دعاء زيان - قمم عالية..

انقلب البيت رأسا علي عقب، أبي تأنق فوق العادة ، منذ دقائق يهرول في كل شبر غير مبال لمرض الروماتيد اللعين الذي أتلف عظامه ، عيناه زائغة ،يفتح الأدراج ويغلقها بشكل عشوائي مريب ، لا يرد علي سؤالنا بما خطبه، أقتربت منه ،ربت علي كتفه، هب فزعا قائلا بصوت يملؤة الحشرجة:
- أين هي؟
سألته بصوت حان:
- ماهي؟
أجاب بعصبية مفرطة:
- النظارة الطبية؟!!
أمسكت بطرفها وأنا أقبل خده الأيمن ،إنها هنا تقف علي ثقبي اللؤلؤ البنيين حبيبي

هدأ ، أبتسم إبتسامة واسعة كشفت عن أسنانه التي ما زالت صامدة رغم تدخينه الشره للتبغ، احتضنني بهدوء ، وقال بنبرة يملؤها حنان الكون:
-أنت تعرفين أننا في يوم غير عادى ،الارتباك وصل مني مبلغه.

اليوم هو حفل تكريم الأباء والأمهات المثاليين التي عقدته وزارة الثقافة ، حفل شجي ضخم سوف يجمع كل من بذلوا حياتهم
في سبيل العطاء لاطفالهم بعد فقدان شريك الحياة.

فقد توفت والدتي الحبيبة في المخاض ،تركتني وذهبت للقاء الله قبل أن أشعر بضمة صدرها أو حليبها الدافيء، صمد أبي دون زواج لعشرة أعوام ، يرعاني وإخوتي دون كلل، نهشته الوحدة وزادت الأحمال، هو يأبى كل عرض بعروس، خوفه يزداد من سطوه زوجة الأب وقسوتها علي الأيتام ،حتي رأيته ليلة يبكى في أحضان جدتي رحمها الله ،يخبرها إنه لم يعد يستطع التحمل ، فهو ما زال إنسان، رجل كباقي الرجال، يحتاج وليفة تحنو ،تسمع وتواسي بل وتحبه وتحوي ألامه وأوجاعه بين ذراعيها.

بالرغم من صغر سني ورفضي لوجود سيدة أخرى تحتل مكانة أمي الفقيدة في قلبه وحياتنا جميعا إلا أن دموعه ارضختني، أخبرت أخوتي بما حدث، رفضوا، إلا أني ورغم أنى أصغرهم،أوجدت مائة حيلة حتي استجابوا ووافقوا.

ذهبنا إليه وأخبرناه برغبتنا في زواجه، دهش وقال ويعلو علي وجهه علامات التعجب:
- أتزوج؟ لماذا؟
قلت ممازحة :
- أريد زوجة تجيد الطهى ،تتفنن في المحمر والمشمر
أكمل أخي يوسف:
- وتجيد الخياطة ،القميص الأزرق يعاني من كبر حجم الغرز التي وضعتها به يا أبي
أما أخي مروان وهو الكبير بيننا
قال وهو يضع يده علي كتف والدي :
- أريد أما تصنع من القبلات والضمات حياة

لم يتمالك أبي دموعه، احتضننا دفعه واحدة بكلتا يديه،قال:
- إذن فالخيار لكم، أنا موافق ،
اختاروها صالحة حتي يسكن معها المنزل ونسكن لجوارها.

بحثنا في كل المعارف، طال البحث ، حتي وجدها مروان ، أم صديقة الأرملة، سيدة عطوف ،
صوتها يتسرسب للروح فيروي ظمأها ،تزوجا في أسبوعين، ،أنجبت أخي الصغير ياسين الذي جمع قلوبنا ولم شملها.

وصلنا للقاعة،المكان مكتظ ، صخب هائل، وجوه مألوفة، هناك في أقصي اليمين الأستاذ ذكي معلمي في الصف الأول، رجل تشع الهيبة والوقار من ثناياه،
اغدق علينا بعلم وافر دون غلظة، مع أنه لم ينجب إلا انه كان نعم الأب الحليم علي تلاميذه ،بجوارة دكتورة فاطمة طبيبة الأطفال في بلدتنا، تلك السيدة لا تنسى ، كانت تداوينا بالحنو واللين قبل العقاقير، توفي زوجها وهي عروس بعد شهرين من الزفاف وتركها وجنين ينمو في أحشائها ، تحملت مشقة الرحلة وحيدة دون زواج آخر ولها أسبابها التي لا نعلمها.

أما عن أستاذ رجب معلم التربية الإسلامية ذلك الرجل لن يتكرر في ذلك الزمان ،أرشدنا لمباديء الدين الحنيف دون تشدد أو تعنت ، ومع كل ذلك اللين والتدين إلا أنه لم يوفق في زيجاته ، أم أبنائه تركه وسافرت بعقد عمل للخارج ،تزوج بعدها مرتين ، كل مرة زوجته تتشاجر مع الصبيان أبنائه فيطلقها، حتي آل بيه الحال وحيدا في خريف العمر وزوجته أم الصبيان ما زالت تكنز المال في دولة عربية شقيقة.

جذبني إلي عالمي صوت الميكرفون وقد أرتفع مدويا في الأجواء، بدأ التكريم ، تصفيق حاد، رجال غزا الشيب رؤوسهم فزادتهم ضياء ووقار، ونساء تنبثق منهن رائحة العطف والحنان ، في صوتهم وكل حركة من أجسادهن، جاء دور أبي اعتلي المنصة، بعد تكريمه طُلب منه أن يلقي كلمته الشهيرة فقد كان إعلاميا شهيرا طوال حياته، أمسك الميكرفون،نزل سلمتين ووقف أمام الحشود، دار بعينه وتبتسم ابتسامتة الهادئة
وقال بصوت إعلامى يجذب المستمعين :
- منذ الصغر كنت أبجل الكبار، أراهم قمم عالية، لا تهتز مهما عصفت بها الحياة، كل خصلة من ذلك الشعر الشائب برؤسهم تحكي تجارب وخبرات أعوام مضت، تحوي عبق الزمن وأفعايله بهم ،أنا الآن وكل الموجودين أصبحنا منهم وأتمنى أن نكون كذلك وترونا كما رأيناهم يوما.

علا دوي التصفيق ، هز جدران القاعة، هببت واقفة، أصفق بحرارة والدموع تنهمر من عيني كالشلال.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى