ذياب شاهين - أسطورة الفحل الشعري بالتراث العربي(ج2)

(ج2)

هل كان فحول الشعر العرب يئدون بناتهم؟
من هو الشاعر الجاهلي الذي أنقذ أمه من الوأد؟

في الواقع نحن نعاني من وجود الوثائق المكتوبة لكي ندرسُ الماضي ومنه ماضينا الشعري، لأن ما وصلنا من وثائق تم تدوينها في العصر العباسي، ولم تعتمد على وثائق كانت مكتوبة قبلها بل على ما قاله الرواة والحفظة والإخباريون، وبالتالي ستكون الاستنتاجات أو محاولة لحم الانقطاعات التاريخية من قبل الدارسين صعبة وتقود إلى نتائج غير صائبة، وعن أهمية الوثيقة يقول ميشال فوكو(15): (إن الوثيقة كانت ضالة المؤرخين، استنطقوها وطرحوا بصددها تساؤلات، سألوها لا عما تريد أن تقوله فحسب، بل وعما إذا كانت تقول الحقيقة فعلا، وبأي حق تدعي ذلك، وما إذا تقول الصدق أم تزيفه)، وهذا يعني أن الوثيقة ذاتها تحتمل الصدق والتزييف، وهنا ستبرز أمامنا مشكلة ثانية هي كيف يمكن معرفة الحقيقة إذا كانت تحتمل الصدق والكذب في اللحظة ذاتها، وكيف نستطيع الإبحار من خلالها لبناء الأحداث التاريخية ولصق الوحدات الكبيرة بالوحدات الصغيرة ونحن في شك مما تقوله الوثيقة، وهنا يقول فوكو(16):علينا أن نخلص التاريخ من الصورة التي ارتضاها لنفسه زمنا طويلا، صورة ذاكرة عتيقة جماعية تستعين بالوثائق المادية لكي تستعيد الذكريات في حرارتها، واستثمار لمادة وثائقية من كتب ونصوص وحكايات وسجلات .... تقدم دوما وفي كل مكان وعند كل مجتمع، أشكالا تلقائية أو منظمة من البقاء).
وبالتالي فاستنطاق الوثائق الموجودة من الداخل لدينا سيكون مهما حول ما ورثناه عن أسطورة الفحل الشعري، لأنها لا تزال فاعلة في حياتنا الثقافية حتى اليوم حتى باتت مرضا مزمنا بالثقافة العربية، وكل شاعر معاصر يتصرف بكونه الفحل المنتظر الذي سيأتينا بالجديد والمغاير والمختلف، لذا نجد من الضروري تفكيك هذه الأسطورة لمعرفة الحقيقة أو إعادة بنائها بالشكل المقنع، وسنتناول هنا ظاهرة مصاحبة للفحل الشعري وهي ظاهرة وأد البنات المحزنة، يذكر الدكتور طه حسين عن أمرئ القيس نقلا عن الرواة(17): كان أمرؤ القيس يعرف بأبي وهب، وكان يعرف بأبي الحارث، ولم يكن له ولد ذكر وكان يئد بناته جميعا، وكانت له ابنة تسمى فاطمة ولم تكن ابنته بل بنت أبيه، وكان يعرف بالملك الضليل، ويكنى بأبي القروح)، ويظل يعدد الكثير من المسميات والكنى له، حيث يقف موقف المشكك منها كافة بما فيها وجود أمرئ القيس ذاته، ولأن أمرئ القيس هو أول فحل شعري أو هو من أوائل الفحول، حيث وضعه ابن سلام في الطبقة الأولى مع كل من (النابغة الذبياني والأعشى وزهير بن ابي سلمى)، فشكوك د.طه حسين قد تكون مبالغا فيها، حيث إن أمرئ القيس معروف قبل الإسلام وعند الشعراء الأمويين فالفرزدق يعتبره أشعر الشعراء ويكنيه بأبي القروح ويستشهد بالبيت التالي على شاعريته(18):
وقاهم خدُّهم ببني أبيهم وبالأشقيْن ما كان العقابُ
ولكن ما يهمنا هو ما ذكره الرواة بأنهُ قد وأد بناتهِ كلهنَّ كما أخبرنا د.طه حسين، وهو ما يجعلنا في حيرة من الأمر، ولو رجعنا لديوان أمرئ القيس سنجد مجموعة قصص وأساطير تنسجُ حول حياته، فهو ابن ملك كندة، وأراد والده أن يقتله لأنه كان يتحرش بنساء بني أسد ويهتك أعراضهن، وطرده أبوه، ليعاقر الخمرة والنساء والصعاليك حتى أن الأصمعي أنكر الكثير من شعره ونسبه للصعاليك(19)ومثله فعل الرياشي، وقد سفحت الكثير من الدماء بسببه نتيجة مطالبته بثأر أبيه، ولكن لم نقرأ شيئا في ديوانه أو في القصص المنسوجة حوله بأنه كان يئد بناته، بل بالعكس فهو حينما التجأ للسموأل في اليمامة كانت ابنته معه وأسكنت في قبة أدم وأعطي له ولجماعته منزل له براح حيثُ نقرأ التالي(20): فلما قدموا على السموأل، أنشده الشعرَ، فعرف لهم حقَّهم، فأنزل ابنة أمرئ القيس في قبة أدم، وأنزل القوم في مجلس له براح، فأقام أمرؤ القيس عنده ما شاء الله، ثم طلب منه أن يكتب إلى الحارثة بن أبي شمر الغساني بالشام ليوصله إلى قيصر ملك الروم، فاستنجد له رجلا واستودع عنده ابنته والأدراع، والمال وأقام معها يزيد بن معاوية ابن عمه، ثم سار امرؤ القيس مصطحبا معه عمرو بن قميئة)، ما يهمنا هنا أن أمرئ القيس كان له ابنة ولم يئدها، وكان يصطحبها معه وهو يبحث عن ملجأ آمن لها وله هربا من ملك الحيرة النعمان بن المنذر الذي كان يطارده، وحينما رحل إلى ملك الروم استودعها عند السموأل، وهذا العمل لا يفعله رجل يئد البنات، وبالتالي فمسألة وأد البنات تبدو ضعيفة.
ولكن من هو الشاعر الذي أنقذ أمه من الوأد، وهنا يرد علينا د.طه حسين قصة أخرى تتعلق بوالدة الشاعر عمرو بن كلثوم، وهو أحد شعراء المعلقات، وقد اصطحبته الأساطير قبل ولادته وصار أميرا على قبيلته بعمر الخامسة عشرة، وهو حفيد الشاعر المهلهل المشهور لأمه، وقصة مولده عجيبة وكأننا أمام ولادة نبي وليس شاعرا حيث يقول طه حسين (21): زعموا أن مهلهلا لما ولدت له ليلى أمر بوأدها فأخفتها أمها، ثمَّ نامَ فأتاهُ آتٍ، وتنبأ له أن ابنته هذه ستلد ابنا يكون له شأن، فلما أصبح سأل عن ابنتهِ فقيل له وُئدت فكذب وألح فأُظهرت له فأمر بإحسان غذائها، ثم تزوجت كلثوما فما زالت ترى فيما يرى النائم من يأتيها فيخبرها عن ابنها بالأعاجيب حتى ولدته ونشأته. قالوا وقد ساد عمرو بن كلثوم قومه ولما يتجاوز الخامسة عشرة.)، إذن نستنتج أن لدينا قصتين حول وأد البنات لحقت بأمرئ القيس وخاله الشاعر المهلهل، وقد أعطينا رأينا بقصة أمرئ القيس، وهنا في قصة المهلهل لا نعرف إذا كانت لديه بنات أخريات غير أم عمرو بن كلثوم قد وأدهن، والمهم أن عملية الوأد لم تحدث، وكأن القصة بأسرها أرادت أن تقول شيئا آخر لنا، وهو أن الشاعر الفحل قد أمر بوأد ابنته، وهذه العملية عملية الوأد كأنها عملية إخصاء رمزي للشاعر، فالفحل الشعري يجب ألا ينجب إلا فحلا شعريا مثله، وولادة البنت الأنثى هي في واقعها أخصاء فعلي للشاعر الفحل، وطعنا في فحولته، وكي ينقذ نفسه من ذلك فهو يئدها، ولكن لو قيض لهذه البنت أن تلد فحلا شعريا فسوف تنجو من الموت، ولكن كيف سيعرف أبيها أنها ستنجب فحلا مثله، هنا يتدخل كاتب الأسطورة وعن طريق دس الحلم لكي يُنبئ المهلهل بأن سبطه(ابن ابنته) سيكون فحلا شعريا، وهو فعل ذكي حقا من خالق الأسطورة، فأية هبة عظيمة هذه التي ستجيء بها الأقدار للشاعر وللقبيلة من بعده، وهنا سيجعلنا هذا التحليل، أن نربط بين ولادة الشاعر ونجاة المرأة من الموت، إذن فالقصيدة العمودية أنقذت المرأة من الموت، ورفعت من شأن القبيلة، التي تحكمها القوانين الغابرة من قوة ومآثر وتفاخر بين القبائل، وبالتالي سيتطلب الحفاظ على حياة المرأة مطلبا قبليا، على أمل أن تنجب إحداهن شاعرا، يرفع اسم القبيلة عاليا، وهذا على عكس ما قرأناه في ألف ليلة وليلة، فالمرأة الساردة (شهرزاد) هي من أنقذت بنات جنسها من الموت وخلصتهن من سيف شهريار الملك، وفي كلا الأسطورتين نجد فسحة زمنية لتأخير الموت عن المرأة، ففي الأولى يحصل التأخيرلفترة زمنية طويلة، بين ولادة المرأة وحتى إنجابها الطفل الموعود(الشاعر) الذي نبأت به الأقدار، وفي الثانية (ألف ليلة وليلة) كانت مدة التأخير قصيرة استغرقت ليلة واحدة أو يوما واحدا(22)، حيث كانت تؤجل شهرزاد موتها وموت بنات جنسها من خلال السرد يوميا، واستمرت على هذا المنوال لمدة ألف ليلة وليلة ليعفو أخيرا عنها الملك شهريار، وكأن الأسطورة كتبت بطريقتين من أجل إنقاذ المرأة من الموت في كل من العصر الجاهلي والإسلامي، وحدثت عملية استبدال لمكونات الأسطورة، حيث استبدل الأب (المهلهل) بالملك (شهريار) والابنة(فاطمة) أم الشاعر عمرو بن كلثوم بابنة الوزير(شهرزاد)، والابن(عمرو) بأبناء شهرزاد الثلاثة ليكونوا ورثة عرش أبيهم، وهنا لا بد من التنويه من تحريم الإسلام لوأد البنات(وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت)، وبالتالي فقدت الأسطورة أحد أركانها (المرأة) فقد وفر لها الإسلام الحماية ولو لم يتم التصريح بها، وكذلك تم تقويض سلطة الشاعر(والشعراء يتبعهم الغاوون)، وتم تعويض القبيلة أمجادا وسمعة وكذلك غنائم بمقدار ما ستقدمه للدين الجديد من مؤمنين ومجاهدين.

(يتبع)


المصادر والهوامش
15- حفريات المعرفة - ميشال فوكو- تر: سالم يفوت - المركز الثقافي العربي- بيروت - لبنان- ط2- 1987- ص 8
16- م ن – ص 9
17- في الأدب الجاهلي- م س – ص 145
18- طبقات الشعراء- م س – ص 41
19- ديوان أمرؤ القيس – ص 24
20- م ن – ص 17
21- في الأدب الجاهلي – م س – ص 170
22- لمزيد من المعلومات أنظر دراستنا (الأنساق الثقافية في ألف ليلة) في كتابنا الشجرة اللامعة –دار النخبة- مصر – القاهرةـ 2018- ص15

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى