الأندلسيين ولا سيما في زمن علي بي يوسف بن تاشفين ذلك الملك الذي كان إلى أن يعد في الزهاد والمتبتلين اقرب منه إلى أن يعد في الملوك والمتغلبين كما يقول المراكشي صاحب المغرب، ويقول عنه أيضاً: واشتد إيثاره - أي إيثار علي بن يوسف بن تاسفين ملك مراكش والأندلس - لأهل الفقه والدين فكان لا يقطع أمراً في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، وكان إذا ولي أحداً من قضاتِه كان فيما يعهد إليه إلا يقطع أمراً ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغاً عظيماً لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس، ولم يزل الفقهاء على ذلك وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها موقوفة عليهم طول مدته، فمعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت لذلك أموالهم واتسعت مكاسبهم. وفي ذلك يقول ابن البنّي - شاعر أندلسي سنترجم له: -

أهل الرياء لبستمو ناموسكم ... كالذئب أدلج في الظلام العاتم

فملكتمو الدنيا بمذهب مالك ... وقسمتو الأموال بابن القاسم

وركبتمو شهب الدواب بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم

(ابن القاسم وأشهب واصبغ هم من أئمة مذهب الأمام مالك الذي كان المذهب الوحيد المعمول به في المغرب والأندلس إلى أن يقول: (ولم يكن يُقرَّبُ من أمير المسلمين ويحظى عنده إلا من عَلِمَ عِلْمَ الفروع أعني فروع مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب وعمل بمقتضاها ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسي النظر في كتاب الله وَحديث رسول الله (صلعم) فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء. ودانَ أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شئ من علوم الكلام - التوحيد - وقرّر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام وكراهة السلف له وهجرهم من ظهر عليه شئ منه، وانه بدعة في الدين وربما أدى أكثره إلى اختلال في العقائد، في أشباه لهذه الأقوال، حتى استحكم في نفسه بغض علم الكلام وأهله، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شئ منه، وتوعد من وجد عنده شئ من كتبه. ولما دخلت كتب أبي حامد الغزالي رحمه الله أمر أمير المسلمين بإحراقها، وتقدم بالوعيد الشديد حتى سفك الدم واستئصال المال إلى من وجد عنده شئ منها. وأشتد الأمر في ذلك؛ ثم قال: ولم يزل أمير المسلمين من أول إمارته يستدعي أعيان الكتاب من جزيرة الأندلس حتى اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك، كأبي القاسم بن الجد، وأبي بكر محمد المعروف بابن القَيْطُرْنه، وأبي عبد الله محمد بن أبي الخصال وأخيه أبي مروان، وأبي محمد عبد المجيد بن عبدون - صاحب القصيدة المشهورة التي يرثى بها بني الأفطس من ملوك الطوائف والتي مطلعها:

الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصوَر

(وسترى تراجم هؤلاء الأفاضل قريباً) في جماعة يكثر ذكرهم. إلى أن قال: ولم يزل أبو عبد الله بن أبي الخصال وأخوه أبو مروان كاتبين لأمير المسلمين إلى أن أخّرَ أمير المسلمين أبا مروان عن الكتابة لموجدة كانت منه عليه سببها انه أمره وأخاه أبا عبد الله أن يكتبا عنه إلى جند بلنسية حين تخاذلوا وتواكلوا حتى هزمهم ابن ردمير هزيمة قبيحة، فكتب أبو عبد الله رسالته المشهورة في ذلك وهي رسالة كاد أهل الأندلس قاطبة أن يحفظوها احسن فيها ما شاء، منعني من إيرادها ما فيها من الطول: وكتب أبو مروان رسالة في ذلك الغرض افحش فيها على المرابطين واغلظ لهم في القول اكثر من الحاجة؛ فمن فصولها قوله: أي بني اللئيمة، وأعيار الهزيمة، آلام يزيفكم الناقد، ويردكم الفارس الواحد؛ فليت لكم بارتباط الخيول ضأناً لها حالب قاعد، لقد آن أن نوسعكم عقابا، وألا تَلُوثوا على وجه نقاباً، وان نعيدكم إلى صحرائكم، ونطهر الجزيرة من رحضائكم. . . في أمثال لهذا القول فاحنق ذلك أمير المسلمين وأخره عن كتابته وقال لأبي عبد الله أخيه: كنا في شك من بغض أبي مروان المرابطين والآن قد صح عندنا. فلما رأى ذلك أبو عبد الله استعفاه فأعفاه، ورجع إلى قرطبة بعد ما مات أخوه أبو مروان بمراكش وأقام هو بقرطبة، ثم قال: واختلت حال أمير المسلمين بعد الخمسمائة اختلالا شديدا فظهرت في بلاده مناكر كثيرة، وذلك لاستيلاء أكابر المرابطين على البلاد ودعواهم الاستبداد وانتهوا في ذلك إلى التصريح فصار كل منهم يصرح بأنه خير من علي أمير المسلمين وأحق بالأمر منه. . . وأمير المسلمين في ذلك كله يتزيد تغفله ويقوى ضعفه، وقنع باسم إمرة المسلمين وبما يرفع إليه من الخراج وعكف على العبادة والتبتل فكان يقوم الليل ويصوم النهار مشتهراً عنه ذلك وأهمل أمور الرعية غاية الإهمال فاختل لذلك عليه كثير من بلاد الأندلس.

نجم أبو نصر الفتح بن خاقان في هذا العصر الذي هو كما أسلفنا من خير العصور لأندلسية من ناحية الثقافة واكتظاظ الأندلس بالعلماء والأدباء والفلاسفة والشعراء، وفي الوقت ذاته هو من شر العصور إذ كان عصرا سياسيا سخيفا كما ترى.

ولد الفتح بن خاقان سنة 480هـ - 1087م، أي قبل أن يدال للمرابطين من ملوك الطوائف بسنتين. أما وفاته فقد اضطربت فيها كلمة المؤرخين فحكى ابن خلكان إنها كانت سنة خمس وثلاثين وخمسمائة - 1140م - وقال ابن الأبار القضاعي في معجم أصحاب الصدفي انه توفي ليلة عيد الفطر من سنة ثمان وعشرين وخمسمائة قال: وقرأت ذلك بخط من يوثق به، وقال الوزير الخطير لسان الدين بن الخطيب أن وفاته كانت ليلة الأحد لثمان بقين من محرم من عام 529 والفرق بين ما رواه ابن الأبار وبين ما رواه لسان الدين بن الخطيب هو قريب من أربعة اشهر كما ترى. على أن ابن خلكان حكى ما رواه لسان الدين بن الخطيب أيضاً. . . وقال لسان الدين بن الخطيب: وأبو نصر الفتح بن خاقان من قرية بعرف بقلعة الواد من قرى يحصِب. وبضم كلام لسان الدين هذا إلى قول الحجاري في المسهب في حق الفتح: طلع من الأفق الاشبيلي شمسا طبق الآفاق ضياؤها، وعمّ الشرق والغرب سناها وسناؤها - يبدو لنا ان قرى يحصب هذه من كورة اشبيلية، وقد تكون من كورة أخرى من كور الأندلس نزح منها الفتح إلى إشبيلية واتخذها مقاماً له؛ وقد يريدلسان الدين بن الخطيب أن اصل الفتح من هذه القرية، آما هو فقد ولد بإشبيلية بعد أن نهد إليها آباؤه الأقربون وأقاموا بها؛ وأياً كان مسقط رأسه فقد نشأ في أشبيلية وفيها كما يظهر اخذ الأدب - كما يحدثنا لسان الدين بن الخطيب - عن أبي بكر بن سليمان بن القصيرة - أحد مشهوري الكتاب وسترى ترجمته - وأبن اللبانة من كبار شعراء الأندلس، وابن محمد بن عبدون الشاعر الكاتب صاحب قصيدة: الدهر يفجع بعد العين بالأثر، وابن دريد الكاتب وأبي جعفر بن سعدون الكاتب، وأبي الحسن بن سراج، وأبي خالد بن تستغير، وأبي عبد الرحمن بن طاهر، وأبي عامر بن سرور وأبي الوليد بن حجاج. هكذا سرد مشيخته لسان الدين بن الخطيب.

نشأ الفتح بن خاقان نشأة أدبية كما ترى، ومن ثم غلب عليه الأدب حتى انصرف إليه فن كلما عداه ولم يؤثر عنه من المعارف سواه، قال ابن خاتمة: انه لم يعرف من المعارف بغير الكتابة، والشعر، والآداب. أقول: وقلما ترى أديباً أندلسياً إلا وله مشاركة في كثير من العلوم الدينية وغير الدينية. على أن قارئ الفتح بن خاقان يرى انه واسع الاطلاع إلى أقصى حد، وانه أديب كل الأديب وان معارفه العامة وثقافته الشاملة التي لا بد منها للأديب في تلك العصور متوافرة. واليك أقوال مترجميه: قال لسان الدين بن الخطيب: كان آية من آيات البلاغة لا يشق غباره ولا يدرك شأوه، عذب الألفاظ ناصعها، أصيل المعاني وثيقَها، لعوباً بأطراف الكلام، معجزا في باب الحلي والصفات. وقال في موضع آخر: وشعره وسط، وكتابته فائقة. وقال ابن سعيد في المغرب: فخر أدباء أشبيلية بل الأندلس ذكره الحِجَاري في المسهب، الدهر من رواة قلائده، وحملة فرائده. طلع من الأفق الاشبيلي شمسا طبق الآفاق ضياؤها، وعم الشرق والغرب سناها وسناؤها، وكان في الأدب ارفعالأعلام، وحسنة الأيام، إلى أن قال: وهو وأبو الحسن علي بن بسام الشنتمري مؤلف الذخيرة فارسا هذا الأوان، وكلاهما قس وسحبان، والتفضيل بينهما عسير، إلا أن ابن بسام أكثر تقييدا، وعلما مفيدا، وإطناباً في الأخبار، وإمتاعاً للأسماع والأبصار، والفتح أقدر على البلاغة من غير تكلف، وكلامه أكثر تعلقاً وتعشقاً بالأنفس، ولولا ما اتسم به مما عرف من أجله بابن خاقان لكان أحد كتاب الحضرة المرابطية بل مجليها المتولي على الرهان، وإنما أخلّ به ما ذكرناه مع كونه اشتهر بذم أولي الأحساب، والتمرين بالطعن على الأدباء والكتاب، وقد رماه الله بما رمى به إمام علماء الأندلس أبا بكر بن ماجه فوجد في فندق بحضرة مراكش قد ذبحه عبد اسود خلا معه بما اشتهر عنه بتركه مقتولاً. .

نرجئ القول على قتله ولماذا قتل ونمضي الكلام على منزلته الأدبية والمفاضلة بينه وبين معاصره وتوأمه أبي الحسن علي بن بسام صاحب الذخيرة.

(يتبع)

عبد الرحمن البرقوقي



مجلة الرسالة - العدد 125
25 - 11 - 1935

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى