المقاهي جاسم العايف - مقهى (الدَّكة) في البصرة:..فضاء ثقافي..وزمن سبعيني(6/6)

(1)

أخي الفنان هاشم تايه: "كم أبلغك صمتاً وأجملك نطقاً"

"المكان: هو الذي كلما نبتعد عنه نظل دائماً نستعيده، ونسقط على الكثير من مظاهر الحياة المادية، ذلك الإحساس بالمتعة والحماية والأمن، التي يوفرها لنا". غالب هلسا


يقع مقهى (الدَّكة) في البصرة لصاحبه" أبو مُضَر" قبالة نهر العشار في قلب مدينة البصرة..لا يفصله عن النهر إلاّ شارع ضيّق ما أن تعبره حتى تكون على رصيف ينتهي (بدكّة) إسمنتيّة تحوّلت في السنوات التي ازدهر خلالها المقهى إلى مصطبة طويلة يتراصّ عليها يومياً عشرات المثقفين والأدباء والفنانين ما أن يحلّ المساء. أول مَنْ ارتاد ،مستوطناً، "المقهى " ، المُولع بالسينما والمتخصص فيها بعد ذلك ، كاظم الصبر، بحكم البطالة وقرابته مع صاحِبها ، وأبو سرحان وأنا، بسبب البطالة الدائمة أيضاً،ثم لحقنا مصطفى عبد الله ، لضجره من دراسة علوم الإحياء بجامعة البصرة. وعندها بدأ الرواد على شاكلتنا واهتماماتنا الأدبية والثقافية والفنية يزدادون يومياً،حدث ذلك منتصف عام 1968. كان"مقهى أبو مُضَر" الضئيل حجماً، الخطير صيتاً أقرب إلى (ملتقى) ثقافي للحوار في شؤون الأدب والفن والسياسة بين مثقفين متنوعي المشارب والاهتمامات فيه يلتقون،بعد جولة لا بد منها ، صباحاً أو مساءً، في مكتبات المدينة ومنها:( الجميع ) لصاحبها (الياس حنا). تقع مكتبة (الجميع) قريباً من نهاية سوق المغايز، وبعد وفاة (الياس)، رحمه الله ، حلّت السيدة زوجته ، وهي بملابس الحداد، محلّه في إدارتها ،لكنها تخلت عنها بعد اقل من سنة على رحيل زوجها. فتحولت(المكتبة) إلى أكثر من محل لبيع الملابس، والأحذية، والكماليات النسائية،ورحلت كتبها الثمينة ومجلاتها النادرة -الخمسينية والستينية- إلى مصير مجهول. بعد عبور سوق حنا الشيخ الجديد ،نحو شارع الوطني، وفي بدايته تقع مكتبة (المثنى) ويديرها الراحل(حميد الساعدي - أبو نزار)، ويساعده في ذلك الصديق (سلمان نجم - أبو كفاح) وهي فرع لمكتبة(المثنى) الأم في بغداد، وتقع بالضبط مقابل سينما الوطني، التي هدمت الآن. توارت مكتبة (المثنى) ، ليحتل مكانها ،(زبلوق..للأحذية النسائية والحقائب الأنثوية المستوردة)، ولم يعد لكتبها الأثيرة والكثيرة تلك ، أي اثر إلا في الذاكرة. غير بعيد عن (المثنى) وفي منتصف شارع الوطني تماماً ، مكتبة (فرجو) ، التي اختفت معالمها كذلك ، وبات مكانها محلات لبيع الساعات ، ووجبات الطعام الخفيفة ، والنقالات،حالياً، والمستلزمات الرياضية . بعد منتصف شارع الوطني، ثمة مكتبة" ودود عبد الغني" و كُنيتها (دار الكتاب) ، وفي الغالب ، نتعامل مع صاحبها(ودود عبد الغني)، عند شرائنا ما نحتاجه من مجلات وكتب حديثة الإصدار بالآجل ، الآن لا مكان لرفوف كتب (ودود)، ولعل بعضنا ما زال في ذمته دراهم معدودة لـ(ودود) الودود حقاً وفعلاً ، الذي هاجر ، واختفت (دار الكتاب) ، مع هجرته، وتحولت إلى أسواق حديثة ، محشوة رفوفها الكثيرة بما يمضغه الفكان الشرهان وتبتلعه (البطون) المرفهة فقط. ربما لا نقتني الكتب والمجلات خلال جولتنا اليومية تلك، من كل تلك المكتبات، بل نشم روائحها العذبة والعبقة فقط ، لنتمتع بالسكينة والاطمئنان والصفاء الروحي. وثمة مكتبات أخر بعضها في مدخل سوق( الهنود) ومنتصفه ، لكن أشهرها تلك التي ذكرتها. كل المصائر المحزنة لتلك المكتبات حدثت عند نهاية عقد السبعينيات أو بعده ، وأجهز على ما تبقى منها، زمن الحروب المتعاقبة والخاسرة ، والحصار الذي فتك بالعراقيين وأزاح قيمهم الإنسانية وثراءهم الروحي، المعروف تاريخياً، بطرائق،ووسائل،وسلوكيات،لا يمكن تصورها إلا لمن عاشها. وقسم من رواد مقهى (الدكَّة) قبل أن يغادروا منطقة (البصرة القديمة ) تجاه المقهى، يتوجهون نحو العم الحاج (فيصل حمود- أبو غازي) ، و(مكتبته الأهلية ) التي أسسها عام 1928. وأصر النظام البائد، خلال حملته، لـ(تبعيث)المجتمع العراقي- بالإكراه،والبطش،والقسوة، في حدودها القصوى،على أن تنزع جلدها القديم وتتنكر لاسمها(الأهلي) المعروف ، منذ أكثر من ثمانية عقود ، وتتحول إلى(مكتبة الفكر العربي)!!. غير أن صاحبها الحاج "فيصل حمود" وولده" غازي" ، أضافا في الإعلان عن اسمها الجديد ، المفروض عليها ، وأسفله بالضبط ،(المكتبة الأهلية سابقاً/ تأسست 1928م)، إشارة واضحة المعاني والدلالات، عن تمسكهما باسمها القديم.استعادت (الأهلية) اسمها الأثير، بعد سقوط النظام مباشرة ، ملقية بتسمية (الفكر العربي) ، نحو الماضي وجراحاته الشاخصة ، العصية على الالتئام. والمكتبة (الأهلية) هي الباقي الوحيد من زمن لن يستعاد قطعاً. ويعمل ورثة الحاج(فيصل حمود) ، خاصة ولده الأستاذ (غازي)،على بقائها شاخصة ، تواجه المستجدات والتقلبات، وعواصف وزوابع العراق الحالي، ببسالة وإصرار وتمكن. بعد هذه الجولة المعتادة ،لابد من العودة إلى (مقهى أبو مضر ودكَّتها الإسمنتية) ، ومنهما ننطلق لاستكمال الحوار في دورة الليل، يوم كان لمدينة البصرة ليل للفرح والمتعة والبهجة. وجد مثقفو البصرة في (مقهى أبو مُضَر)، الذي حصل على لقب (مقهى الدّكة) بسبب (دكّته) الشهيرة، ما يعوضهم عن غياب مبنى خاص بفرع اتحاد الأدباء في مدينتهم، هذا الفرع الذي تجاهل المعنيون الرسميّون بالشأن الثقافي آنذاك ضرورة افتتاحه ، في ظلّ ضآلة عدد الموالين لهم بين أوساط أدباء ومثقفي المدينة. مرّ وجلس في هذا المقهى ،على صغر حجمه، عشرات الأدباء والكتاب والصحافيين والمثقفين العراقيين،وبعض العرب. لا تسعفني الذاكرة على تذكرهم جميعاً،لكني اذكر منهم : أ.د.شجاع العاني،بحكم عمله أستاذاً في جامعة البصرة، والقاص عبد الستار ناصر، والشاعر عبد الرحمن طهمازي خلال سني عمله مدرساً في البصرة، والناقد الحلي الشاب ،المعدوم شنقا حتى الموت ، قاسم محمد حمزة، والشاعر الشعبي الراحل عزيز السماوي وشاكر أيضاً، والراحل الشاعر صاحب الشاهر، والناقد والصحفي محمد الجزائري ، والكاتب والصحفي جياد تركي ، عند زياراتهما المتكررة لمدينتهما ، والشاعر عواد ناصر، والباحث د. فالح الحمراني، والصحفي سلام مسافر،والكاتب حسين عجه، والقاص إبراهيم احمد، ومعه القاص فاضل الربيعي، عندما كانا يعملان في جريدة(طريق الشعب)، وحتى الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، الذي صحبه إليها أحد الأدباء البصريين ، المغتربين حالياً، ولم يقدمه لنا، أو يعرفه بنا، فتجاهلناه تماماً.والفنان كوكب حمزة،معلم الموسيقى في مدارس البصرة ، والقادم إليها من ناحية القاسم في الحلة، دائم الجلوس عصراً على (دَّكَّتها) ، ومرةً احتسى الشاي فيها ، بصحبة القاص محمد خضير والتشكيلي شاكر حمد وأنا، في وقت متأخر من الليل، الفنان التشكيلي والكاتب والصحفي الراحل-لأسباب مازالت غامضة حتى الآن- إبراهيم زاير، والقاص والروائي جمعة اللامي ، عند زيارتهما الخاطفة للبصرة . كما تردد عليها الصحفي والناقد التشكيلي إسماعيل زاير ،خلال خدمته العسكرية في القاعدة الجوية بـ(الشعيبة) ، والقاص ،والروائي بعد ذلك، صديقنا، نجم والي ، عند خدمته العسكرية الإجبارية ، بصفة مترجم مع الخبراء الألمان (الشرقيين) في القوة البحرية العراقية. وتردد عليها أيضاً الفنان التشكيلي محمود حمد ، والمخرج المسرحي فاضل سوداني ، والمخرج المسرحي فاضل خليل ، عند عمله مدرساً للفنون في البصرة ، الذي نُقل سريعاً جداً إلى بغداد،وقد قادهم إليها شاكر حمد. كما كان يتردد عليها الناقد ياسين النصير بعد انتقاله إلى بغداد وزياراته الموسمية لمدينته، ويلتقينا فيها ،أحياناً، الشاعر.د حسن البياتي الأستاذ في جامعة البصرة، وزاملنا فيها لفترة محدودة الشاعر والناقد صفاء صنكور أبان عمله في البصرة. مؤخراً ذكر ليّ الشاعر طالب عبد العزيز انه ، والشعراء : عبد الزهرة زكي ، وجمال جمعة ، وجمال مصطفى ، وحيدر الكعبي ، كانوا يترددون على المقهى،لكنهم أحجموا عن التعرف علينا. دون أن يوضح (طالب) الأسباب التي كانت خلف ذلك الإحجام !؟.ومن الأدباء العرب الروائي إسماعيل فهد إسماعيل الذي تكفل مع الناقد محمد الجزائري ، بناء على دعوتنا في صباح احد أيام مربد عام 1972 باستضافة الشعراء محمود درويش وأحمد عبد المعطي حجازي ومعين بسيسو وممدوح عدوان و فايز خضور وعلي الجندي والشاعرة المغربية مليكة العاصمي وعدد آخر من الأدباء العرب ،غير قادر الآن على تذكرهم جميعاً ، لتناول الشاي والانتظار فيها صباحاً لغرض استصحابهم في سفرة نهرية عبر شط العرب، ثم نحو بساتين قضاء(أبو الخصيب) العامرة في تلك الأيام ، وتناول طعام الغداء الذي أعددناه لهم هناك، والاستمتاع بأغاني فرق (الخشابة) البصرية. عند وصولنا إلى مرسى الزوارق بالقرب من تمثال الشاعر (بدر شاكر السياب) للذهاب إلى (أبي الخصيب) صعد الجميع إلى الزورق البخاري الكبير، باستثناء الشاعر محمود درويش الذي رفض ذلك نهائياً ، و تراجع وحيداً ومسرعاً، نحو مركز المدينة، دون أن يوضح الأسباب التي حدت به لذلك التصرف، مع انه رحب جداً بالدعوة ، كما ذكر لنا ذلك الروائي إسماعيل فهد. كما تردد عليها الشاعر الفلسطيني محمد الأسعد،وشقيقه الشاعر صبحي الأسعد،والكاتب والصحفي الكويتي غازي القناعي، خلال زياراتهم المتكررة للبصرة،بصحبة بعض الأدباء والفنانين والصحفيين الكويتيين والعرب، ممن يعملون في الكويت، وغالباً ما يحدث ذلك مساء يوم الخميس. كما قُدنا إليها ،ظُهراً،القاص والروائي إبراهيم أصلان،والشاعر الفلسطيني محمد القيسي ،عند حضورهما مهرجان مربد عام1972. وصادف أن جلس فيها قبل الظهر،لاحتساء الشاي، برفقة بعض العاملين في دائرة "دور الثقافة الجماهيرية في البصرة" ، القاص والصحفي والروائي المصري جمال الغيطاني ، وهو يسعى لإكمال كتابه(حراس البوابة الشرقية)على وفق العقد الذي وقعه مع جهات حكومية، دون أن نعيره انتباهاً ،كون أن مَنْ يرافقه من الموظفين الرسميين والعاملين في تلك الدائرة، لم يكلفوا أنفسهم تقديمه إلينا،مع معرفتهم بنا ، بسبب حضورنا كل يوم ثلاثاء عصراً في حدائق دائرتهم، والتي عادةً ما تُعقد فيها جلسة ثقافية، نُسهم فيها، أو نَشترك ، في حواراتها.


********

(2)

-1-
(مقهى الدَّكة) ، يشبه حجماً ما يسمى في بغداد بـ(مقهى المعقدين) ، لكن هذا يقع في زقاق فرعي عند مدخل شارع السعدون، وعبر تقاطع يقود نحو شارع (أبو نواس). بينما يواجه الأول الشارع الرئيس الممتد من (الداكير) وجامع المقام ، تجاه بداية شارع الكويت، نحو البصرة القديمة والى قضاء الزبير.. أمسى مقهى (أبو مُضَر ودكَّته) مكاناً، يلتقي فيه اغلب أدباء البصرة ومثقفيها وفنانيها، وبعض سياسييها، خاصة المنشقين عن أحزابهم ، وتختلط فيه حوارات، في الأدب والفن والثقافة عامة والسياسة ، التي كانت تحتدّ أحياناً، بثرثرات الزبائن العاديين. يقع المقهى في (العشار)عند نهاية سوق (المغايز) المشهور، مقابل الجسر المعروف بجسر المغايز. لا وجود الآن للمقهى إلا في ذاكرة الأدباء السبعينيين البصريين. والذين غادروا البصرة منهم إلى خارج العراق ، هرباً بطرق ووسائل شتى، من فكي الذئب السلطوي وحزبه الشره، وعادوا إليها بعد سقوطه المهين، كانوا يأملون أن يجدوا أثراً لمقهاهم الأثير لكن خاب أملهم جميعاً فقد تمّ هدمه، في الثمانينيات، بعد أن جرت توسعة الشارع الذي يقع عليه. وانقلب فضاء المقهى الثقافي- الأدبي إلى دكان متجهّم لبيع(البالات) وبعض الدكاكين التي تعرض بضائع عدة مستوردة ، و تحيطه تلال الازبال والنفايات، ويتلقى من النهر الذي ما عاد نهراً روائح عفنة. بسبب البطالة، وعسر الحالة المادية ، كان بعضنا يستدين ، من صاحبها المهذب والحييّ جداً(أبو مُضَر)، دراهم قليلة لشراء سندويجة لاذعة من الفلافل أو السمبوسة من دكان (أبو عباس) الذي يقع في الجهة المقابلة للمقهى عبر النهر.أو لنحصل على تذكرة الدخول للسينما في الدور الثاني الذي يبدأ عادة بعد الساعة العاشرة ليلاً، حينما كان للبصرة مسراتٍ و ليالٍ. وعندما يَصرّ (أبو مُضَر) على تسوية حسابنا معه ، بعد إلحاح متواصل منه ، نقلب اسمه، بمزاح معه، إلى (أبو مُضِر)!. شهد (المقهى) , الذي كان مكاناً مشخصاً، من قبل أجهزة أمن السلطة البعثية الفتاكة المتعددة، لتجمع أغلب الأدباء والمثقفين المناصرين أو المنتمين إلى"الحزب الشيوعي العراقي " حينها أو سابقاً، صراعاً مريراً و اتهامات رخيصة ، من قبل مَنْ كان مؤمناً بتوجهات تمتين علاقات "الحزب الشيوعي " ، الآخذة بالتطور، دون أسس اجتماعية ملموسة ، بحزب السلطة وقادته القتلة المعروفين المُجرَبين. ومَنْ كان يرفض بعلنية علاقة (الشيوعيين) الجديدة والانجرار خلف( الحوار) الذي سيؤدي إلى تحالف (مهين) ،حسب وصفهم، دون تسوية قانونية وإجرائية واضحة ، لجراحات الماضي ومآسيه ، خاصة إثرَ عاصفة 8 شباط الدموية1963 إذ خضع مئات الآلاف من العراقيين رجالاً ونساءً وحتى الأطفال ، لـ(هولوكست) الحرس القومي ، ومن نجا من ذلك الليل الدموي أعطبت روحه ، وبهذا أزيح آلاف الرجال والنساء من ساحة العمل الاجتماعي- الديمقراطي. المعارضون ، بوضوح وحدة، كانوا يشمئزون ويستنكرون الحوار مع قتلة الأمس القريب، لأنهم يعتقدون أن مجرد (الحوار) هو محاولة لتبييض صفحات سوداء دموية ومريبة، عانى منها الشعب العراقي عامة ، والحزب الشيوعي بالذات. وكانوا جميعاً ، بهذا الشكل أو ذلك ، من المنتمين أو المؤيدين لتوجهات وأطروحات "القيادة المركزية" ، التي تم القضاء عليها تنظيمياً بضراوة وقسوة (بعثية) معروفة ومجربة ، ووجدت جثث بعضهم مشوهة وطافية في مياه " شط العرب" أو ملقاة في ترع و بساتين "القرنة وأبو الخصيب". وكنا في المقهى ذاته نطلع دائماً على كل المنشورات السرية للطرفين. بعض رواد المقهى، من الأدباء المنتمين للحزب الشيوعي ، أو المناصرين لسياسته تلك، كانوا يحاولون إيجاد التبريرات لتلك الحوارات ولتلك العلاقة الهشة والتي لم يسمح لها حزب السلطة، نهائياً، أن تمتد للقاعدة الاجتماعية ، و يمكن الاطلاع على موقف المناصرين للتحالف والضغوط الدولية ، بالاشتراك مع بعض القوى العربية التقدمية و التي ضغطت عليهم في هذا الشأن ، على ما كتبه بصراحة بعض قادة(اللجنة المركزية) للحزب الشيوعي العراقي في مذكراتهم ، خاصة بعد أن استوطنوا المنافي وبات بعضهم، مستقلاً وخارج الحزب، ويلخص الكثير منها الأستاذ ماجد زيدان الربيعي في القسم الثاني من بحثه المنشور في مجلة الثقافة الجديدة ص 31 العدد 349 والمعنون "موقف الحزب الشيوعي العراقي من الجبهة الوطنية والقومية التقدمية". بعد اشتداد حملة القمع السلطوي بشراسة مع نهاية عام 1978 استطاع بعض رواد المقهى، من الأدباء والكتاب البصريين، النجاة بجلودهم من آلة القتل أو التسقيط الإنساني والسياسي، من خلال مغادرتهم المدينة أولاً، وثم العراق كله ، بوسائل متعددة ، أغلبها شخصي ، حفاظاً على كرامتهم الشخصية قبل كل شيء ، وعبر مغامرات وضعت مصائرهم الفردية بين ((جفن الردى)) وهم أولى بالحديث عنها، ومَن لم يستطيعوا ذلك ،لأسباب شتى، تلقفتهم سراديب التعذيب الوحشية والمعتقلات المهينة ، واختفى بعضهم بلا آثام أو معاصٍ ودون معرفة أي شيء عنهم ، إلا من خلال بعض الوثائق الرسمية المهملة ، التي تم العثور عليها، بعد سقوط النظام في المراكز الأمنية والمخابراتية والحزبية ، تكشف عن مصائرهم المأساوية المحزنة و المجحفة التي انتهوا إليها دون خطايا أو ذنوب ما ، ولم يعثر على جثثهم، أو أي أثر لهم نهائياً. وسأتجاوز-عامداً- تفاصيل مؤلمة ومهينة ومخجلة ومؤسفة ومحزنة ، حدثت بين الطرفين- المؤيد والمعارض- في المقهى خلال هذه الفترة الملتبسة.
-2-
أعود لـ"مقهى الدَّكَّة" الذي فيه استمعنا،عبر المذياع،صباح جمعة ما، وفي الشهر الثالث من عام 1971 عن فوز القاص"محمد سعدون السباهي" بالجائزة الأولى للقصة القصيرة ، عن قصته المعنونة (الوصية) التي كانت تجريها سنوياً "إذاعة صوت الجماهير" ، ومبلغها المغري، إذ كان (150 ديناراً) والدينار العراقي الواحد،حينها، يعادل (3) دولارات و(18) سنتاً. إضافةً لما تحققه من شهرة ونشر في وسائل الإعلام الرسمية على مستوى العراق ، للفائز بإحدى جوائز الشعر والقصة وغيرهما. وعبر مذياعها ، في عام آخر، سمعنا فوز قاص بصري يدعى(رياض عبد العزيز) بالجائزة الأولى في القصة القصيرة ، كان(رياض)هذا مجهولاً لنا تماماً!؟. لا أحد من الجالسين،في المقهى حينها، خاصة من قصاصي البصرة، وبعضهم كان يمني نفسه بالفوز بإحدى جوائزها، أو كتابها وأدبائها ، قرأ له ، أو يعرفه ، أو حتى سمع به ، ولم يسبق له أن مرَّ بالمقهى إطلاقاً، أو نشر شيئاً قبل فوزه الغريب هذا !؟. أحدث ذلك الاسم وفوزه، بالجائزة الأولى ، لغطاً وتساؤلات عدة، وحيرة !؟. عندها بدد كل ذلك القاص"الياس الماس محمد"، معلناً معرفته به !؟. وبعد تساؤلات متواصلة موجهة إليه ، وبإلحاح من الحاضرين جميعاً. قال (الياس):" هو أصلاً لم يكتب حتى خاطرة ما ، أو يقرأ قصة واحدة طوال حياته " !؟. وأضاف :" انه بَحّار، يعمل في شركة(الرافدين) العراقية – السوفيتية لصيد الأسماك..وهو الآن في أعالي الخليج العربي أو المحيط الهندي .. يصطاد السمك البحري.."!؟. ثم صمت !؟. وبعد إلحاحنا جميعاً عليه لتوضيح هذا الأمر. ذكر :" مَنْ كتب القصة وأرسلها باسمه أنا، لأنه شقيق زوجتي، وكنت أخمن فوزها ، فعمل لي وكالة مصدقة من قبل كاتب العدل، يخولني فيها تسلم مبلغ الجائزة "!؟. وأبرز أمامنا الوكالة المصدقة رسمياً. ثم أضاف:"أردت الضحك والسخرية على منظمي ومحكمي الجائزة سراً، لأني أعلم بالخبرة ، إن الفوز في مجال القصة القصيرة، وفي مثل هذه المسابقة بالذات، ليس لدواعٍ فنية ، بل لأسباب لها علاقة بالتوجهات الفكرية الحزبية - السلطوية بالذات. إذ ثيمة القصة فلاح (مصري) يأتي مع عائلته ويسكن في مشروع زراعي، تم استصلاحه و يقع بمنطقة "الدواية" في الناصرية" !!. وأكمل(الياس): "هذا الموضوع ، ينسجم مع توجهات السلطة حالياً، وإذا أرسلتها باسمي ستُبعد حتماً "!؟. عند ذهاب (الياس) في الموعد المحدد لحضور حفل توزيع الجوائز ، في مبنى الإذاعة، منعه مديرها العام آنذاك الشاعر" ارشد توفيق" من الدخول ، فأبرز له (الياس) وكالته الرسمية عن (القاص الفائز بالجائزة الأولى). يقول (الياس): " امتقع وجه ارشد توفيق، الذي يعرفني جيداً قبل ذلك ، ويعرف توجهاتي الفكرية - السياسية ، وأصر على منعي حضور الحفل "!؟. ذهب "ارشد توفيق" للدائرة . ثم عادَ ومعه (صك) بمبلغ الجائزة سلمه إلى ( الياس) قائلاً:" لقد استغفلتنا ، فأنت مَنْ كتبَ القصة الفائزة "!؟. ولم تنشر القصة في وسائل الإعلام الرسمية نهائياً ، كذلك لم تنشر قصة" محمد سعدون السباهي" بعد معرفتهم بتوجهاته الفكرية والسياسية أيضاً.ولد في المقهى الكثير من الرؤى و المشاريع الثقافية الخاصة والعامة ومنها (12 قصة) ، وسأتطرق مستقبلاً لماذا عمد بعض قصاصي البصرة لذلك؟ ومن اشترك فيها؟. وما واجهه هذا المشروع من ترحيب وتحمس من قبل الوسط الثقافي والأدبي غير المعني بالمشهد السلطوي - ومؤسساته الثقافية وتوجهاتها الحزبية ، وكذلك الموقف الرسمي من مشروع ما بات يعرف ثقافياً بجماعة(12 قصة) بعد صدور حلقتها الأولى ، والتي صميم غلافها الفنان الصديق العزيز الراحل في الغربة" أياد صادق" .



****

(3)

-1-
مشروع (12 قصة)، كان الدافع لها هو شعور أغلب كتاب القصة في البصرة بتهميشهم من قبل وسائل النشر الرسمية السلطوية بتعمدٍ، إضافة لانعدام وسائل النشر المستقلة في العراق ، وعدم إمكانية جريدة الفكر الجديد ومجلة الثقافة الجديدة، لم تكن جريدة " طريق الشعب " قد صدرت، تلبية نشر كل ما يرغبون ، لأسباب عدة ، ليست فنية ،غالباً ، بل أيدلوجية أساساً، وقد كان خلف الفكرة أولاً القاص مجيد جاسم العلي والقاص ودود حميد وأشترك معهما وبحماس بعد ذلك القاص عبد الجليل المياح ، ثم وقفنا جميعاً معهم. ومن الذين ساندوهم في بغداد ، وكما اخبرني بذلك القاص مجيد جاسم العلي: انه حمل معه رسالة من القاص ودود حميد إلى الناقد محمد الجزائري، لمعرفة وطيدة بينهما، لتسهيل الأمر لكنه لم يجده ، فزار الأستاذ محمد سعيد الصكار، بحكم معرفته به ، والذي كان يعمل في مجلة "ألف باء" وطرح عليه الموضوع ، وبالنظر لعلاقات الأستاذ الصكار ومكانته المرموقة، من خلال عمله الفني والصحفي في بغداد فأنه حمل من الأستاذ الصكار رسالة إلى أحد مسؤلي هيئة رقابة المطبوعات الذي استجاب لرسالة الأستاذ الصكار و سهل موافقة هيئة الرقابة على مخطوطات ومشروع( 12) قصة سريعاً. وقد تم طبعها على نفقة المساهمين فيهما ودفع كلٍ منهم مبلغاً قدره خمسة دنانير لقاء ذلك. اشترك في الحلقة الأولى كل من القصاصين: احمد أمين/أبو عاطف والمغترب حالياً/ وريسان جاسم عبد الكريم وطاهر ظاهر حبيب وعبد الصمد حسن وعبد الحسين العامر وعبد الجليل المياح/ المعدوم شنقاً حتى الموت/ وقاسم إسماعيل الصالح وكاظم الصبر/ المقيم في المغرب الآن/ ومحمد خضير- وللأمانة كان الأستاذ محمد خضير ، لموهبته القصصية المعروفة ،لا يعاني أي حصار في النشر أين ما يشاء وحسب ما يرغب محلياً وعربياً ، لكنه بحسه الإنساني العالي وتهذيبه الفائق، وتضامنه مع قصاصي المدينة ، وقف مسانداً ومرحبا بهذا المشروع- ومحمد سعدون السباهي ومجيد جاسم العلي و ودود حميد ، وقد صدرت بعد منتصف عام 1971، ورتب تسلسل القصص حسب الأحرف الأبجدية للمشتركين. تم مواجهة الحلقة الأولى في البصرة من قبل أدباء السلطة بريبة شديدةٍ ، وهجوم علني وذم وقدحٍ لا مثيل لهما، في كل مكان ، وخاصة في برنامج كان يبث حينها أسبوعياً عبر تلفزيون البصرة تحت عنوان (المنبر الحر)، يعده و يقدمه احد الإعلاميين البعثيين وممن يحسب نفسه ، بصلف نادرٍ ،على كتاب القصة وهو لم ينشر طوال حياته غير قصة واحدة فقط ، يتيمة حتى الآن. لكن الأستاذ الراحل القاص يوسف يعقوب حداد عندما استضيف في الحلقة التي أعقبت ذلك الهجوم تصدى بدبلوماسيته وأدبه الجم وكياسته المعروفة ولغته المهذبة جداً وروحه المنفتحة وإخلاصه المعروف لخدمة الحركة الثقافية في المدينة ، لذلك الهجوم والقدح والذم ، خاصة وفي وسيلة إعلامية مرئية تدخل بيوت الناس، مؤكداً : أن على الجميع مساندة هذا المشروع والوقوف إلى جانبه لا مهاجمته وأصحابه، وموضحاً أن فيهم مواهب قصصية شابة سيكون لها شأن في عالم القصة العراقية، لكن محاوره أراد أن يحط من القيمة الفنية لبعض القصص فرد عليه الراحل حداد بوضوح تام بما يلي: هذا ليس من شأنك بل من شأن النقاد ولهم الحكم فنياً على القصص. وكتب كذلك عنها من قبل بعض كتاب المؤسسة الثقافية الرسمية في بغداد بقسوة متعمدة ، عندما نشروا مقالاتهم حولها ، في بعض الصحف والمجلات التي تصدرها السلطة، كانت مهينة جداً حتى في عناوينها،ناهيك عن متنها، كما كتب عنها بموضوعية الناقد ياسين النصير، وتابعها من البصرة بدقة الناقد جميل الشبيبي بمقال مطول نشره في مجلة(الثقافة الجديدة). كان المخطط لـ(12 ) قصة أن يتواصل صدورها موسمياً في الغالب.
-2-
بعض المشتركين في الحلقة الأولى لـ(12 ) قصة وعند مناقشة إصدار الحلقة الثانية منها، في المقهى ، أراد أن يفرض عليها اتجاهاً فكرياً وفنياً معيناً ، وهو ليس إلا صدى للـ (الواقعية الاشتراكية) بنسختها (السوفيتية) وتصوراتها في قضايا الأدب والفن، وما تمثله من توجهات متزمتة، وتدخّلاتها الفجة في تفاصيل الرؤى المنفتحة - الخلاقة التي يتسم بها العمل الفني، ولست هنا معنياً بذكر الأسماء ، بقدر ما أسعى لتشخيص ذلك التيار الذي كان يقف خلفه، لأسباب ليست أدبية- ثقافية، بضراوة بعضهم. مما دفع عدد من المساهمين بحلقتها الأولى للانسحاب ، في مقدمتهم القاص محمد خضير ولحقه بعد ذلك عبد الصمد حسن و قاسم إسماعيل الصالح ، وللأمانة أن انسحاب عبد الصمد حسن لم يكن غير صدى لانسحاب القاص محمد خضير، وإذا كان القاص عبد الصمد حسن قد واصل المسير في عالم القصة القصيرة وصدرت له رواية ، عن دار الشؤون الثقافية - بغداد ،على وفق شروط معينة، لن أتطرق إليها، خلال مرحلة التسعينيات. فأن قاسم إسماعيل الصالح تبخر تماماً عن الوسط الأدبي والثقافي في المدينة ، ولحد اللحظة لم يُعرف عنه أنه قدم شيئاً ما مذ تلك القصة في الحلقة الأولى. وكذلك انسحب القاص محمد سعدون السباهي بسبب رفض نشر قصته (الوصية) بإجماع المشتركين فيها ، ومطالبته بقصة أخرى غيرها ، تحاشياً لأي إشكال قد يقع مع هيئة رقابة المطبوعات مما سيدفعها لعدم إجازة الحلقة الثانية. وقصة السباهي تلك ، كان أستاذنا الراحل الدكتور علي جواد الطاهر وفي عموده الأسبوعي بجريدة الجمهورية والمعنون( أفق) قد كتب بأنه ".. يندران يُكتبْ في العراق مثل قصة (الوصية) التي تمُثل الحلقة المفقودة في التطوّر القصصي العراقي.." وقد أعاد الراحل د. الطاهر نشر ذات الموضوع في كتابه( ما وراء الأفق) والصادر عن وزارة الثقافة العراقية. ورغم أن قصة ( السباهي) قد فازت بالجائزة الأولى لكن صحف ومجلات السلطة لم تنشرها ، مع أنها نَشرت النصوص الفائزة الأخرى. وقد نشرت قصة (السباهي) بعد ثلاث سنوات في (مجلة الفكر المعاصر) التي كانت تصدر في لبنان وتشرف عليها الروائية عالية ممدوح، و تم التحفظ على ذلك العدد من قبل هيئة رقابة المطبوعات، لكن بعضاً منه قد تسرب ألينا بطرق ووسائل شتى، كما نشرها ( السباهي) ضمن مجموعته القصصية الأولى " ضباب كأنه الشمس" / دار الشؤون الثقافية- بغداد 1994.اشترك في الحلقة الثانية من (12 ) قصة بدلاً عن المنسحبين: عبد الجبار الحلفي وشاكر السكري وسلمان كاصد والراحل خليل المياح وحسن موسى، فصدرت في نهاية الشهر التاسع عام 1972 بالاسم ذاته، أي (12 )قصة،مع أن المشتركين (13) قاصاً. كما نشرت كذلك على نفقة المشتركين فيها ،ورتب تسلسل القصص فيها بشكل معاكس لما جرى في الحلقة الأولى ، أي من نهاية تسلسل الحروف الأبجدية العربية صعوداً لبدايتها ، وقد صمم غلافها، كذلك، الفنان (إياد صادق). وفشلت محاولة احتواء (الجماعة) من أي جهة كانت، وبقي الموقف الثقافي- الرسمي متشدداً جداً تجاه ( الجماعة) حتى أننا اقترحنا على (دور الثقافة الجماهيرية) أن تخصها بجلسة يوم الثلاثاء الثقافية المعتادة، والتي تعقد عصراً على حدائقها، وليتحدث عنها كل مَنْ يستطع وبما يشاء، فجوبه مقترحنا بالرفض التام من قبل مديرها، المتزمت جداً ، الشاعر(م. ر. ج). جرت محاولات عدة لإصدار الحلقة الثالثة منها ، وحصلت محاورات في المقهى اشتركنا فيها معهم، وتقدمنا بمقترحات عدة لهم منها: أن يتم تقديم قصص ذات نوعية ومستوى فني متقدم ، وان تعرض كلها على بعض المثقفين البصريين و المهتمين بهذا الشأن وفي مقدمتهم الأستاذ "محمود عبد الوهاب والزملاء عبد الكريم كاصد والراحل مصطفى عبد الله وجميل الشبيبي" ويكون رأيهم باتاً في صلاحية أي قصة للنشر، واستغرقت تلك الحوارات زمناً مطولاً.. لكن ذلك لم يحصل على موافقة جماعية من قبلهم ، حتى تفرق شمل(الجماعة) لأسباب وظروف خاصة - عامة.

****

(4)

" تلك البهجة السرية ، والآمال المثيرة ، والمسرات، لم يتبقَ منها غير الأوجاع "/ المسرات والأوجاع/ فؤاد التكرلي.

كل عصر نلتقي في المقهى، ونستريح على(حصران)(دكَّتها) ،وجوهنا تقابل الشارع العام ، وشباب البصرة وشاباتها في منتهى التألق والانفتاح . فتيات البصرة ، ومنهن قادمات من مدن عراقية شتى للدراسة في جامعتها ، يتجولن في سوق (المغايز) بحرية وكبرياء وثقة ، سافرات ، مرتديات أحدث الأزياء ، التي اجتاحت العالم حينها. المد في نهر العشار، الذي خلفنا، يرتفع شيئاً فشيئاً وأحيانا يغترف بعضنا منه ماء رائقا لنغسل أيدينا ووجوهنا، وعلى حصرانها/ الخوص/ التي تصنعها نساء أبو الخصيب أو الاهوار،ثمة حوارات متواصلة عن أحدث الإصدارات الثقافية- الأدبية -السياسية، أحاديث ووجهات نظر واجتهادات لا تنقطع أبداً و أحياناً تتقاطع. مع بداية الليل نتوجه لنزهة على شط العرب ومرورنا الأول بـ(السياب) الواقف ،على علوٍ منتصباً. نرفع رؤوسنا نحوه، لنلقي عليه التحية ، دون أن نتوقع جواباً.ثم نكمل المسير إلى آخر الـ(كورنيش). ونتفرق بعد ذلك، والأغلبية منا تتوجه نحو (نادي الفنون) للاستمتاع بمسرة وبهجة حديقته وموائده الغنية ومباهجه البريئة الألقة ، المزينة بتواجد فنانات وفتيات بصريات ، منشغلات بشتى النشاطات الاجتماعية، بهيات ، مبدعات، فاضلات ، برفقة أزواجهن أو أشقائهن أو قريب لهن.أعزاء ينطوون على مختلف الإبداعات و الاهتمامات الإنسانية المختلفة ، في بصرة السبعينيات ومدنيتها ومباهجها البريئة ، المندثرة والمُحَرَمة الآن تماماً. في الساعة الثانية عشرة ظهراً، تعودت دائماً، وأنا في المقهى، على إرسال نظراتي مُتلهفاً ولهان، خارجها ، لأسباب لها علاقة بشغف ورفيف القلب ، ورغباته الجامحة التي لا أقوى على التحكم بها. كنت وأنا استمع لمَنْ يُحدثني ، انظر عبرَ الشارع، منتظراً مرور مَنْ تهواها روحي الشابة الطرية ، في تلك الأيام. متلهفاً لإشارتها المعلومة لديَّ، حسب ظروفها ، وألحق بها مُسرِعاً ،لأشبك يدها اليسرى الطرية ، بيدي اليمنى، فرِحاً ومرتبكاً في ذات اللحظة، ونذوب كالأسرار، عندما نتجول ونثرثر بأمانٍ وولهٍ ، لساعة أو أقل ، في الأزقة الخلفية الضيقة الرطبة، شبه المظلمة ، حتى مع انتصاف النهار، في (العشار). أراهُ ، وأنا أصوب نظري تجاه الشارع ، رائحاً غادياً، أو واقفاً تارةً للحظات، أمام المقهى، وتحت الشمس البصرية، الحادة ، الحارقة ، يتطاير شعره مع الريح ويرسل نَظراته،عبر نظارته الطبية الملونة،كالصقر، وسط المقهى دون أن يجرؤ على دخولها، فأخمن انه ينتظر أن يرفع (عبد الكريم كاصد)، المنحني على كتاب أو مجلة دائماً ، نظره إلى الأعلى ، كي يراه. عندها أُنبه (كريم) لذلك، فيخرج(كريم) ، مسرعاً ،بشوشاً ، فرِحاً، مرحباً بودٍ متواصل به ، ويقوده من يده، بحنانٍ واضحٍ للجلوس ، لكن ، في الصف الأول من (التخوت الخشبية)التي تقع خارج المقهى، ويظلان يتهامسان ،وظهراهما نحونا، دون أن نسمع شيئاً مما يتهامسان به ، كان ذلك الواقف تارة بمواجهة المقهى ظهراً و الرائح الغادي غالباً (محمود البريكان). ذكر كاظم الأحمدي، الثاوي حالياُ في مقبرة وادي السلام بالنجف بأمان وسكينة ، أنه طلب أن تنشر الوزارة (هموم شجرة البمبر)،مجموعته القصصية الأولى. فتم الاشتراط عليه حذف بعض قصصها ، فوافق، وسألناه، مصطفى عبد الله وأنا ، عن ذلك فأجاب: " وافقتُ. وأضاف بأسف واضح:على مضضٍ.." و لم يحصل إلا على التعضيد ، وكان (75 ) ديناراً فقط ،وهو يعادل نصف كلفة الطبع، وصدرت عن مطبعة الغري الحديثة - النجف- في تموز عام 1975بغلاف صممه الفنان شاكر حمد. أخمن أن العزيز ((أبو ضحى)) غادر هذا العالم ولا سكينة لروحه المتوترة ، تجاه النقاد العراقيين ،موقناً أنهم لم يمنحوه حقه ، مع انه اصدر (5) مجموعات قصصية هي (هموم شجرة البمبر/1975/ القصة التي تحمل اسمها فازت بالجائزة الثالثة في مسابقة إذاعة صوت الجماهير عام 1974 / وطائر الخليج/ 1977 وغناء الفواخت/1980/ وشواهد الأزمنة/1986 / وتراص الأنا/ 1996 / ، وصدرت له كذلك (3 ) روايات عراقية هي: أمس كان غداً/1992/ نجيمات الظهيرة/2001 /تجاه القلب/2007. ودعاني خلال التسعينات لقراءة المخطوطة النهائية للرابعة المعنونة(قصر الأزلزماني)، وكانت مكتوبة بخطه الجميل الأنيق بلونين، إذ خص التداعي باللون الأحمر والسرد باللون الأزرق ، وتشكل مع سابقاتها رباعية، تتناول تأريخ العراق روائياً منذ ما قبل مرحلة 14 تموز 1958 حتى فترة الحصار ، والذي حوله إلى بائع ساعات مستعملة في سوق البصرة القديمة، وله كذلك مخطوطة جاهزة للطبع بعنوان " اختيارات أولى- قصص مع مقدمة في الكتابة القصصية"كذلك أطلعت عليها. ولعل ما يبعث بعض السكينة في روحه ، ثمة طالبة في جامعة الموصل خصته بأطروحتها لنيل درجة (الماجستير) في النقد الأدبي، وزارته مع والدها في مسكنه ، الذي تتوسط حديقته الصغيرة شجرة "البمبر"، وأجاب على كل الأسئلة التي تساعدها في إكمال أطروحتها عنه ونتاجاته. وتسلم خالد الخميسي،واسمه الحقيقي في الوثائق الرسمية:(عبد الخالق عبد الرزاق) مجموعته القصصية الثانية(الملوثون)،الأولى حملت عنوان(القذر) ، في المقهى ، بعد طبعها في النجف. ووزع ، في منتصف الشارع المقابل للـ(الدَّكة) ،علينا، كاظم الحجاج(أخيرا تحدث شهريار) مجموعته الشعرية الأولى، التي صمم غلافها الملون الفنان "صلاح جياد". وقد اشترط كاظم ، عدم التوقيع عليها، ما لم يدفع كلٍ منا ثمنها البالغ(200) فلساً مقدماً. وثمة كتب أخرى صدرت لبعض أدباء المدينة منهم: يوسف يعقوب حداد وعبد الرزاق حسين، وكاظم نعمة التميمي ومحمد راضي جعفر وعبد الكريم راضي جعفر وشاكر العاشور ونهال حسن العبيدي، توفت في أوج شبابها ، وزهور دكسن وأمير الحلي وإحسان وفيق السامرائي ..وغيرهم.لا تخلو المدينة من معرض تشكيلي خاص أو جماعي شهرياً في جمعية الاقتصاديين ، التي عرضت جماعة(الظل) معرضها الأول فيها وساهم فيه علي طالب وشاكر حمد ومحمد الزبيدي ومؤيد عبد الصمد وموريس حداد وسلمان البصري وغيرهم .كذلك عرض الفنان هاشم تايه معرضه التشكيلي الأول فيها. وأسس الفنان الراحل ناصر الزبيدي (كاليري) على نفقته الخاصة ، وأقام إبراهيم الجزائري و احمد الجاسم وكامل حسين وأبا ذر سعودي وهاشم تايه معارضهم التشكيلية فيها. قاعة التربية - نهبت تماماً ، وباتت مقراً لحزب سياسي- ديني، ثم أخلاها ذلك الحزب، وبعد أن تم أعمارها حملت اسم" عتبة بن غزوان"- تشهد عروضا مسرحية متواصلة لعدد من الفرق المسرحية و قدم المخرج محمد وهيب ، الذي لعب دوراً مهماً في تنشيط المسرح المدرسي بين الطلاب والطالبات، عروضا مسرحية متعددة على مسرحها ، وادخل لأول مرة على قاعة التربية تقنية (المسرح الدوار) عندما قدم مسرحية (راشمون/ أو الساموراي السبعة ) للياباني (كيرا كاساو) . وقدمت جماعة (كتابات مسرحية) على خشبتها مسرحية (الحقيقة) للكاتب المسرحي عبد الصاحب إبراهيم ، والذي هُجر من وطنه العراق بحجة التبعية ، كذلك قدم المخرج المسرحي جبار صبري العطية(المنجم) لمعين بسيسو، إضافة لكرنفال ( يوم المسرح العالمي) الذي يمتد لأكثر من أسبوع في الهواء الطلق أو على حدائق نادي الفنون. دور العرض السينمائية الشتوية والصيفية ، التي هدمت جميعها الآن ، تقدم عروضاً لأحدث الأفلام العالمية أو العربية. صحف بغداد اليومية و مجلاتها الأسبوعية أو الشهرية لا تخلو من نشر نتاجات أدباء المدينة." حديقة اتحاد الأدباء في بغداد، على اتساعها لا تستوعب الجمهور-أكثر من نصفه نساء!- الذي جاء لحضور الأمسية الشعرية ، التي أحياها شعراء البصرة،من شيوعيين وبعثيين،أبلى فيها الشيوعيين بلاءً منقطع النظير،ظلت تردد صداه الصحافة الثقافية أسابيع عدة ، مما اضطر القيمون على الثقافة في بغداد، وهم يرون هشاشة وتواضع شعرائهم البعثيين إلى الاتصال بمدير دار الثقافة الجماهيرية في البصرة موبخين، فردَّ عليهم ، وهو الشاعر محمد راضي جعفر ، بصراحته المعروفة: هذه بضاعتنا يا رفاق، فأين العجب"؟.(محمد سعدون السباهي/ كوكب المسرات/سيرة ذاتية من يوميات سجين/ص166 /دار آراس للطباعة والنشر- أربيل-2011). ذكر لنا القاص مجيد جاسم العلي انه شرع بطبع مجموعته القصصية الأولى، (فتيات الملح) على نفقته . ذات ليلة ، مجيد وأنا، غادرنا نادي نقابة المعلمين بعد وقت هانئ جميل فيه ، وفي الطريق نحو(أم البروم) سألته عن السبب الذي دعاه ليهدي "فتيات ملحه" إلى(الفاو)؟ فأجابني: إنها مدينتي ومع مغادرتها من قبلي لكن روحي مازالت فيها وأشم كل صباح رائحة حنائها ، وأتمنى أن أعوم بعد الظهر يومياً في بحرها. فأضفت بمزاح : إنها تقع على البحر فربما سيبتلعها بحرها ذات يوم ، فرد مجيد مندهشاً:" أعوذ بالله"!!.وهذا ما حصل فعلاً إذ إن سنوات الحروب قد ابتلعتها وخربتها ، لا بل أزالتها عن موقعها القديم. وعلى(الدكّة) تسلم الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، وهو في طريقه إلى بيروت ،مخطوطة رواية عبد الجليل المياح "الفرس والسماء المربعة"،ومعها المخطوطة الشعرية الأولى لمصطفى عبد الله ، المعنونة "العودة إلى البلاد المحلة"وغلافاهما اللذان صممهما الفنان التشكيلي شاكر حمد، لغرض طبعهما في دار العودة ، لكن احتراق مكاتب دار العودة في بيروت، حال دون ذلك. وعندما طالبَ المياح وعبد الله بالمخطوطتين وغلافيهما، أصر صاحب دار العودة على احتراقهما كلية. منتصف شتاء عام 1981 ، والبصرة تمزقت روحها وفرض عليها التعتيم الإجباري، من أي ضوء كان مع بداية المساء، وتحوم في سمائها غربان الموت ، وتئن شوارعها من ثقل الدبابات وسرفاتها الحديدية ،أو المحملة بناقلاتها ، وسيارات (الزيل) العسكرية تجر المدافع الثقيلة والمعدات الحربية ،محملة بالجنود نحو مصائرهم المجهولة،إلى نيران جبهات الحروب الجنوبية المستعرة، كنت حينها أتجول صباحاً ، وأنا في حالة ذهول تام مما أرى ، مغالباً خوفي من قذيفة حرب قد تسقط قريباً من مكاني، رحت أتجول في ما تبقى من معرض المطبوعات التابع لـ(الدار الوطنية للنشر والتوزيع والإعلان)، في العشار، فشاهدت غلاف مجموعة مصطفى عبد الله والذي صممه شاكر حمد،وهو يحتوي على مختارات شعرية متنوعة للشاعر عبد الوهاب البياتي، بعنوان"كتاب البحر"!!؟. وما أثار دهشتي جداً ، وجود نسخاً قليلة معروضة من مجموعة (الحقائب) لعبد الكريم كاصد ، الهارب برفقة مهدي محمد علي عبر بادية السماوة ، وكانا حينها يقيمان ويعملان ثقافياً في (عـدن) ، بطبعتها الأولى والتي صدرت مستنسخة، بخط الفنان هاشم تايه،عن (دار العودة) في بيروت ، فأردت اقتناءها، مع مختارات (البياتي) تلك. فقالت لي الموظفة ، بعد أن نقبت في أوراقٍ أمامها بحجة البحث عن سعرها:إن( الحقائب) للعرض وليست للبيع !؟. بعد أيام عدت للمعرض ، فوجدت (حقائب) دار العودة ، قد اختفت ، وخشيت جداً الاستفسار عن مصيرها!؟.


*****

(5)

-1-
ذات مساء ربيعي زارنا ونحن مسترخين على (دكّة) المقهى الأستاذ (عادل يوسف) ، المعيد في كلية الآداب فرع اللغة الإنكليزية ، وبرفقته القاص سلمان كاصد ، الذي حصل على درجة الدكتوراه ، بعد عقدين في النقد الأدبي من جامعة البصرة ، وهما زملاء خلال دراستهما معاً في كلية الآداب ، مؤكداً لنا أن الجامعة ، قررت المساهمة النشطة بالمشهد الثقافي- الأدبي والفني من خلال المركز الثقافي لجامعة البصرة. ووجه الدعوة لنا في أن نحضر و نسهم في الجلسات التي ستعقد فيه ، وان الدكتور زاهد العزي ، الأستاذ في الجامعة ، قد تسلم مسؤولية المركز وهو مساعد له. بدأ المركز نشاطه باستضافة أسماء لامعة في الثقافة العراقية ، منهم العالم الدكتور نوري جعفر إذ غصّت قاعة المركز بالحاضرين الذين أنصت كثيرون منهم إلى محاضرته وقوفاً، وكانت فرصة نادرة لأن نستمع للدكتور نوري جعفر، الشخصية الوطنية الديمقراطية المعروفة وذات التاريخ الناصع ومستواه الرفيع علمياً وبحثياً ، وأطروحاته حول آلية الإبداع الثقافي والعلمي في الدماغ الإنساني ومكونات مخه. بعده بفترة حضر جبرا إبراهيم جبرا مقدماً محاضرة عن تجربته في الترجمة ، والمعروف ان جبرا قدم لنا وللقراء العرب، خدمات ثقافية جمة عبر تراجمه العديدة ومنها، للمثال فقط وليس للحصر، تموز أو ادونيس وهو فصل من كتاب( الغصن الذهبي) للسير جيمس فريزر و الصخب والعنف لفوكنر وهملت والملك لير، واغلب مسرحيات شكسبير وتراجم أخرى منوعة و مهمة ساهمت بالتكوين الثقافي والمعرفي لأجيال من المثقفين العراقيين والعرب ، و لا ضرورة لعدها فهي معروفة جيداً، وكانت فرصة ثمينة أن نستمع لجبرا وهو يتحدث أمامنا عن ذلك . كما وتحدث جبرا عن كتاب حديث له تحت الطبع.وبعد أن انتهى توالت الأسئلة والمداخلات وبينها كانت مداخلة الشاعر عبد الكريم كاصد الذي أشكل على جبرا مسألة حديثه عن كتاب جديد له تحت الطبع لم يطلع عليه القراء ، وملاحظات أخرى عن بعض ترجماته. و عقب عليها جبرا، باللغة الانكليزية أحياناً ومترجماً تعقيبه إلى العربية، ثم جرى الحوار بين الاثنين بالفرنسية والانكليزية لنحو نصف ساعة ، وسمعنا لكل منهما ترجمة للغة العربية ، قرر جبرا بعدها بأنه على اختلاف مع كاصد ولا يمكن أن يلتقيا لأنه يعتقد أنّ "في البدء كان الكلمة"، فردّ عليه عبد الكريم قائلاً "أرى أن في البدء كان العمل". وحضر ضيوف من بغداد منهم حسن العلوي عندما كان رئيساً لتحرير مجلة "ألف باء" وقدم محاضرة عنوانها "الزمن .. ومفهومه لدى صدام حسين "، و قام بتغطية محاضرة العلوي احد الصحفيين الذين حضر معه ، خصيصاً لذلك ، في مجلة " ألف باء" وعلى صفحتين كاملتين في المجلة ، وكذلك الدكتور عوني كرومي والشاعر بلند الحيدري وشخصيات ثقافية وفنية وعلمية عراقية وعربية وأجنبية تواجدت في زيارات بحثية وعلمية في الجامعة، وثمة جلسات خاصة عن الموسيقى الكلاسيكية العالمية، ونماذج متنوعة منها ،عبر جهاز" كرامفون" حديث جدا ، ويُعلقْ على ما يقدم من موسيقى احد أساتذة الجامعة المصريين والمتخصص بمادة التذوق الفني في الموسيقى العالمية.
2
"انكببت على كتابة قصص أضمنها مجمل انطباعاتي الاجتماعية ، عن علاقات وملامح واقعية حقيقية وفريدة ، كنت أريدها أن تشتمل على تحسسي العاطفي لانفعالات وسلوك أفراد يجدون صعوبة في الاستجابة لوضعهم الاجتماعي". محمد خضير.
بعد محاولات حثيثة من قبل د. زاهد العزي وبعض الأصدقاء وبمشقة بالغة وافق القاص محمد خضير على المشاركة في نشاط المركز الثقافي للجامعة والحديث عن تجربته القصصية. كان الحضور كثيفاً جداً والقاعة ممتلئة تماماً، لم يكن القاص محمد خضير قد أصدر "المملكة السوداء" بعد، لكنه كان معروفاً بموهبته وقدراته القصصية الرفيعة من خلال ما نشره في المجلات العراقية والعربية.رحب مقدم الجلسة الدكتور زاهد العزي بالحضور، شاكراً الأستاذ خضير على تلبية هذه الدعوة،كما وصفها نصاً "بعد مشقة". ثم دعاه للصعود إلى جانبه للتفضل بالحديث عن تجربته القصصية ، وبحسب معرفتي وعلاقتي بمحمد خضير كانت هذه هي المرة الأولى التي يواجه جمهوراً بتلك الكثافة. دهشنا جميعاً كون محمد خضير صعد المنصة من دون أوراق. شكر محمد الجميع والمركز ، ثم قال:" بدأت برسم دائرة صغيرة حولي ووضعت نفسي في منتصفها وأخذت أوسع تلك الدائرة بتأنٍ شيئاً فشيئاً ، أحاول جاهداً أن لا تتسع الدائرة بحيث أضيع في مساحتها وان لا تضيق عليّ كي لا أصبح خارجها ". ثم سكت قليلاً، وأضاف:" هذا كل ما لديَّ"!؟. صمتنا جميعاً ،وصعق رئيس الجلسة تماماً، وران السكون على القاعة ومَنْ فيها. صمت وحيرة تواصلا لدقائق، حتى مزق ذلك الصمت الناقد" شجاع العاني"، ولم يكن قد حصل على الدكتوراه بل الماجستير عن أطروحته" المرأة في القصة العراقية" ويعمل مدرساً في كلية آداب جامعة البصرة ، وكان حينها يجلس في الصف الأول بالقاعة. رفع الناقد شجاع العاني يده مستأذناً بالحديث ، وقال بهدوء تامٍ : من غير المعقول أن تكون الأمور هكذا يا محمد وهذا الجمهور الكثيف حضر ليستمع إليكَ !؟. عندها رد محمد بتواضع وأدب جم معروف عنه : لا أرغب بالحديث عن تجربتي، فهي كما أتصور بسيطة حتى الآن ، لكني أفسح المجال للجمهور الكريم في أن يسأل وأنا سأجيب. وأضاف: لا أريد أن أكون محاضراً هنا ، بل محاوراً عن ما يتفضل به مَنْ يرغب من الحاضرين الكرام بالسؤال أو محاورتي.عندها انفتحت أسارير رئيس الجلسة محيياً الناقد شجاع العاني ومرحباً بما قاله محمد بشرط أن يتم تسجيل الأسماء وسيكون الحضور بالتعاقب إلى الميكرفون الموجود في القاعة. تم ذلك وسجل عدد كثير من الحاضرين أسماءهم. ومنهم أغلب قصاصي البصرة ومثقفيها، لكن القلة جداً حاول النيل من قصص محمد خضير، وعلاقة قصصه بالواقع في العراق. ورد محمد بوضوح وتمكن حول ذلك مؤكداً إن كتابة قصة واقعية تتطلب فهماً أعمق للواقع، واستقصاءً جوهرياً له وللدوافع التي تكمن وراء أو تحت السلوك الإنساني وهو يعيش في هذا الواقع وشروطه المفروضة عليه لأسباب وعوامل وفواعل شتى ، ولكتابة قصة واقعية ,كما ذكر القاص محمد، انه ينبغي النفاذ إلى مستويات عدة من الواقع ، وان مجتمعنا يغلف حقيقته بجلد سميك من العلاقات والأوهام الحضارية المزيفة و ما يكمن أسفل السطح ، لا وعي جمعي عامٍ و عميق الجذور ، وما تحت السطح الاجتماعي مخاوف عدة وهو في حالة من التشكل الدائم ، وان العمل الفني الذي يتناول الواقع الآخر الذي وصفه (بواقع الأعماق) ، سيحتوي تلك الحركة الدائمة المبهمة بين الماضي والمستقبل ، و كل ذلك يجري تحت سطح الواقع - الراهن. ثم أضاف: لغرض تصعيد الواقع لابد أن نلجأ إلى عزل أجزاء وقطعات من الواقع المادي وان ننقلها بابتكار إلى واقع القصة المبتكرة كذلك ، كي تنمو في محيط العلاقات الجديدة ومعها شخصيات القصة ذاتها. وحاوره طويلاً عدد كثير من الحاضرين منهم عبد الكريم كاصد وكاظم الأحمدي وعبد الجليل المياح، ومصطفى عبد الله ، ومن من الصعب تذكرهم جميعاً فمعذرة لهم. أما أنا فذكّرته بقصته التي نشرها في مجلة الآداب ، وكانت بعنوان "جامعو الجثث" التي مسرحها مدينة (القدس) وكيف تسنى له أن يلم بالخارطة الجغرافية وتفاصيل مدينة(القدس) الدقيقة وشوارعها الحجرية ، التي كانت الجثث متناثرة عليها ، وأزقتها الضيقة جداً و حاراتها وحتى عمارتها بحيث انه قدم صورة(بانورامية) موسعة عنها وكأنه قد عاش فيها سنوات ، والمعروف عنه انه لم يغادر البصرة إلا إلى عمله في قضاء (الرميثة) وأحياناً يذهب إلى بغداد؟. فكان جوابه: انه قرأ عشرات الكتب المتنوعة عن مدينة القدس وتاريخها، ودراسات (انثربولوجية) خاصة بها، ونظر في خرائط عدة لجغرافيتها وشاهد ما يفوق المئات من صور نادرة للمدينة ، واستطاع أن يرسم القدس بالطريقة التي تحدثت عنها ، وانه كان يرى نفسه أحياناً يتجول في شوارعها وأزقتها مع انه يسير في مدينته. وفي ختام تلك الجلسة وحواراتها الباذخة ، والتي تواصلت حتى ما بعد المساء، ذهب محمد إلى أن التواشج والالتحام بين الإبداع في الفن عموماً والحياة الإنسانية لا يتولد فقط من كون العنصرين من ذات المادة بل من خلال تعبيرهما عن نفس ردود الأفعال.
3
انحسر نشاط المركز الثقافي لجامعة البصرة بعد السبعينيات ، وخلال سنوات الحروب المتواصلة والحصار،تبخر ذلك الجمهور واختفى بين الموت في زنازين السلطة ،ومَنْ نجا افلح في الهروب خارج العراق بوسائل شخصية شتى ، ومن بقي مرغماً لظروف خاصة تمزقت روحه تماماً أو أصابه اليأس ، ولم تعد تلك الاهتمامات تشغله و شعر بالهزيمة الشخصية ، أو أكلته الحروب الخاسرة المتواصلة ، و الهجرة الاَضطرارية ، ومكابدات الحياة اليومية القاسية جداً زمن الحصار. في التسعينيات شهد المركز الثقافي للجامعة بعض المهرجانات والملتقيات ذات الصبغة والدوافع الإعلامية الدعائية ،أكثر مما هي ثقافية- أدبية ، وبعضها أقيم بدعم وولائم رؤساء العشائر و عقدت بعض القراءات الشعرية في مضايفهم ، خاصة أولئك الذين يملكون حظوة ما من قبل السلطة.. فالعراق تغير وجهه ، وغارت ملامحه، ولم يعد هو، بل :
" بلاد شوه الدم وجهها
لم تعد إلا ركاماً من آلام وجراح
سوقاً حاوطتها الرياح وأمطرها البرد
أنقاضاً تمرس الموت بأشلائها.
.............
بلاد يسلخها الجزارون
وارى منها الأعصاب والأحشاء والعظام
وارى أخشابها تحترق مثل المشاعل
والنار تلتهم السنابل، فوقها طير يفر
..........
كلما تغنى الناس بالرياح أو بالورود
تحطم طربها واستحال إلى أنين ". (أراكون)
بعد 9 نيسان 2003 دمر و(حوسم)المركز الثقافي لجامعة البصرة ، ومعه كل البنى التحتية الثقافية في المدينة ، و ما زال بهو الإدارة المحلية خَرِباً ، وتم تهديم المجمع الإعلامي الكبير والفخم ومعه قاعة السياب للعروض المسرحية و السينمائية ليكون مقراً دائماً لـ"مجلس المحافظة"، وثمة قوات عسكرية عراقية تحتل مبنى نقابة الفنانين ، كما أكل الجراد الفتاك الذي عاث فساداً وتهشيماً وتنكيلاً بمقر اتحاد أدباء وكتاب البصرة وقاعته الكبيرة ، وكذلك المبنى الفخم لنقابة المعلمين ، سوي بالأرض بعد ذلك تماماً ، الذي عقد أدباء وكتاب البصرة اجتماعهم الأول في قاعته الفارهة ، وأسقطت الهيئة العامة في صباح 23 / 5 / 2003 ، شرعية الهيئة الإدارية السابقة، ثم انتخبت هيئة إدارية جديدة لقيادة الاتحاد ، و تحت أصوات المعاول والمطارق ، التي بدأت تهديم البناية ، تم عقد أولى الجلسات الثقافية - الأدبية فيها ، حتى تم طردنا منها بقوة وإصرار نشامى وتوجهات وأفكار حواسم ولصوص وقتلة عراق ما بعد ظهر 9 نيسان 2003، بكل الأشكال والألوان والمهمات والتوجهات العلنية أو الخفية.


******

(6)

" الصور والوقائع والحقائق التي انقلها واعتمد عليها ليست محفورة في الصخر، بل هي نابعة من كائنات بشرية. إنها خيارات ، هل كان يمكن اختيار سواها!؟".كنعان مكية/ جمهورية الخوف
طرأت على المشهديْن الاجتماعي والثقافي في المدينة تحوّلات باتت واضحة وانعكست عل مواقف عدد من الأدباء والكتاب والمثقفين تجاه السلطة التي رهنت العمل في أغلب مؤسسات الدولة العامة ، وخاصة الثقافة والنشر بالولاء لها. ومع سياسة الترهيب والترغيب التي اتبعتها اصطف بعض الأدباء والمثقفين معها خاصّة بعض أولئك الذين نالهم ما نالهم من قهرها خلال إعصار 8 شباط الدموي، مع تغيرات قناعاتهم. وجرت محاولات لتفعيل النشاط الثقافي والفني في بعض المنظمات ومنها جمعية الاقتصاديين ونقابة المعلمين والنوادي الاجتماعية والمهنية وكان الغالب على نشاطاتها توزيع المشاركين فيها بموجب الانتماء الحزبي وفي المقدمة منه البعثي أولاً والشيوعي ثانياً ولم تخرج تلك النشاطات عن ذلك الطابع والتوجه ، دون النظر للكفاءة والقدرة الفنية، وكانت أشبه بعملية (تقسيم للغنائم) في تلك النشاطات خاصة الشعرية منها. أسس فرع الفرقة القومية للتمثيل، ولم يقبل في الفرقة نهائياً إلا مَنْ كان بعثياً أو قدم تعهداً فورياً بذلك، وفي المقابلة الشخصية بالذات. قدمت الفرقة بعض الأعمال المسرحية منها (الرواد) تأليف عبد الله حسن، وكان عنوانها الأصلي (خلف السدة) وتجري أحداثها في منتصف الخمسينيات ، فتم التلاعب بنصها وزمنه إذ أقحم في نهايتها شريط سينمائي حمل خطاب احمد حسن البكر وهو يعلن عن تأميم النفط العراقي و أخرجها محمد وهيب ، تابعتها في مقال مطول نشر في الصفحة الثقافية لجريدة" طريق الشعب"،وكان عنوانه( الرواد مسرحية مشوشة النماذج ..جاهلة بالزمن) و "شناشيل حسيبة خاتون" عرقها وأخرجها عبد الأمير السماوي عن مسرحية نعمان عاشور (الناس إلي تحت)،كذلك كتبت عنها مقالاً في الصفحة الثقافية لجريدة" الفكر الجديد" ، وبعنوان( شناشيل حسيبة خاتون.. المتداعية) وقدمت مسرحيات أخرى غيرهما، لبعض المخرجين الذين تم الاستعانة بهم ، من بغداد، لتقديم بعض أعمالهم المسرحية . هذه المسرحيات جميعها عرضت على قاعة (بهو الإدارة المحلية) هذا الصرح الثقافي الكبير والضخم و الذي وقفت على منصته أهم الأسماء العراقية والعربية والعالمية المعروفة في مرابد السبعينيات وشهد عروضاً مسرحية راقية لفرق عربية وعراقية وعالمية. سيطرت عليه بعد 9نيسان 2003 قوة دينية- سياسية قادمة من خارج العراق وأقامت لها إذاعة وتلفزيون،محليتين، فيه، ثم في صراع المليشيات على مناطق النفوذ والتحكم في البصرة ومواردها المادية ، قامت ميليشيا أخرى بالهجوم عليه وإحراق جزء منه، ومنح استغلاله ، في صفقة مشبوهة زنخة ، كما يتردد ، إلى شركة استثماريه إزالته من الوجود تماماً وسوته بالأرض ، وهي تضع الركائز الأساسية حالياً لمبنى كبير ضخم يتألف من طوابق متعددة للتسوق والتبضع التجاري!!. شيئاً فشيئاً بات عدد البعثيين من الأدباء والفنانين في ازدياد ملحوظ ، من خلال السيطرة على المنظمات المهنية والجمعيات الاجتماعية سواء بانتخابات شكلية مزورة أو بقوة السلطة القامعة بنعومة أحياناً أو بشدة واضحة عند الحاجة والضرورة التي تخدم أهدافها، وشمل ذلك الانقسام الأدباء والكتاب والفنانين، خاصة من الذين كانت مواقفهم وتوجهاتهم الفكرية مشوشة وهشة وغامضة لحدٍ ما، ومنهم من كانوا من رواد المقهى الذين انقطع بعضهم عن التردد عليه نهائياً، خشيةً من رقباء السلطة أو حياءً. دأبت السلطة على تحجيم وتهميش كثير من النشاطات الثقافية والفنية وفي مقدمتها نشاطات "نادي الفنون" إذ تم الاتفاق على قيام نادي الفنون بإقامة أسبوع ثقافي وفني بمناسبة حرب تشرين ومشاركة الجيش العراقي فيها، تحت مسمى (أسبوع المعركة القومية..والجبهة الوطنية التقدمية)!. وافقوا على ذلك في البداية مرحبين بهذا النشاط ومؤازرين له ، وقرروا المشاركة في كل فعالياته الأدبية والثقافية والفنية خاصة أن النشاط وُضِعَ تحت مسمى (أسبوع المعركة القومية) . في مناورة لم يحسب لها حساب ولم تكن متوقعة و في ليلة الافتتاح بالذات، وبموجب أوامر رسمية حزبية ، فورية وصارمة ، صدرت إليهم ، انسحبوا جميعاً من المشاركة فيه ضمن أية فعالية مهما كانت وأي شكل اتخذت، وبات النشاط فعلياً مجيراً في واقعه للحزب الشيوعي وأنصاره فقط. أقيم الأسبوع في نادي الفنون ونجحت نشاطاته المتنوعة أدبياً وثقافياً ومسرحياً وفنياً نجاحاً نوعياً وشعبياً، وتم تغطيته إعلامياً،عن طرق إعلام الحزب الشيوعي ، لكن وسائل النشر الرسمية المرئية والإعلامية في البصرة وبغداد تجاهلته تماماً. كما تم الحصول على موافقة رسمية لتأسيس فرع لـ" نقابة الفنانين" في البصرة وأقصي عن الترشح لانتخابات عضوية الهيئة الإدارية إلا مَنْ كان بعثياً أو قدم تعهداً بذلك ، عندها باتت الهيئة الإدارية ورئيسها حكراً على المنتمين لحزب البعث ومناصريه فقط. ورفضوا بإصرار متواصل تأسيس فرع لاتحاد الأدباء والكتاب في البصرة، بحجة أن كثيراً من الأدباء والكتاب يرون أن الوقت غير مناسب لذلك وانحصر المشهد الثقافي والفني بين رحى الحزبين الحليفين شكلياً /الشيوعي والبعثي/ دون إعطاء هامش ما لحرية حتى بسيطة لغيرهما، وكان واقع الحال (معَ أو ضدْ) وعشنا بالضرورة في صراع متواصل ، وواضح المعالم، وباتت الأمور والنشاطات الثقافية والفنية والدعوة للمشاركات فيها بمثابة لعبة شطرنج بين خصمين غير متكافئين، و يحاول حزب البعث، بحكم امتلاكه السلطة ونفوذ وقوة أجهزتها نقلات متواصلة ناجحة إعلامياً، فلم يحدث نهائياً أن محطة التلفزيون وهي الوحيدة المرئية حينها في البصرة وجنوب العراق أن ضيّفت أو تعاملت مع أي أديب أو مثقف أو فنان في برامجها الثقافية والفنية، ناهيك عن السياسية، ما لم يكن بعثياً أو موالياً للتوجهات الحزبية البعثية، يستثنى من ذلك الفنان كوكب حمزة بعد انتشار أغنيته ( ينجمة). فبعد الطلب المتواصل من المشاهدين في برنامج يتم بثه على الهواء مباشرة ،أجريت معه مقابلة تلفزيونية قصيرة جداً ، وبثت في وقت غير مناسب ، و تم منتجتها بشكل مشوه ، في هذا يمكن استثناء دور الثقافة الجماهيرية لأسباب عدة يقف في مقدمتها انحصار روادها على الأدباء وبعض المثقفين فقط ، وانعدام تأثيرها على الواقع الاجتماعي في المدينة ، والنشاط المتواصل للأدباء والكتاب الشيوعيين ومناصريهم والذي لا يمكن لدور الثقافة الجماهيرية تجاهله أو التفريط به وهي في طور التأسيس وبداية نشاطها الثقافي" حديقة اتحاد الأدباء في بغداد، على اتساعها لا تستوعب الجمهور- أكثر من نصفه نساء!- الذي جاء لحضور الأمسية الشعرية ، التي أحياها شعراء البصرة، من شيوعيين وبعثيين،أبلى فيها الشيوعيين بلاءً منقطع النظير،ظلت تردد صداه الصحافة الثقافية أسابيع عدة ، مما اضطر القيمون على الثقافة في بغداد، وهم يرون هشاشة وتواضع شعرائهم إلى الاتصال بمدير دار الثقافة الجماهيرية في البصرة موبخين، فردَّ عليهم ، وهو الشاعر محمد راضي جعفر ، بصراحته المعروفة: هذه بضاعتنا يا رفاق، فأين العجب"!؟.(محمد سعدون السباهي/ كوكب المسرات/ص166). وجهت دعوات متعددة لنا للمشاركة في بعض أنشطتها ومنها جلسة عن ديوان الشاعر طالب غالي "أغنية لطائر النورس"وقد قدمت عنها مداخلة ، وجلسة ثقافية أخرى عن ديوان الشاعر شاكر العاشور" في حضرة المعشوق والعاشق" واشترك معي الشاعر حكيم الجراخ كما خصت الشاعر عبد الكريم كاصد بجلسة طويلة وممتعة خاصة بتجربته الشعرية ومكوناته الثقافية، وكان عدد كثير من أدباء وكتاب البصرة يشتركون ويقدمون جلسات ثقافية على حديقة دور الثقافة الجماهيرية عصر كل يوم ثلاثاء، منهم الراحل يعرب السعيدي وحكيم الجراخ وكاظم نعمة التميمي والراحل كاظم الأحمدي ومهدي محمد علي والمؤرخ الراحل حامد البازي والكاتب عباس الرباط والراحل عبد البطاط وبعض الزملاء الآخرين الذين لا يمكن تذكرهم جميعاً فمعذرةً لهم . كان يطلب منا المشاركة عبر المكتب الصحفي لجريدة" طريق الشعب" بمناسبات خاصة تخص تأسيس حزب البعث أو ذكرى صدور جريدة (الثورة) ، وغيرها فكنا نلبي الدعوات على وفق توجهاتنا وقناعاتنا الفكرية ، وللأمانة لم يحصل أن دور الثقافة الجماهيرية تدخلت في الاطلاع المسبق على مساهماتنا نهائياً. كنا نستجيب دائما للمشاركات الثقافية الخاصة حتى بمناسبات بعثية انطلاقا من (حسن النوايا) ولكن من وجهة نظرنا وتوجهاتنا فالشاعر الراحل مصطفى عبد الله، وفي حفل دور الثقافة الجماهيرية قرأ بعض قصائده ، بمناسبة (7 ) نيسان، وهي قصائد سبق له أن نشرها في طريق الشعب لمناسبة العيد الأربعين لتأسيس" الحزب الشيوعي العراقي"، كما شاركتُ ببحث عن الصفحة الثقافية في صحيفة (الثورة) بمناسبة الذكرى الثامنة لصدور الجريدة ، وكان معي القاص أحمد أمين وأدار الجلسة الشاعر الراحل كاظم نعمة التميمي الذي طلب مداخلتي لغرض نشرها ، لكنهم نشروا مقتطفات من مداخلة الصديق أحمد أمين فقط ولم يذكروا حتى في إشارة عابرة إلى مشاركتي في الجلسة ببحث إلى جانبه ، في رسالة البصرة الثقافية التي نُشرت في مجلة(الطليعة الأدبية)، و لم يحصل أن أسهم أي كاتب أو شاعر بعثي إطلاقاً في أي مناسبة خاصة بالحزب الشيوعي رغم دعواته المتكررة لذلك. ساهم عدد من الشعراء من الجانبين في جلسة شعرية مسائية أعقبت حرب تشرين و (عبور قناة السويس) على مسرح قاعة التربية في العشار وقرأ فيها عدد من الشعراء منهم عبد الكريم كاصد الذي ساهم بمقاطع شعرية قصيرة جداً عن الحرب ، لم ينشرها بعد ذلك قط ، وقصيدة "تشيلي في القلب" لتزامن الجلسة مع أحداث تشيلي. بعد انتهاء الجلسة جاء بعض المثقفين البعثيين نحو عبد الكريم ، ونحن نغادر القاعة ، وعلقوا بكلام كله مديح نحوه ولكنه لا يخلو من الخبث قائلين له: كأنك قادم من المطار للتو وحقيبتك معك من تشيلي. ينبغي أن نؤكد أنهم ، بصفتهم الرسمية، كانوا يحظرون علينا المشاركة في المربد ، وبعد نهاية فعالياته ، يعتذرون بأننا أفضل من بعض المشاركين ولكن لظروف، خاصة، يرجون أن نعذرهم عليها، قاصدين بقولهم هذا ، ومن طرف خفي:( هو حظر حزبي على مشاركات الشعراء الشيوعيين أو ممن يحسب عليهم في المدينة). وحدث أن أعلنت مجلة الأقلام عن نيتها إصدار عدد خاص تحت مسمى(الأدب والاشتراكية) فأرسل عبد الكريم كاصد قصيدته(ابن فضل) -قصة (أبن فضل ) كاملة سردها د. رفعت السعيد في كتابه "تاريخ اليسار المصري"- للمشاركة في العدد، لكن هيئة تحرير مجلة " الأقلام" رفضت نشرها متحججة بأن نشرها سيسيء للعلاقات المصرية- العراقية (دبلوماسياً) ، ولأول مرة نسمع أن قصيدة ما تفعل هذا الفعل بين الدول!!.رغم كل المغريات ومحاولات التحجيم والتجاهل الرسمي فقد بقي غالبية الأدباء مصطفين مع (الحزب الشيوعي) حتى دون انتمائهم ، فصحف بغداد اليومية و مجلاتها الأسبوعية أو الشهرية لا تخلو من نشر نتاجاتهم المتواصلة ، المتميزة . ذات صباح جمعة ، منتصف عام 1975، وفي المقهى أعلمنا الكاتب والصحفي الراحل (عباس الرباط) وهو شيوعي سابق منذ الخمسينيات وكان سجيناً لسنوات في (نقرة السلمان) أن ثمة جريدة ستصدر في المدينة بصفتها ملحق (مجلة الإذاعة والتلفزيون) التي كانت تصدر في بغداد وستحمل اسم (المرفأ)، خمنا إن هذا التوجه هو لخلق قاعدة بعثية بين صفوف الأدباء والشباب منهم بالذات، خاصة أن مَنْ سيرأس تحريرها مدير تلفزيون البصرة وعضو فرع حزب البعث، حينها، إحسان وفيق السامرائي، ويساعده في ذلك بعض الأدباء البعثيين، أو ممن تحول واصطف إلى جانبهم. صباح احد الأيام دخل مقهى(الدَكّة) احد موظفي تلفزيون البصرة، ممن كان يقدم برنامجاً سياسياً أسبوعياً فيه ، وهو من الإعلاميين البعثيين المتزمتين جداً، وصادف إن كنتُ هناك ومعي الشاعر الراحل مهدي محمد علي، وهو على معرفة قديمة به تعود لأيام الصبا والدراسة والسكن في منطقة واحدة،. بعد التحيات قدم الإعلامي نسخاً من جريدة(المرفأ) بعددها الأول ، وطلب أن يستمع لرأينا فيها!؟. أبدى مهدي بعض الملاحظات المرحبة بصدور الجريدة ، وتحدث - كعادته- بتحفظ عن نوعية موادها وإخراجها فنياً وأهمية ترتيب المواد فيها. أنا أيضاً رحبت بصدورها وطلبت ألا تكون مغلقة على جهة واحدة، خاصة أنها تمول من المال العام، ثم استغربت من شعارها الذي كان نصاً (من أجل فكر قومي اشتراكي) وذكرت له أن هذا الشعار لا ينسجم مع أدبيات حزب البعث ذاته، وهو شعار (الحزب النازي القومي الألماني) ويجب أن يكون الشعار(من أجل فكر قومي واشتراكي). في العدد الثاني تم الانتباه لملاحظتي من خلال اعتماد الشعار الذي ذكرته. بعد توالي صدور الجريدة، والإعلان عنها مكرراً عبر محطة تلفزيون البصرة ، نقل إلينا مساءً، في المقهى، القاص الصديق احمد أمين/ أبو عاطف- المغترب حالياً/ رغبة رئيس التحرير بأن نشارك فيها ، وصادف قبل ذلك بقليل أن عرضت على عبد الكريم كاصد ومصطفى عبد الله مقالاً لي لغرض تبيان رأيهما فيه، وهو ما كنا نعتمده قبل إرسال أي مادة للنشر، فاستحسناه بعد تصحيح بعض هفواته ، وكان المقال عن كتاب أستاذنا الراحل الدكتور"جلال الخياط" المعنون"الشعر والزمن" من إصدارات وزارة الثقافة العراقية- بغداد. وقد ناقشت الكتاب من زوايا عدة، واعتمدت في مقالي بعض الإشارات والفقرات عن الزمن ومفهومه وما جاء عنه في كتاب "المادية الديالكتيكية" ،تأليف مجموعة من العلماء السوفيت والرائج حينها جداً، وكذلك استثمرت ما ورد في كتاب" الجمال في تفسيره الماركسي"، لعدد من الفلاسفة السوفيت ، ترجمة يوسف الحلاق ومراجعة أسماء صالح/ دمشق، وما ورد فيه عن الزمن الفني بالذات، كما سجلت على الكتاب عدم اهتمامه المناسب بالعلاقة بين الزمن والمكان . عندها اقترح علي كريم مباشرة، وفي ضوء الدعوة التي حملها الزميل القاص أحمد أمين بتكليف من رئيس التحرير أن أشارك به في (جريدة المرفأ)، تقديراً لذلك الطلب وللتعبير عن عدم التحفظ في المشاركة بجريدة(المرفأ) وتصدر نصف شهرية ، رحب القاص " احمد أمين " بمساهمتي ونقله إلى الجريدة. بعد ثلاثة أعداد نُشر مقالي المعنون "الشعر والزمن وما بينهما" مع حذف كامل لكل تلك الإشارات والاقتباسات من الكتابين، وقد استفسرت من احد الأصدقاء العاملين في الجريدة فذكر لي: بحكم مشاغل إحسان السامرائي الوظيفية والحزبية فأن المشرف الفعلي على الجريدة الشاعر(......) وهو الذي قرر حذف هذه الفقرات والاستشهادات تحاشياً لأي إشكال قد يقع له ، ما دعاني لإعادة إرساله إلى "طريق الشعب" فنشرته كاملاً. وبعد التطور البسيط الذي أصابته (المرفأ) في مستواها الثقافي والفني نشر فيها القاص محمد خضير قصته "اله المستنقعات" وكذلك نشر فيها كاظم الحجاج ومصطفى عبد الله ومحمد صالح عبد الرضا وفهد محسن فرحان متابعات نقدية لقصائد الأعداد الماضية ، وكذلك قصص للراحل يوسف يعقوب حداد و كاظم الأحمدي وعبد الصمد حسن واحمد أمين وعبد الإله عبد القادر وغيرهم، وخصها مهدي محمد علي بمقال عن ديوان الشاعر الراحل كاظم نعمة التميمي (إسراء في سماوات أخرى)، ونشر فيها كذلك الشعراء حامد عبد الصمد البصري وفوزي السعد وسعدي علي السند وقتيل الحرب العراقية- الإيرانية الشاعر إسماعيل الخياط وعدد آخر من الشعراء وكتاب القصة ، ونشرت فيها مقالات وترجمات لبعض الأكاديميين في الجامعة ، ولا يمكن ذكرهم جميعاً ، لكنها بقيت في غالبية ما ينشر فيها حكراً على المنتمين والمؤيدين لحزب السلطة ، في محاولة واضحة لخلق كتلة بين الأدباء والكتاب موازية لمؤيدي وأنصار "الحزب الشيوعي"، الأكثر عدداً وتأثيراً في الوسط الثقافي البصري، وعبر صفحات(المرفأ) نشر بعض الشباب نتاجاتهم الأولى، وقسم منهم واصل الطريق، وبعضهم اختفى عن النشاط الأدبي والثقافي تماماً. وأصدرت الجريدة مختارات شعرية بعنوان"كتاب المرفأ الشعري". شيئاً فشيئاً بدا النضوب على الجريدة، لكونها لم تنفتح على المشهد الثقافي في البصرة دون الاهتمام بالتوجهات السياسية والحزبية بالذات لمن يسهم فيها، ثم أغلقت مباشرة بعد اعتقال" إحسان وفيق السامرائي" فيما سمي حينه بـ"مؤامرة محمد عايش". من جهة أخرى فأن "المكتب الصحفي في جريدة"طريق الشعب" بالبصرة، مع أن قسماً كبيراً منا لم تكن له علاقة تنظيمية بـ"الحزب الشيوعي" بل كانت علاقة فكرية فقط ، تم إعلامنا ، عبر احد الأدباء الشيوعيين وعضو المكتب في ذات الوقت، بأن موادنا التي ترسل إلى جريدة طريق الشعب والفكر الجديد ومجلة الثقافة الجديدة يجب أن تكون عبر(المكتب). استجبنا لذلك ، إكراما لهذا الطلب ، وحدث أن قدمنا موادنا الأدبية والثقافية والصحفية كذلك ، لكن بعضها لم ترسل، بل تم إعادتها إلينا، بعد فترة، لأنها وحسب منطقهم: "لا تنسجم مع خط الحزب وسياسته حينها" وقد تحرج ممثليهم في قيادة الجبهة الوطنية في البصرة. والمضحك في الأمر أننا وعند إرسالها عبر دائرة البريد الحكومي إلى الصحف والمجلات التي تصدر في بغداد، والرسمية بالذات، نُشرت جميعها دون تحفظ ما. حاول الحزب الشيوعي مراراً التأكيد على ما جاء في "ميثاق العمل الوطني" عن الثقافة والفن ودورهما الاجتماعي ، وقرر أن يقيم في مقره ندوات موسعة عن "مساهمة الأدب والفن" في كيفية تفعيل ما سمي حينه "خطة التنمية الانفجارية"، التي صعبت جداً الحياة اليومية للناس في المدينة ،دون تلمس ، حتى الآثار البسيطة لها، لكنه لم يجد التفاعل المناسب من غالبية الأدباء والفنانين لهذا المنحى ، والذين يعلمون جيداً أن هذا لم يكن غير تكرار واجترار للتوجهات السوفيتية خاصة في عهد ستالين، وإزاء ذلك تراجع عن محاولة الاستمرار في مثل هذه التوجهات التي لم تعبأ بها أساساً قاعدته أو مَنْ يناصره في الوسط الفني والثقافي والأدبي ولم تشغل حتى حلفائه ، فتراجع عن تلك الندوات، بعد أن عقد ندوة واحدة فقيرة في مضمونها و كان التوجه السياسي في صميمه. قيادة الحزب الشيوعي في البصرة حاولت جاهدة التخفيف من الضغوط المتواصلة، معنوياً ، من قبل حزب السلطة وأجهزته على مناصريها ومؤيديها في الوسط الثقافي والفني في المدينة وعمدت لعقد لقاءات معهم لغرض توضيح سياستها الرامية للارتفاع إلى مستوى مرحلة (التحالف الوطني الراهن) ، والعمل على امتصاص غضبهم المتواصل والحيف الذي بات يحيق بهم من خلال القيام بالحوارات مع الطرف (الحليف) لفك الخناق عنهم ، لكن الأيام والممارسات اليومية المتواصلة والمحسوبة بدقة، من قيادة البعثيين كانت تكشر عن أنيابها عبر ممارسات متعمدة وواضحة من قبل حزب السلطة (الحليف) مستعيناً بأجهزته المتعددة للسيطرة التامة على المشهد الثقافي والفني والاجتماعي في المدينة تدريجياً، وعلى وفق خطة محكمة بانتظار وقت الشروع بها وهو ما حدث بعد فترة.
*هذه المادة وسابقاتها ، والقادمة منها ،معنية بالوضع الثقافي- الفني في مرحلة السبعينيات في البصرة تحديداً ، وهي القسم الثاني من كتاب جاهز للطبع بعنوان:(تلك المدينة...)





جاسم العايف - مقهى (الدَّكة) في البصرة:..فضاء ثقافي..وزمن سبعيني(1-4)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى