عزت القمحاوي - في مطبخ ألف ليلة وليلة

لذكر الطعام ووصفه في أي عمل أدبي دلالات خاصة، وغالباً ما يكون في ذلك لتعزيز صدقية البيئة الحاضنة لمحتوى هذا العمل. وهذا ما يُمكّن النقَّاد والباحثين من تصوّر الأحوال الاجتماعية في تلك البيئة. أما في “ألف ليلة وليلة”، فللطعام أدوار ووظائف تتجاوز التوثيق، لتسهم في تعزيز الفانتازيا ومكانة الألغاز التي تصنع الفرق بين النص الساذج سريع التلف والنص الحساس الصالــح لحياة أطول.

إن مستوى الطعام من الفخامة والبساطة يكشف مستويات الغنى والسلطة، وتحوُّلات الأيام بالأبطال. ولكنه ينطوي على ما هو أكثر من ذلك.

في حكاية الحمَّال والثلاث بنات “قالت المرأة للحمَّال: هات قفصك واتبعني، وتوقفت أمام فكهاني، واشترت منه تفاحاً شامياً وسفرجلاً عثمانياً، وخوخاً عُمانياً، وياسميناً حلبياً، ونيوفراً دمشقياً، وخياراً نيلياً، وليموناً مصرياً، وأُترجاً سلطانياً، ومرسيناً ريحانياً.. إلخ”.

يمكن لهواة استخلاص الوثيقة الاجتماعية من كتب الأدب أن يتخذوا من قفص الحمَّال مرآة يطالعون فيها صورة البذخ البغدادي في العصر العباسي، وشكل الأسواق، وحركة التجارة بين مدن المنطقة. لكن الطعام لم يُقدم في الليالي لغرض التوثيق، بل لكونه جزءاً من السرد.
فعلى وجه العموم، تقوم وفرة الطعام في “ألف ليلة وليلة” بدور أساسي في توفير هذه المتعة للمحرومين من المستمعين/ القرّاء. وهذه هي الوظيفة الأبسط التي يقوم بها الطبخ في الليالي. لكنَّ هناك وظائف أخرى أهم من ذلك.
فالبذخ الذي يبدو من مشتريات المرأة المتسوّقة يثير فضولنا. هل تتسوَّق لبيت تاجر بالغ الثراء، هل تتسوَّق لبيت الخليفة؟ واضح أننا بصدد حفل كبير، ما طبيعته؟ ما المناسبة؟ ألا يوحي هذا النهم بحفل بهيج؟

ففي قصة ملك الجزائر السود، جاء في الحديث عن الزوجة الخائنة، أنها تأكل “عظام فئران مطبوخة”! فهل تبتغي هذه القصة تحقير المرأة أم الكشف عن غرابة النفس البشرية وقدرتها على التواطؤ؟
وفي بعض الحكايات يتقدِّم الطعام ليصبح رافعة سردية أساسية، تدفع بتطوِّر الحكاية وتقدِّم الحل لألغازها.

زبدية الرمان تجمع الشمل
في الليلة العشرين من هذه الحكايات، نتعرَّف على شمس الدين وشقيقه الأصغر نور الدين، وهما ولدا وزير في بلاط سلطان مصر. وعندما يموت الأب، يستوزرهما السلطان بديلاً عن أبيهما ليتناوبا وظيفته، ولكونهما في الحسن قمرين! (سندع هذا التلميح الذي ينسجم مع تلميحات أخرى في الليالي، حيث يكون الجَمَال خير شفيع). يبدو الشقيقان كروح واحدة في جسدين، وذات يوم يتحدثان عن أحلامهما للمستقبل، فيتعاهدان على الزواج في ليلة واحدة، ويسرحان بخيالهما إلى ما بعد ذلك؛ فيتصوران أن شمس الدين سينجب بنتاً، وينجب نور الدين ولداً. وفي الجلسة نفسها يتفقان على زواج الابن والابنة، ولكن نزاعاً ينشب بينهما على المهر. وإثر هذا الخلاف المثير للسخرية، يهجّ نور الدين من مصر غاضباً، ويستقر به المقام في البصرة وزيراً، وينجب ولداً يسميه حسناً يرثه في منصبه.
وينجب شمس الدين الفتاة في القاهرة، ويسميها ست الحُسن، وبعد أن تكبر يطلبها السلطان للزواج فيرفض والدها لفارق السن، فيحكم عليه السلطان بتزويجها لسائس عجوز أحدب. وفي ليلة زفافها تتعارف في سماء البصرة عفريتة عراقية وعفريت مصري، ويحملان على عاتقيهما تحقيق حلم الشقيقين. فحملا حسناً من البصرة إلى القاهرة، وتمكنا من حبس الأحدب في بيت الأدب، ووضعا حسناً مكانه في فراش العروس! حملت الفتاة من ابن عمها في تلك الليلة، وحمله العفريتان قبل الفجر لكي يعودا به إلى حيث التقطاه من فوق مقبرة أبيه في البصرة. لكنَّ شهاباً يعترض مسار الركب الطائر، ويُصاب العفريت بحروق قاتلة، مما يضطر العفريتة إلى وضع حسن على أحد أبواب دمشق. وعندما يطلع الصباح كان على حسن أن يتدبر عملاً ومأوى في دكان طباخ.

بعد تسعة أشهر تضع ست الحُسن مولوداً تسميه “عجيب” في إشارة لعجائبية ملابسات إنجابه. كان الأب معروفاً؛ لأن حسناً نسي عمامته، وكانت في بطانتها ورقة تحمل اسمه. وقد عرف شمس الدين في البطاقة خط أخيه نور الدين…
يتخلى السرد عن العجائبية ويرتد إلى واقعيته، وهذه مهارة في صنع العجائبي يمكن أن نتعلمها من مؤلفي ألف ليلة المجهولين. يبدأ البحث عن حسن بشروط الواقع. يتجهز عمه شمس الدين ويخرج مع ابنته «ست الحسن» وولدها، قاصداً اقتفاء أثر ابن شقيقه. يستريح الركب في دمشق، ويخرج عجيب مع خادمه للنزهة، ويشتري «زبدية حب رمان» لذيذة. ثم يستأنف الركب إلى البصرة ويلتقون بأرملة نور الدين تبكي ذكريات موت زوجها وفقدان ولدها. وتنضم إلى شقيق زوجها وابنته في محاولة بحث جديدة عن «حسن» عبر رحلة معاكسة. وأثناء الاستراحة في دمشق، يخرج الطفل عجيب ليشتري حب الرمان الشهي الذي أحبه في رحلة الذهاب. تتذوقه جدته العراقية، فتشهق وتسقط مغشياً عليها، وبعد الإفاقة تقول لهم “إن كان ولدي في الدنيا فما طبخ حَب الرمان إلا هو”!

فهي التي علمته أن يطبخ حَب الرمان، وقد عرفت صنعته في الزبدية التي جمعت شمل العائلة! لا يوجد وصف للطريقة التي صُنعت بها زبدية حَب الرمان المميزة إلى هذا الحد. غياب الوصفة هو الجزء المخفي الذي علينا أن نتخيله. لكنه طبق حلو كان معروفاً في الشام والعراق، ويُحضر من الرمان والعسل والمكسرات، وأحياناً القليل من النشا والفانيليا. ربما بوسعنا أن نضيف الحليب عند الطبخ وقشدة للتزيين بعد أن تبرد. الموز وزبدة الكاكاو. أشياء كثيرة ممكنة؛ فالطبخ عمل خيالي مثل كتابة الفنتازيا شرطه الأساسي أن يُصدِّق المبدع خياله لكي يستقبله الآكل باستمتاع واقتناع؛ لأن المتذوق يستطيع أن يكشف تردُّد الطباخ مثلما يميز قارئ النص العجائبي تردّد الكاتب فلا يُصدِّقه.

الرمان العجائبي
حبّاته تتحوَّل وحوشاً
تُكثر “ألف ليلة” من ذكر الرُمَّان ثمراً على الموائد وشجراً في البساتين ومجازاً لأشياء أخرى. وهذا طبيعي في نص يتمشى ذهاباً وإياباً بين خيال الجنة والواقع.
وإذا كان حَب الرُمان المطبوخ قد أكمل عمل الجن وأسهم في جمع شمل أسرة الشقيقين نور الدين وشمس الدين؛ فقد عاشت الفتاة العابدة في قصة عبدالله بن فاضل ثلاثة وعشرين عاماً لم تأكل فيها شيئاً سوى ثمرة رمان واحدة نيئة تطرحها كل يوم شجرة عجيبة. في القصة يتعرَّض هذا الرجل إلى غدر شقيقيه اللذين يحاولان التخلص منه بالقتل خلال سفرهم المشترك للتجارة وفي كل مرَّة يتعرَّض لمغامرات عجيبة ينجو بعدها. وفي إحدى مغامراته يدخل إلى مدينة ممسوخة لكفرها، ولم يبق منها على قيد الحياة سوى فتاة صدَّقت في دعوة الإسلام التي حملها إلى المدينة الشيخ أبو العباس الخضر، وقد زرع لها تلك الرمانة العجيبة التي أثمرت في التوّ واللحظة.
وبوسع حبات الرمان أن تتحوَّل إلى وحوش تتصارع. ففي حكاية الصعلوك الثاني ـ ضمن قصة الحمَّال والبنات ـ يحكي أن الرجل تعرَّض لسحر عفريت مسخه قرداً، ولكنه ظل محتفظاً بعلمه وحسن خطه، ووجده التجار أعجوبة فحملوه إلى ملك، ينادي ابنته العالمة بفنون السحر لترى القرد الكاتب، فتعاتب أباها لأنه أدخلها في وجود رجل غريب، وتحاول أن تعيده إلى هيئته البشرية، فيحضر العفريت في صورة أسد ويدخل معها في قتال عنيف، فتقتلع شعرة من شعرها تصير سيفاً، تضرب به الأسد فتشقه نصفين. ثم صار رأسه عقرباً وتحولت الفتاة إلى حية، وفي سلسلة التحوُّلات تلك يتحوَّل العفريت إلى ثمرة رمان تنكسر وينفرط حبها، وتتحوَّل الفتاة إلى ديك يلتقط الحب، لكن تشرد عنه حبة تقع في بركة الماء فتصير سمكة، فتصير الفتاة حوتاً.. إلى آخر العجائب التي تنتهي باحتراق ابنة الملك مع العفريت وإصابة الصعلوك في عينه.

وتبدو “الليالي” مشدودة إلى البحر لقدرته على توليد الأساطير أكثر من اعتنائها بقدرته على توليد الأسماك، والأسماك بدورها منذورة للعجائبية!

ثلاث تفاحات قاتلة
وتستأثر التفاحة، ثمرة الغواية والشقاء، بدور البطولة في الليلة التاسعة عشرة. فكانت الدافع إلى إثارة الشك المبرر والقتل. تبدأ الحكاية بالعثور على جثة صبية داخل صندوق أخرجته شبكة صياد. ويأمر الخليفة هارون الرشيد وزيره جعفر بحل لغز مقتل الصبية. وبعد سلسلة طويلة من الأحداث المشوّقة، نعرف أن قاتل امرأة هو زوجها، وابن عمها في الوقت نفسه. قتلها بسبب الغيرة والشك في وفائها له.
كانت الزوجة الشابة مريضة، واشتهت التفاح؛ فخرج الزوج في رحلة بحث شاقة عن التفاح.. وأين في غير بستان الخليفة يمكن أن تتحقق المعجزة؟! البستان على مسيرة يوم وليلة في الذهاب ومثلها في العودة. يتحمل الزوج العاشق عناء الرحلة وخطورة المغامرة، ويعود بالتفاحات الثلاث الأخيرة التي كان من المفترض أن تبقى على أشجارها من أجل الخليفة. وقد حصل عليها باستعطاف الحارس ورشوته.
تؤسس الرحلة لعقدة القصة، وتجعل الشك في سلوك الزوجة مقبولاً، عندما يتركها زوجها ويخرج إلى دكانه ويرى تفاحة بيد عبد يمر من أمامه. ولأنه متيقن من عدم وجود تفاح في المدينة إلا الثلاث التي حملها من بعيد، سأل العبد: من أين لك بهذه التفاحة؟ فأجابه أنها من امرأة قالت إن زوجها جلب لها ثلاثاً من بستان الخليفة بالبصرة، دفع فيها ثلاثة دنانير!
وينطلق الشاب إلى بيته غاضباً ليقتل زوجته ويضعها في الصندوق. وبعد هذا الاعتراف من القاتل، يبدأ الوزير في البحث عن العبد لاستكمال الحكاية. وباستجواب هذا الأخير يعترف بأنه خطف التفاحة من طفل في الشارع، وكان الطفل يتمسك بتفاحته، مستعطفاً العبد بقصة عناء والده في الحصول على التفاحات.

فنتازيا الأسماك.. طعام الفقراء
صندوق أخرجته شبكة صياد. ويأمر الخليفة هارون الرشيد وزيره جعفر بحل لغز على كثرة ما اشترت المرأة في قصة الحمَّال والبنات فإنها لم تشتر السمك. ولا نكاد نقع على وجود للسمك في ولائم ألف ليلة. وعلى الأقل، هو ليس طعام علية القوم، وليس طعاماً على الموائد. وما دام هناك صيادون في “الليالي”، فمن المؤكد أنه يؤكل. لكنه على ما يبدو كان طعام الفقراء، أو أنه أكلة خاصة حميمة لا تؤكل في جمع، مثل بعض الفواكه.

في حكاية الصيَّاد مع العفريت. يرمي الصياد شبكته فيخرج له قمقم بداخله عفريت. ويهم العفريت الغاضب بقتل الصياد لأنه كان ينوي أن يصب غيظه من الحبس الطويل على من ينقذه. وبعد مفاوضة يعفو عن الصياد ويدله على بحيرة بين أربعة جبال، ويأمره بأن يلقي شبكته فيخرج فيها أربع سمكات بأربعة ألوان، ينصحه بأن يذهب بها إلى السلطان، الذي يأمر بدوره جارية بإعداد السمك. فنظفت الجارية السمك ووضعته في الطاجن، ووضعت الطاجن على النار فإذا بحائط المطبخ ينشق وتخرج منه صبية جميلة، وفي يدها قضيب من الخيزران تغرسه في الطاجن وتصيح: يا سمك؟ هل أنت على العهد مقيم؟ فإذا بالسمك يجيبها ويُنشد شعراً:

إن عُدتِ عُدنا وإن وافيتِ وفينا
وإن هجرتِ فإنا قد تكفينا

عندئذٍ قلبت الصبية الطاجن. ولما أفاقت الجارية من إغمائها وجدت السمكات فحماً. ويتعجب الملك ويطلب من الوزير أن يأمر الصياد بجلب غيرها، ثم يأمره بأن يشوي السمك بنفسه قدامه، فإذا بالحائط ينشق مرَّة أخرى ويخرج منه هذه المرة عبد أسود ضخم، ويمضي السلطان وراء الصياد ليرى سر البحيرة ذات السمك الملوّن، ونعرف في النهاية أن الفتاة التي خرجت من الحائط ساحرة، وهي زوجة الملك الشاب ابن الملك محمود، ملك الجزائر السود.
لم تذكر القصة ماذا وضعت الجارية في الطاجن مع السمك، ولا بِمَ تبَّلته، كما لا نعرف كيف أعده الوزير، فلم تكن غاية مؤلفي الليالي الوصول بالسمكات إلى المائدة بل سحب السرد إلى البركة المسحورة والمدينة الممسوخة. وفي حكاية صياد بغداد، يذهب خليفة الصيَّاد ليصطاد السمك، وبعد عشر رميات غير موفقة، تخرج له الشبكة بالقرود، واحداً وراء الآخر!

أمن خيال أبعد من ذلك؟؟
كل خيالات السمك في الليالي جانحة؛ لكن أكثرها سخرية وجنوحــاً في أولى رحلات السندباد. تظهر جزيرة رائعة في عرض البحر. يتفق المسافــرون مع قائد المركب على الاستراحة في تلك الجزيرة، أخذوا يتجولون ويأكلون من ثمر أشجارها، وعندما بدأوا يطبخون، بدأت الجزيرة تتململ من الحرارة، ثم تحركت وأغرقتهم، ويكتشف السندباد الذي نجا، أنها لم تكن سوى سمكة ضخمة نائمة منذ قديم الزمان حتى تكاثف الرمل عليها ونبتت فيه الأشجار!


عزت القمحاوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى