د. أحمد الحطاب - إنجازات بشرية ضخمة لكنها قسَّمت العالمَ إلى عالمين

الاكتشافات والاختراعات والإنجازات التي توصَّل لها الإنسان مند ظهوره على وجه الأرض كثيرة ومتنوعة. وجُلُّها وأهمُّها حدث ابتداء من القرن الثامن عشر. ومما لا شك فيه أن كل هذه الإنجازات ساهمت إلى حد كبير في تبسيط الحياة وفي تقريب المسافات وفي تقصير الوقت وتخليص الإنسان من كل ما هو شاق ومُتعب. إنجازات حسَّنت وطوَّرت الحياة اليومية بجميع مظارها الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، الصحية، البيئية، السكنية، الترفيهية، التعليمية…

إنها فعلا إنجازات ضخمة ومُذهلة. لكنها، بحكم تحقيقها من طرف بلدان مُصنَّفة في خانة البلدان المصنَّعة، المتقدمة والغنية، ليست إلا أسلحة لتفقير باقي بلدان المعمور. بل إنها زادت من عُمق الهُوَّة التي تفصل بين عالمين سكانهما بشرٌ لهم نفس التَّركيبة البيولوجية ونفس الدماغ ونفس المادة الرمادية matière grise ونفس الأحاسيس… فأين يوجد الفرقُ بين هذين العالمين المتساويين بيولوجياً؟

الفرق تاريخي وحاسم ومصيري. في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن الموالي، القرن التاسع عشر، وقع تحوُّلٌ هائلٌ كان مسرحُه بلدانَ أوروبا الغربية حيث تحوَّلت هذه البلدان من بلدان زراعية إلى بلدان صناعية. وقد بلغت هذه النهضة الصناعية أو الثورة الصناعية، كما سُمِّيت آنذاك، أوجَها خلال القرن التاسع عشر، وبالأخص، في فرنسا وإنجلترا. والغرض من هذا التَّصنيع industrialisation هو آنتاج العديدَ من المُنتَجات المُصنَّعة produits manufacturés التي أغرقت الأسواق المحلية والأجنبية. ولا داعيَ للقول أنه، كلما ارتفع مستوى التَّصنيع، كلما زادت حاجتُه إلى المواد الأولية matières premières. و البحث عن مزيد من المواد الأولية هو الذي دفع بلدان أوروبا الغربية، وعلى رأسها، فرنسا وإنجلترا، إلى توسيع إمبراطورياتِها. فراحت تستعمر بلدانا كثيرةً من باقي أنحاء المعمور للاستغلال الجائر لثرواتِها المعدنية على الخصوص. وقد بلغت هذه الحملة الاستعمارية أوجَها في بداية القرن العشرين وخصوصا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وما تجدر الإشارةُ إليه، هو أن المنتصرين في هذه الحرب، لم يروا في بقية المعمور إلا "كعكةً" قابلة للتَّقسيم وتخدم مصالحَهم الاقتصادية، الصناعية والتَّصنيعية.

انطلاقا من تلك الفترة وبغض النظر عن ما كان يجري في الاتحاد السوفياتي، بدأت بوادرُ انشطار العالم إلى عالمين. عالمٌ يقول عن نفسِه إنه عالمٌ مصنَّع، متطوِّر، متقدِّم، غني، مهيمِن اقتصاديا، علميا، تكنولوجيا، فكريا، ثقافيا، حضاريا، سياسيا… وعالمٌ يُقال عنه آنه غير مصنَّع، بدائي، متخلف، فقير، مغلوب على أمره، غير متحضِّر، غير مثقف، غير منظَّم… بينما الحقيقة هي أن هذه العاهات والآفات الاجتماعية والاقتصادية فُرضَت فرضا على العالم المنعوث ب"المتخلف" أو "العالم الثالث". لماذا؟

بكل بساطة، كان المستعمِرُ يدَّعي بأن الدَّاقعَ الأساسي لاحتلاله بلداناً كثيرةً، هو نقلُ الحضارة والثقافة الأوروبيتين إلى هذه البلدان، بينما الحقيقة المُرة هي أن هذا المستعمِرَ الأوروبي أعطى الأولوية لأنانيته ولخدمة مصالحِه قبل كل الاعتبارات الأخرى. والدليل على ذلك، أن العديدَ من البلدان التي كانت خاضعةً للاستعمار لم تعرف، إلى يومنا هذا، سبيلاً لا للتَّصنيع ولا للحضارة ولا للثقافة ولا للغِنى ولا للتقدم ولا للازدهار ولا لأية طفرةٍ كان يتشدَّق بها المستعمرون…

ولم نسمع، إلى يومنا هذا، بلدا مستعمِرا اعترف بأخطائه وكفَّر عن زلاتِه بمساعدة مُستَعمَرته مساعدةً قويةً وملموسةً نحو التَّصنيع والتَّنمية. وحتى إن فعلَ، فتكون الأسبقية لمصالحه على حساب البلد المستَعمَر سابقا. وهنا، تبرز أهمِّيةُ المثل العربي القائل : "ما حكَّ جلدَك مثل ظفرك!".

ما يمكن استخلاصُه في هذا الصدد هو أن التَّصنيعَ والتَّقدم والحضارة والتنمية والتَّخلُّف والفقر ليسوا مرتبطين بالتَّركيبة البيولوجية للبشر، أو بعبارة أخرى، ليسوا مرتبطين بالرصيد الوراثي الموجود في خلايا هؤلاء البشر. لأنه كان من الممكن أن تكون أوروبا الغربية هي الضعيفة، وكانت ضعيفةً في القرون الوسطى. وكان من الممكن أن يكونَ العالم المتخلف هو القوي، وكأن، على الأقل، جزءٌ منه قويا خلال القرون الوسطى. المسألة، هي بالتأكيد، مسألةُ التقاء ظروف اجتماعية، ثقافية واقتصادية على الخصوص.

التَّصنيع، التَّطوُّر، التَّقدم، الغِنى، الهيمنة الاقتصادية، العلمية، التِّكنولوجية، الفكرية، الثقافية، الحضارية، السياسية… خصائص بشرية. لكنها ليست حكرا على بشرٍ دون آخرين! بل المعروف عنها أنها تُتَدَاوَلُ بين البشر ومجموعات البشر مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "...وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا…" (آل عمران، 140). ولولا هذا التَّداولُ، لما تزامنت وتعاقبت الحضارات. فكل مَن أراد أن يُعطيَ للتَّخلُّف والفقر والجهل… مبرِّرا بيولوجيا أو وِراثيا، فهو زارعٌ للفتنة وله أغراضٌ تسير ضد الإنسانية والقيم الإنسانية.

ولهذا، فالبلدانُ الأوروبية المستعمِرة كانت منافقة إزاء البلدان الضعيفة بادِّعائها نشرَ الحضارة والثقافة الأوروبيتين. علما أن هدفَها الأول والأخير وغير المُعلن، هو بسط سيطرتها وهيمنتها ونفوذها على هذه البلدان اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا وحتى سياسيا. بل كانت تظن أن هذه السيطرة وهذه الهيمنة وهذا النفوذ سيدومون إلى الأبد ناسيةً أو متناسيةً أن سُنَّة الحياة هي "يومٌ لك ويومٌ عليك".

هذا هو ما نجح في ترسيخه العالمُ الغربي : تقسيم العالم إلى عالمين، عالم قوي بكل المقاييس وعالم ضعيف بكل المقاييس. والتطور والتقدم والتصنيع والتَّفوُّق العلمي والتكنولوجي…، عوض أن يكونوا وسائل للتقارب والتعايش بين البلدان وشعوبها، ليسوا إلا أسلحة للاستمرار في بسط نفوذه وهيمنته على العالم الضعيف. ضاربا عرضَ الحائط كل القيم الإنسانية وميثاق الأمم المتحدة والتصريح العالمي لحقوق الإنسان وما جاءت به الأديان السماوية مصداقا لقولِه سبحانه وتعالى : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…" (الححرات، 13).

العالم القوي لا يرى في العالم الضعيف إلا غنيمةً قابلةً للافتراس بينما العالم الضعيف يرضخ للهيمنة طمعا منه خَطوَ خطوات نحو التَّخلُّص من الضُّعف. ولكن، هيهات. العالم القوي لا يرى إلا مصلحتَه. وكل خطوة سمح بها للعالم الضعيف ليتخلَّصَ من ضُعفه، لا يهمُّه أن يؤدِّي هذا الأخيرُ ثمنَها مُضاعفاً. لقد أعمى الطمعُ والجشعُ بصيرةَ العالم القوي إلى درجة أنه لم يعد يرى في الأفق إلا ما يخدم مصالحَه ولا يهمه أن تغرقَ البلدانُ الضعيفةُ في ضُعفها. كما لا يهمُّه أن تجُرَّ ما ينتجه من تكنولوحيات ويلاتٍ له وللوسط الذي يعيش فيه. ولو أدَّت هذه التِّكنولوجيات إلى أكبر كارثة عرفتها البشريةُ ألا وهي تغيُّر المناخ الذي يهدِّد استمرارَ الحياة بما فيها حياة البشر.

ومع ذلك، لا تزال الأنانية الاقتصادية وحب الهيمنة هما سيد الموقف علما أن هذا التَّعنُّتَ يُبيِّن بوضوح أن الاقتصادَ أهمُّ من حياة البشرية. ومع ذلك، لا يزال العالمُ القوي لم يدرك أن ما حقَّقه من إنجازات ضخمة ليست هدفا في حد ذاتها وإنما وسيلة لإسعاد البشرية جمعاء، في حدود الممكن والمُتاح. و كذلك لإعمار الأرض إعمارا يتلاءم والقيم الإنسانية السامية من تعايش وتساكن وتعاون وتضامن وتسامح وتشارك وتقاسم… قيم لم تعد موجودةً إلا في أفكار العقلاء من فلاسفة ومفكرين الذين لم يستطيعوا، إلى حد الآن، إسماعَ نداءاتهم لمن يهمهم أمرُ تدبير شؤون البشرية جمعاء.

لا يَسَعُني إلا أن أقولَ : "كُلْها يَلْغِي بْلْغاه واللي زْلَقْ جَا عْلَى عَينْ قْفَاهْ"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى