ذياب شاهين - أسطورة الفحل الشعري بالتراث العربي(ج1)

(ج1)

حينما سأل لبيد بن ربيعة العامري وقد مرَّ بالكوفة عن أشعر الشعراء العرب فذكر لهم(1) ثلاثة وهم: الملك الضلّيل ويقصد أمرئ القيس، والغلام القتيل ويقصد طرفة بن العبد، والشيخ أبو عقيل ويقصد نفسه فقد كان يكنى بأبي عقيل، هذا بالنسبة للشعراء في عصر ما قبل الإسلام، وكان جرير يرى أن زهير هو أشعر أهل الجاهلية، وحينما سأله عكرمة ابنه عن أشعر الشعراء في عصره فقال: الفرزدق فهو نبعة الشعر، والأخطل فهو يجيد مدح الملوك ويصيب صفة الخمر، وحينما سأله: ماذا أبقيت لك يا أبي، أجاب: فأني نحرت الشعرَ نحرا، وفي الواقع فقد كان المهتمون بالشعر والنقاد القدامى يسيرون على ما كان شائعا من آراءٍ حول الشعراء ومستوياتهم، وكانوا متعجبين من مكانة عبيد بن الأبرص وطرفة فما وصلهم كان برأيهم غثاء وشعرا ركيكا لو استثنوا معلقتيهما، ولكننا نعرف اليوم أن للشاعر عبيد بن الأبرص قصائد كثيرة في ديوانه ويعتبر من أبرع من وصفوا الغيث(3) حيث بقول:
يا مــنْ لبــرقٍ قمتُ اليومَ أرقبُهُ في عارضٍ مكفهرِ المزنِ دلّاحِ
دانٍ مسفٍّ فويقَ الأرضِ هيدبُهُ يـكـادُ يـدفــعُـهُ مـن قـامَ بالراحِ
وبالطبع كلنا يعرف الجدل الذي لاتزال تثيره معلقة عبيد بن الأبرص وخروجها على بحور الخليل، ويفترض أنّها كتبتْ قبل الخليل، وكانت مقبولة في زمن بن الأبرص، لكن عندما ظهر العروض لم تستطعْ بحوره تأشيرها واستيعابها وغدت استثناء ومتمردة على قوانينها،َ بالرغم من أن العروضيين أعتبروها مكتوبة على مجزوء البسيط لكن بعض أبياته خرجت عنه لتفعيلات غير معروفة خليليا حيث نقرأ(4):
أقفرَ من أهلهِ ملحوبُ فالقطّبياتُ فالذنـــوبُ
فـراكسٌ فـَثـعيـلبـاتٌ فذاتُ فرقين فالقليبُ
وفي كتابنا قمنا بتحليل أبياتها وأرجعناها إلى دوائرنا العروضية ( الخامسة) وجوازاتها(5). أما طرفة فديوانه فيه الكثير من القصائد وقد وضعه ابن سلّام في الطبقة الرابعة من طبقاته، وقد قال عنه ابن قتيبة إنه أجودُ الشعراء قصيدة وله بعد المعلقة شعر حسن(6)، وعرفنا في أعلاه رأي لبيد به حيث عدّه من أحسن الشعراء الجاهليين. ولكن تبقى قضية الشعر الجاهلي تثير الكثير من التساؤلات، ولاحظنا في عصرنا الحديث كيف أنَّ الدكتور طه حسين قد أبعد الكثير من الشعر وعدَّهُ منتَحلا، ومنهم شعر أمرئ القيس والأعشى وزهير(7)، ولم يبرئ أحدا من الانتحال، فقد عزاهُ بأنه ظاهرة طبيعية نتيجة للعصبية في المجتمعات العربية باختلاف أديانها فالعرب المسلمون برأيهِ كانوا قد انتحلوا شعر (أمية بن أبي الصلت) ليثبتوا أن القرآن أفضل مما قاله أمية، وكذلك فقد انتحلتْ القبائل العربية اليهودية شعرًا للسموأل ومثلها فعلت القبائل المسيحيّة شعرا إلى عدي بن هانئ، وذلك لأن معظم الشعر قد فُقدَ ومات حافظوه نتيجة للحروب والفتوحات العربية، والكل كان يريد مجدًا وسؤددا من خلال الشعر وإن لم يكنْ لديها شعر أو كان لها وقائع وأيام تتذكرها(😎 وهو ذات الرأي الذي أورده بن سلّام، حيث يبدي عن الانتحال رأيا يقوّض الكثير من شعرنا الجاهلي حيث يقول(9): فلما راجعتْ العربُ الشعرَ وذكرَ أيامها ومآثرها، استغلَّ بعضُ العشائر شعرَ شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت أشعارهم ووقائعهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار فقالوا على ألسن شعرائهم، ثم كانت الرواة بعد فزادوا في الأشعار وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك)، وهذا يعني أن العشائر العربية انتحلت الكثير من الشعر بواسطة شعرائها والرواة وأضافته ويبدو لي أن هذا الرأي قد يكون صحيحا إلى حدٍ ما لكنه يبدو غير منصف فعدد الأبيات الجاهلية تعد بالآلاف ودواوين الشعراء الجاهليين كثيرة، فكيف يمكن لشاعر أو راوية انتحال هذا العدد الهائل من الأبيات ولصقه باسم قبيلة أو شاعر كامرئ القيس أو زهير، والسؤال ما هو الثمن لهذا الفعل، ولكن هل هنالك أدلة على ذلك يردُ ابن سلام دليلًا عن داؤد بن متمم بن نويرة، حيث يقول نقلا عن أبي عبيدة(10):( قدم داؤد بن متمم بن نويرة من البصرة فيما يقدم عليه البدوي في الجلب والميرة فنزل النحيت فأتيته أنا وابن نوح فسألته عن شعر أبيه متمم فقمنا له حاجته وكفيناه ضيعته فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويضعها لنا وإذا كلام دون كلام متمم وإذا هو يحتذي على كلامه فيذكر المواضع التي ذكرها متمم والوقائع التي شهدها فلما توالى ذلك عرفنا أنه يفتعله). ويبدو من هذه القصة أن ما قام به داؤد بن متمم هو عمل فردي وليس له علاقة بأمجاد قبيلته كما أن القصة تبدو لي غير مقنعة من الأساس فما الذي يجعل متمم يضيف شعرًا منتحلا على إرث والده وقصائده الخالدات وخصوصا تلك التي قالها في رثاء أخيه مالك.
ولو عدنا للدكتور طه حسين فهو يفصّلُ كثيرًا بما حدث في زمن التدوين ويعزو الانتحال والتزوير إلى أسباب عدة منه ما له علاقة بالسياسة والدين والشعوبية وعبث بعض الرواة واستهتارهم كخلف الأحمر بالبصرة وحماد الراوية بالكوفة، كم أن للفن القصصي دورًا كبيرًا في إدراج الشعر بالقصص، كما في ألف ليلة وليلة وإدراج ابن هشام لكثير من الشعر في معركتي بدر وأحد وتوزيعه على كثير من الشعراء المسلمين وغير المسلمين، وهو يرى أن هذا الكذب ليس موجودا عند العرب فقط بل عند الأمم الأخرى كاليونان وغيرهم حيث يقول(11): وقد قدَّمنا أن هذا الكذب والانتحال في الأدب والتاريخ لم يكونا مقصورين على العرب وإنما هو حظ شائع في الآداب القديمة كلها، فخير لنا أن نجتهد في تعرف ما يمكن أن تصح إضافته إلى الجاهليين من الشعر، وسبيل ذلك إلى أن ندرس الشعر نفسه في ألفاظه ومعانيه بعد أن درسنا ما يحيط به من ظروف.
والسؤال هو من هجَّن الشعر العربي وأفسدَه وباتَ لا يُعرفُ صحيحُهُ من منتحلِه، يقول ابن سلام(12):( وكان ممن هجّن الشعر وأفسده وحمّل كلَّ غثاءٍ محمد بن ابن اسحق مولى آل مخرَّمة بن المطلب بن عبد مناف، وكان من علماء الناسِ بالسير، فنقلَ عنه الناس الأشعارَ وكان يعتذر منها ويقول لا علم لي بالشعر إنما أوتى به فأحمله)، وابن اسحق هذا كان جدُّه(يسار) عراقيا مسيحيا من أهل عين التمر وتم سبي عائلته وأخذها للمدينة في 12 هجرية، فولد هناك في سنة 80هجرية، وهو أول من كتب السيرة النبوية في زمن العباسيين وأخذَ منهُ الكثير من بعده ابن هشام، وله كتاب المغازي، ولا شك أن العرب كانوا يبحثون عن كبش فداء لكي يحملوه فساد الشعر وهجنته واختلاط ما كان في زمن الإسلام وما قبله، فوجدوا بالموالي(ابن اسحق) من يحملوه هذا الوزر، ويسأل طه حسين مستفسرا: من الذي هلهل الشعر؟ فيجيب قائلا(13): هلهله الذين وضعوه من القصاص والمنتحلين وأصحاب التنافس والخصومة بعد الإسلام، وهو يشير إلى التنافس مابين مضر وتغلب، فما حصلت عليه مضر من جاه وشرف وسلطة بعد الإسلام أرادت ربيعة أن تخلق أسطورة لها قبل الإسلام عن طريق القصاصين وكومة المنتحلين وصيادي الجوائز الذين يرافقونهم في خلق الأساطير والبطولات العجيبة
وسبب تحميل ابن اسحق هذا الوزر هو أنه قد جاء بالكثير من الشعر لشعراء وشاعرات قدماء وصولا لعاد وثمود، وهذا غير معقول بالنسبة للعلماء العرب حيث احتجوا عليه بالقرآن الكريم عندما ذكر عاد: فهل ترى لهم من باقية، وقال أيضا:(وعادا وثمود ومن جاء بعدهم لا يعلمهم إلا الله)(14)، وهنا ندخل في بدايات اللغة العربية ومتى ابتدأت بوصفها لسانا مكتمل الملفوظات والخزين اللغوي فضلا عن النحو والإعراب، فالعلماء في زمن التدوين كانوا يعتقدون أن اسمعيل يتكلم العربية التي ورثها عن أبيه ابراهيم ولكنه نسيها بمرور الزمن، وهو أبو العرب ما عدا حمير وبقايا من جرهم، وبهذا يذكرون قول أبي عمرو بن العلاء: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا، وبالتالي فالعربية هي العربية التي نزل بها القرآن الكريم وهي لغة قريش. يتبع
الهوامش والمصادر
1- طبقات الشعراء- ص 42
2- م ن – ص 44
3- ديوان عبيد بن الأبرص- ص13
4- م ن – ص
5- العروض العربي بدلالة الرمز والنظام – ذياب شاهين- دار- الأردن- إربد- 2004-ص
6- ديوان طرفة بن العبد – ص8
7- في الأدب الجاهلي- ص96
8- م ن – ص100
9- طبقات الشعراء- م س – ص39
10- م ن – ص 39
11- في الأدب الجاهلي- ص136
12- طبقات الشعراء- م س – ص28
13- في الأدب الجاهلي- م س – ص167
14- طبقات الشعراء- م س – ص28





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى