د. منى النموري - حديقة سرية

طريق ترابى متعجرج وسط البيوت ملئ بالحفر يؤدى الى المقابر، التُرب كما يعرفها الناس فى يلدتى، فهى من التراب ويدفن بها الناس ويٌهال عليهم التراب ليتحولوا مع الوقت الى تراب. قديماً كانت هذه البقعة نائية وبعيدة عن البلدة، كبرت البلدة وزاحم الأحياء الأموات فى تٌربهم وإمتد العمران وحاصرت الحياة والناس والأطفال الأموات، لايحد لعب الأطفال حد ولا ضير من إمتداده عند الترب وقد يجد الطفل نفسه وهو يلعب محملا بالقرص على أرواح الأموات ويزيد الخير خيرين.
كان على أبى أن يسكنها حتى أزورها وأرى التربة الخضراء و إسم العائلة محفور فى وسطها باللون الأخضر الداكن. ليست تربة كبيرة، ولا فخمة، وليست بناءً تدخله بل هى أشبه بمكتب كبير أو مصطبة منخفضة تقف امامها ولا تعبر لأى إتجاه، وعليها الإسم بارزاً باللون الداكن والحر دائماً رفيقى حين أزور فأنا لا أزور شتاءً حيث المطر الذى يحول التراب الى طين فتنزلق قدمى ويتسخ حذائى، يعذبنى الشتاء بسؤال ماذا يفعل بالراقدين فى طينه؟ أبى وعمتى وجدى وجدتى ووجوه لا اعرفها ، كلهم فى الطين. "ده تراب فى تراب، الروح عند الله" وأزور صيفاً فتكون الحرارة والرطوبة ولزوجة العرق حتى مع الصباح الباكر، لايمكن الزيارة بعد العصر وإلا غضبت الأم او قلقت وهى بها ما بها، فالمكان مرتع لتجار المخدرات ومتعاطيها ومن يخدموهم.
إسم العائلة محفور على التربة من الخارج وأظل أتأمله وأنا أقف هناك وأفكرفى البوت المطلة على التٌرب فى الشتاء والصيف وكل المواسم ودوماً أخ لى يصطحبنى كحماية فى المكان الخطر فلا استطيع ان أقول ما إشتقت كثيراً ان أقول لأن كل الكلمات تصبح سخيفة فى الرطوبة وتحت شمس الصباح المبكر وكل هذا الضوء الكاشف رغم أنها بدت مهمة قبل أن تخرج من قلبى وتعبر صدرى لتقف على شفتى، وأظل أقول اننى سأقول ما أريد أن أقول داخل نفسى دون أن أقول لكننى لا افعل لأننى حين انظر الى التٌربة الخضراء وبجانبها تٌرب أخرى أقصر قليلا أو أطول قليلا وبألوان مختلفة اجدنى أرى مدينة قديمة من البيوت الملونة لإناس هم بالقطع من الأقزام وإلا ما سبب صغر حجم البيوت هكذا وقِصر طول الباب؟ لا أفكر وقتها بشئ سوى شجر الصبار المتناثر وكم سيكون مؤلما لو لمسته ورائحة التراب المسقى بالماء حولها وصوت الكلاب الضالة المستأنسة ورائحة العرق، العرق اللزج، نمسحه من فوق جباهنا ومن تحت أعيننا ونحن نرتدى الأسود فى قلب النهارالحار ولا نفكر أبداً ان هناك شتاء قادم وسيأتى المطر ويكون الطين ويرقد من نحب فى قلب الطين.
لكننى دوما ً، فى الشتاء والصيف، فى كل المواسم، أنزل سلم بيتنا طفلة فى السادسة مشدوهة بصوته الجميل فى صلاة الفجر وتتفتح ورود غامضة تتفتح تحت يدى البضة وانا أنزل حيث أستند ثم أجلس هناك على آخر درجة فى السلم وأنصت ، حين ينتهى يشعر بوجودى وينادينى ليجلسنى على سجادة الصلاة الحمراء الصغيرة. "إحكى لى حكاية سيدنا إبراهيم" ويحكى وانا انظر لوجهه الأسمر العميق. " يعنى لو ربنا قال لك إدبحنى حتسمع الكلام زى سيدنا إبراهيم ما سمع الكلام وكان حيدبح ابنه اسماعيل؟" يشد الشاب الأسمر نفساً عميقاً ويرد " النبى إبراهيم نبى قوى ،عظيم، عشان كده ربنا بيدى له أسئله صعبة فى الإمتحان. انا راجل غلبان. ربنا بيدى كل واحد أسئلة على قده. يا الله إطلعى نامى بقى يا قمر" أطلع بهدوء وأمرر يدى على أزهار الحائط لتنقفل وتعود كما كانت ، حديقة سرية.

د. منى النموري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى