علي دريوسي - سجائرنا

كنا نتعاشق مع سجائرنا في تلك الأيام والسنين
كنا ندخِّنها حتى لو كانت ملفوفة بالرَّوْث
كنا ندخِّن ونشرب حتى الإرهاق
بشراهة منقطعة النظير
كأنَّنا سنلتقي الله قريباً
وكأنَّ الفرج والفجر قادمان لا محالة.
كنا نعتقد أنَّ التغَنِّيَ بكؤوس العرق والتّغَزُّلَ بالسجائر
مقياسٌ للوعي السياسيّ
مقياسٌ للثقافة والإلحاد
لم نكن نعلم أنَّها ليست إلا مؤشراً
لفقرنا
وضعفنا
وضياعنا
وسَذَاجتنا
وجهلنا الصحيّ.
كنا ننفث دخان السجائر
بسخاء من فوق رؤوسنا
إلى أن تتحوَّلَ سماءُ الغرفة إلى غيوم بيضاء
نُغلق الأبواب والنوافذ
نبدأ بالدراسة
نحل مسائل الرياضيات والفيزياء
نشرب الشاي الأسود أو منقوع المتَّة
نسعل ونتنحنح
والغيوم تحيط بنا
لم نكن نشعرُ بعفونة الرائحة وفساد الجوّ
نخرجُ من الغرفة فقط كي نتبوَّل
كان طقس التدخين ساحراً
أكثر متعة من السيجارة نفسها
كل من تعرَّفنا إليهم في الأوساط
العاطفية والصداقية والاجتماعية والسياسية
كانوا من أتباع السجائر الجاهزة
أو من عبدة اللّفائف البلدية
حتى أساتذتنا في المدارس والجامعات.
كنا ندخِّن كأننا فوهات براكين ناشطة
كنا ندخِّن كطفل أضاع أمه لسنوات عديدة ثم وجدها
كنا ندخِّن كطفل يلتصق بفستان أمه خوفاً أن تفارقه ثانية
كنا ندخِّن كأي مدمن على الكوكايين
كنا ندخِّن ونشرب
إذا فرحنا
إذا حزنا
إذا استمنينا
إذا نمنا
إذا حلمنا
إذا استيقظنا في الصباح الباكر
أو إذا أفقنا من النوم في الليل العميق.
كنا ندخِّن ونشرب
إذا أحببنا
إذا بكينا
إذا تألمنا
إذا طبخنا
إذا شربنا
إذا أكلنا
أو إذا رأينا منظراً خلاباً.
كنا ندخِّن ونشرب
إذا سمعنا أغنية تحاكينا
إذا سمعنا فيروز في الصباح
الشيخ إمام في النهار
أم كلثوم وعبد الوهاب في المساء
أو إذا سمعنا موسيقى نينوى منتصف الليل.
كنا ندخِّن ونشرب
إذا صعدنا الجبل
إذا تنزهنا في الحقول
إذا لامست أيادينا غصن شجرة زيتون أو تين
إذا استنشقنا هواء عليلاً
أو إذا غنينا المواويل والعتابا الحزينة.
كنا ندخِّن ونشرب
إذا مشينا في المدينة
إذا جلسنا في تاكسي أو في مقهى
إذا تناقشنا في السياسة
أو إذا تكلمنا عن العالم والله والحياة.
كنا ندخِّن ونشرب
إذا قرأنا قصة
أو كتبنا خاطرة
إذا حضَّرنا للامتحان
أو إذا أنهيناه بنجاح أو فشل.
كنا ندخِّن ونشرب
إذا بكت السماء
إذا أشرقت الشمس
إذا فكّرنا بمصروفنا الشهري
أو إذا مات أو اِعتُقِل أو عُذّب أحد معارفنا.
كنا ندخِّن ونشرب
إذا تخاصمنا مع أحدهم
إذا خطب أو تزوج أحدهم
أو إذا فارق أو انفصل أحدهم عمّن يحب.
كنا ندخِّن ونشرب
حين نركب في السرفيس جانب السائق
حين نصطاد السمك أو العصافير
حين نسبح
حين نغرق
حين نحضر مباراة كرة قدم
أو في الاستراحة بين شوطين حين نلعب.
كنا ندخِّن مع فنجان قهوة الصباح
في السرير
في الحمَّام
في المرحاض
وكنا ندخِّن حتى عندما لا نفعل أي شيء.
كنا ندخِّن ونشرب
حتى إذا وقعنا في المرض
عشقنا اللِّفَافة
كانت صديقتنا الوحيدة
كنا نتعمَّد نسيان علبة الكبريت
كي نشعل السيجارة من مؤخرة الأخرى.
كنا ندخِّن ونشرب دون اِستخدام فرشاة ومعجون الأسنان
دون زيارة الطبيب
ودون ممارسة الرياضة.
كان كل شيء مُخربَطاً ومضطرباً وتافهاً في تلك الأيام
لم نشعر بالخربطة والاضطراب والتفاهة
كنا نعيش في رحمها
كنا نجد في التدخين باباً آخر
نلج منه إلى عوالم أخرى مختلفة
نشعر معها أن صدورنا سعيدة رحبة ومنفتحة على العالم.
كان يؤلمنا لدقائق ما نسمعه عن السرطان
وعن موت الآخرين بسبب تعاطي السيجارة
لم نهتم للأمر حقيقة
كنا مازلنا في ريعان شبابنا
كنا نشعر أحياناً
/في ظل الضغوط النفسية التي عشناها/
أنَّ السيجارة هي الوحيدة القادرة
على إخراجنا من مستنقعنا
هي الوحيدة القادرة
على إنقاذنا من آلام صدورنا
ورؤوسنا
التي كانت على وشك الانفجار
بفعل الأزمات
/الاِجتماعية والمالية والإنسانية والوطنية/.
كانت السيجارة بالنسبة لنا كسمكة الكهل سانتياغو
في رواية الشيخ والبحر لهمينغواي
نغازلها في سهراتنا
كما يغازل العجوز سمكته التي تبتعد عنه
نخاف أن نسحبها بعمقٍ كي لا تنتهي
كما يخاف العجوز أن يسحبَ سمكته
فينقطع الحبل وتهرب منه.
كنا في تلك الأيام على استعدادٍ
لتدخين أوراق الشجر
أو العشب الملفوف بأوراق الدفاتر المدرسية
وكنا غالباً
ندخِّن روْث الحيوانات
دون أن ندري.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى