د. كاميليا عبد الفتاح - ظاهرةُ اللغة الدَّارجة في الشعر العربي المعاصر .

عرف الشعرُ العربي - في العصر العباسي - ظاهرة اللغة الدارجة – أي لغة الحياة اليومية - على يد بعض الشعراء البارزين ، ومنهم بشار بن برد ، وأبو العتاهية ، الذي كان مغرماً بتضمين قصائده كلمات الباعة الجائلين . وقد اعتُبرِ هذا التضمينُ- وقتئذٍ - ظاهرةً شعوبية ، تهدفُ إلى هدمِ كيانِ اللغة العربية – وإزاحتها من اهتمام الشعراءِ واستعمالهم – ومع ذلك لم يأخذ هذا المسلكُ الحيز الكافي من الاهتمام النقدي ، لأنه انحصر في بعض المبادرات الفردية ، بما لم يمثّل خطرًا على لغة الشعر ، وهويته العربيّة . وقد اختلفَ الأمرُ في الشعر العربي المعاصر ، حيثُ اتّجهَ الشعراءُ إلى استعمالِ لغة الحياة اليومية - منذ مطلع الخمسينيات من القرنِ الماضي - مدفوعينَ بكثيرٍ من المؤثّرات الثقافية – الغربية - التي غيَّرت مفهومهم حول " شعرية اللغة " ، بما جعلهم يُدركون إمكانية اتّسام لغة الحياة اليومية بالشعرية ، وإمكانية اعتبارها لغةً مشحونةً بطاقاتٍ دلالية هائلة تُمكّنها من التعبير عن التجربة .
وقد أدّى هذا الإدراكُ الجديدُ إلى انتقالِ لغة القصيدة العربية المعاصرة إلى مُعجمٍ لغويٍ مُغايرٍ في طبيعته ، وثرائه الدلاليّ ، ومصادر شاعريته .
وقد تزعم شعراءُ الاتجاه الواقعي الدعوة إلى إطلاق حرية الشاعر في انتقاءِ مفردات قصيدته من لغة الحياةِ اليومية ؛ واستندوا في هذه الدعوةِ إلى المبدأ الدَّاعي إلى ضرورةِ الانسجام بين الشعر والواقع . وقد أطلق الشاعر صلاح عبد الصبور على هذا الوعي اللغوي - الجديد - مُسمَّى "الجسارة اللغوية" ، مؤكداً عدم مساس هذه الجسارة بأصولِ الفن الشعري "ومؤكداً في الوقت ذاته تفجر هذه الكلمات (المألوفة) –وغير الشاعرية في ظن الكثيرين- بالدلالات والإيحاء والقدرة على التصوير إذا ما وضعت في مكانها المناسب( ).
وقد اتسقت دعوة الشعراءِ الواقعيين - إلى ضرورة الاستعمال الشعري لللغة الدارجة - مع جوهر اتجاههم الواقعي – وهو تصوير الواقع كما هو ، لا كما يجب أن يكون - كما ناسبتْ اهتمامهم بطبقة البسطاء التي تنتمي إليها هذه اللغةُ ، بما ينسجم مع مبدأ "الصدق" الذي دعا إليه الواقعيّون في طليعة حياتهم الشعرية .
كذلك تأثّرَ أصحابُ الاتجاه الواقعي في دعوتهم - إلى اعتبار لغة الحياة اليومية لغةً شعريةً - بدعوة الناقد ت.س اليوت إلى ضرورة استعمال لغة الحياة اليومية ، والابتعاد عن اللغة المجنحة . وقد انعكسَ هذا التأثّر في آراءِ كثيرٍ من الشعراء المعاصرين ، ومنهم صلاح عبد الصبور ، حيثُ يقولُ : "إن الشعر لا قاموس له، وإن الشعر الحديث في العالم كله قد تجاوز منطقة القاموس الشعري منذ أمد ليس بقريب"( ).
وقد أدَّت هذه المؤثراتُ إلى انفتاحِ المجال أمام شعرائنا للتجريب اللغوي- بعيداً عن المعيار النوعي التقليدي الذي كان يقيس اللغة بفخامتها وجدتها - فأفادَ شعراؤنا المعاصرون من جسارة" اليوت " في استقطاب كلمات العامة " مثل : التايبست وعلب الصفيح والغسيل المنشور والأطقم الداخلية والجوارب والشباشب والمشدات، و( هم ) يؤكدون أن هذه الكلمات هي الكلمات الفريدة التي تستطيع نقل الصورة التي هدف إليها الشاعر"( ) .
وقد تراجعت نظرية "اللغة الشاعرة" واللغة "غير الشاعرة" في حد ذاتها وأصبحت صفة تُطلق على المفردات في قلب التجربة- لا خارجها - وأكد الشعراء العاصرون أن الشاعرية - أو الشعرية - "حالة" تلحقُ بعناصر التجربة كافة ، بما يتضمنُ اللغة داخل التجربة ، وأن هذه الشاعرية ليست طبيعة دائمة تتمتع بها بعض المفردات دون غيرها .

* من كتابي " خصائص التشكيل الفني في القصيدة العربية المعاصرة " ،دراسةٌ تحليلية في أساليبُ الأداء اللغوي ، وأنواع الصورة الشعرية ، وأنماط الإيقاع ، وبِنيةِ القصيدة . " . دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ، الإسكندرية ، مصر ، عام 2017م .

** تم تدريس الكتاب للفرقة الرابعة بكلية التربية بجامعة الإسكندرية ، والفرقة الرابعة بأكاديمية السادات بالمنوفية .

د. كاميليا عبد الفتاح



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى