علي حسن - بين طه حسين والسلفيين

عَلمنا "العميد" احترام العقل؛ كيف نفكر بطريقة علمية؟ كيف نُعمِل العقل فيما نقرأ، نختبر المعطيات لنرضى بالنتائج.
عاش "العميد" ومات على هذا المبدأ؛ انتقل من طور إلى طور فلم يفارقه؛ طه الغلام في الكُتابِ غير طه الشيخ في حلقات الأزهر، والمٌعمَّم في أروقة الأزهر غير المُطربش في السوربون، هو مختلف قبل "أبي العلاء" وبعده، قبل "في الشعر الجاهلي" وبعده، قبل "الأيام" وبعدها!
قبل تقلده "نظارة المعارف" وبعدها، مَن عرفناه في الملكية غير الذي عاش في الجمهورية، عميد كلية الآداب "جامعة فؤاد الأول" يختلف قبل هتافات طلاب الإخوان بسقوطه: "يسقط العميد الأعمى" وبعد هذا الهتاف، تغير وتجدد لكن مبادئه لم تتغير!
العميد نهر يافع فياض؛ متجدد، مندفع، متغير، يخاصم الطرق المعهودة الآمنة، ويسلك الوعر المهجور الموحش، فلا يخشى العَنت!
رغم خصوصية العلاقة بين العبد وربه، يسعى السلفيون بشتى الطرق إلى إلصاق الكفر بطه حسين، ولدينا في أدبيات الإخوان، مؤلفات تتهمه بالإلحاد واعتناقه المسيحية! وقدَمَ أحدهم قصيدة ركيكة "كنت أعبد الشيطان" زاعمًا أنها من نظمه!
لم يكفر طه حسين؛ ولم يعلن توبته؛ كان صادقًا ومتصالحًا مع ذاته، لا يجد في التفكير إثمًا، أو في أفكاره ما يستوجب التوبة. لكن الإخوان والسلفيين يصرون على تكفيره، والتأكيد على عمالته للغرب، بدا ذلك واضحًا في معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام وتزامنه مع الذكرى الخمسين لرحيله.
تحت عنوان "تجديد ذكرى طه حسين" قدمت الهيئة العامة لقصور الثقافة، عشرين عنوانًا للعميد، ليطلع الشباب على تراثه الفذ، ويستعيد الكبار فكره ومنهجه.
كنت حريصًا على زيارة جناح الهيئة العامة لقصور الثقافة يوميًا، وشاهدت هجوم السلفيين على مؤلفات طه حسين، كان هجومًا شرسًا وعجيبًا وكاسحًا، حملوا منها أعدادًا ضخمة!
قبل انتهاء المعرض بيوم واحد، صار الركن المخصص للعميد فارغًا، مع زحام أمام موظف التحصيل، وعلى رأس الطابور مُلتحٍ يحمل من كل عنوانٍ ثلاث نسخ! كانت هذه وسيلتهم مع مؤلفات العميد منذ بداية المعرض، لكن تهافت الشباب أيضًا على هذه المؤلفات أثار الإعجاب والتفاؤل!
قلت للرجل بصوت سمعه مَن في القاعة:
"هذا لا يحدث إلا مع طه حسين! لماذا السلفيون مهتمون به إلى هذه الدرجة؟
لاحظ الجميع ارتباك الرجل وصمته!
قلت: "لن ينجح السلفيون أبدًا في القضاء على أدب وفكر طه حسين، وسيقرأ شباب مصر كتبه ويتعلم منها.
نظر الشباب بدهشة، ورفعوا مؤلفات العميد وهم في الطابور، وقال أحدهم:
"ولا يهملك.. كلنا معانا طه حسين!"
يجب ألا يسطو السلفيون على تلك الكتب التي دفع المصريون ثمنها، كي لا يصبح مصيرها الإتلاف والحرق، أو حجبها بعد إخراج مؤلفات شيوخهم إلى الأسواق بديلًا عنها، كما يجب تقديم بطاقة الرقم القومي عند شراء نسخة واحدة منها.
ضمن فعاليات المعرض، أُقِيمت ندوة بعنوان "طه حسين وقضايا الهوية" حضرها الكثير، وفي نهايتها مَنح مدير الندوة للحضور فرصة التعليق والأسئلة، فقال أحدهم:
(لقد تبرأ طه حسين مما كتب، وعاد للإيمان بعد كُفر بَيِّن، وتقرب إلى الله بكتاباته الإسلامية. لقد تبرأ من كتابيه "الشعر الجاهلي" و "مستقبل الثقافة" وطالب بهوية "إسلامية" لمصر فلماذا تُصرون على الاحتفاء بكتابه مستقبل الثقافة في مصر؟ إن طه أخطأ ورجع عن خطئه، وعليكم إبلاغ الشباب بأنه عاد إلى إيمانه، وندم على ما كتب).
كان رد المنصة صادمًا، لا يليق بهم أو بعميد الأدب، ربما لانتهاء وقت الندوة!
لكن هذه هي عقلية السلفيين تجاه فكر طه حسين وكتبه، إنهم يملكون أموالًا طائلة، ومصر هدفهم، ودرة تاجها يتعرض لحرب شرسة، لكن مدنية الدولة لن تزول، وسوف نتخلص من ظلام الوهابية كما تخلصت وتحررت منه الدولة التي رعتهُ.
على مؤسسات مصر الاحتفاء بخمسينية طه حسين بما يليق بمنجزه الفكري والأدبي، ونستكمل ما بدأته هيئة قصور الثقافة،
ليصبح عام ٢٠٢٣ هو عام "طه حسين" بلا منازع.

علي حسن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى