علي حسن - شارع الدواسة الجزء (3) الموصل - أم الربيعين

(3)

كانت الدواسة في ذلك المساء، كعادتها في كل مساء، تتلألأ بمصابيح محلاتها الجميلة، مطاعمها الأنيقة، فنادقها الشهيرة، مبانيها التي لا تزيد عن طابقين أو ثلاث طوابق حين تجور في الارتفاع.
هواء الشارع المنسق مُعبأ برائحة الشواء، تنبعث من "مطعم ومشويات كوسينچق" الذي يقدم ألذ مشويات وكفتة، مع طبق التِمِّن العنبري (أرز)، محلات بيع المخللات الموصلية الشهيرة برائحتها المنعشة، خليط من الكرافس والثوم والخل يثير شهيتك، عصائر العنب الأحمر (شَرْبَّت) والچايخانة التي تقدم الچاي (الشاي) في استكانات صغيرة، ومشروب الحامض الساخن (ليمون مجفف شتوي لذيذ الطعم، رائع النكهة).
الدواسة؛ شارع يعكس عشق المَوصِليين بفن التمثل والسينما، به عشرات من دور السينما. كنت غلامًا قادمًا من مدينة صغيرة، ليس فيها سوى سينما وحيدة، هي سينما "النصر" انتظر يوم الأحد، لأطوف مع "عم زُعرُب" كي أساعده في تعليق أفيشات الأفلام، كان يطوف شوارع المدينة الصغيرة يحمل سُلمًا خشبيًا، وجردلًا به الصمغ والفرشاة.
كنت أتبعه أينما ذهب، حاملًا له الأفيشات؛ أعرف متى يقف ويضع سُلمه، عند "رأس كل حارة".
يبدأ زعرب رحلته كل أحد، في العاشرة صباحًا؛ يصعد على درجات السلم مستندًا إلى جدار بيت ذي موقع متميز ومعلوم. ينزع الأفيش القديم، ثم يضع الغراء على الحائط، فأسلمه أفيش الفيلم الجديد.
بعد سنوات؛ تحولت سينما "النصر" في نهاية التسعينيات إلى صالة أفراح! ثم صارت في غضون عدة أشهر إلى قهوة بلدي، تقدم الشيشة للعاطلين عن العمل!
في الدواسة؛ لفت انتباهي أن أغلب دور السينما تحمل أسماءً لا أعرفها، ثم بعد الالتحاق بالصف الثاني المتوسط (الإعدادية) حدثت لي طفرة عظيمة في حجم المعلومات والثقافة! كان التعليم في العراق مجانيًا تمامًا، يُسلمون الطلاب زيًا مدرسيًا فاخرًا وأنيقًا جدًا، يشبه ثياب الكشافة، لونه "كاكي" مع أدوات مدرسية. دستة أقلام رصاص، علبة أدوات الهندسة قيمة، مطبوع عليها خريطة جغرافية للوطن العربي بلا حدود أو تقسيم، إضافة إلى مجموعة كبيرة من الكراسات والكشاكيل الفاخرة، تحمل صورة الرئيس صدام حسين، وشعار حزب البعث العربي الاشتراكي" أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" ما زلت أحتفظ بعددٍ منها.
تعلمت في المدرسة تاريخ العراق القديم، تاريخ الدولة العربية الإسلامية، تاريخ العرب في الأندلس، حينئذ عرفت أن اسماء دور العرض ما هي إلا مدائن كانت ملء السمع والبصر، كذلك اسماء أعلام من التاريخ العراقي القديم، يسجلها بأحرف من نور.
في شارع الدواسة، حين تتجه ناحية "دواسة خارج" تجد عشرات السينمات، سينما سميراميس، سينما وكازينو قرطبة الصيفي والشتوي، سينما طليطلة، غرناطة، الأندلس، أمامها ناحية اليمين سينما أشبيلية، والفردوس، ثم سينما الجمهورية.
نهاية شارع الدواسة، ناحية اليسار؛ عند التقاطع مع شارع "الدواسة خارج" تحتل سينما حمورابي ناصية الشارعين، يزين واجهتها العريضة من الناحيتين، مصابيح النيون تضيء أفيشات الأفلام الحديثة.
لا يقتصر وجود السينمات في العراق على شارع الدواسة، بل تنتشر في أغلب الشوارع الرئيسة، مثل "سينما النجوم" في شارع حلب، سينما "الحمراء"، "أبو نواس"، " عمر الخيام" في شارع العدالة.
كان والدي -رحمه الله- على علاقة طيبة بصاحب سينما حمورابي، الذي لمحه من بعيد، فجاء مُرحبًا.
أخبره والدي أني أعشق السينما، فقال لي:
"ادلل علاوي؛ هلا بيك عيني، هسة تدخل، وإيش وقت تحب تعال. لا تدير بالك على تذاكر، هلا بيك أبو حسين."
ثم أشار إلى موظف التذاكر واضعًا يده على رأسي: "يا معَّود (يا راجل).. ماكو (مفيش) تذاكر لعلاوي. تفتهم؟"
أجابه الموظف: "سيدي.. يتدلل، عيني الثنتين".
بعد هذا اللقاء؛ صار شارع الدواسة المنفذ الأقرب والأسهل للفسحة والترفيه، ومتابعة الأفلام الجديدة.
كانت سينما حمورابي تعرض الأفلام الأحدث والأنجح، كونها سينما "خمس نجوم" مثلها كانت دور العرض القريبة منها.
لست أنسى ما حييت، الزحام العجيب أمام هذه السينما أثناء عرض فيلمي "القادسية" و "أهل القمة".
الفيلمان بطولة عزت العلايلي وسندريلا السينما العربية "سعاد حسني" التي كان يعشقها العراقيون إلى حد الهوس!
في ذات الوقت؛ كانت سينما غرناطة تعرض أفلامًا أجنبية، على الناحية المقابلة لها تعرض سينما أشبيلية أفلامًا هندية، بينما تخصصت سينما الأندلس لعرض الأفلام العربية الحديثة.
في الدواسة؛ قابلت مصريين، عاشوا في رغدٍ من العيش، أكلت من مطعم فلافل بدر، قابلت مع والدي عم "صبري الدمنهوري" كان رجلًا بشوشًا، صاحب أشهر مطاعم الدواسة، وحلقت شعري مع والدي وأخي الأصغر عند محمد نوري "اللبناني". دفع والدي ساعتئذ مبلغًا كبيرًا من المال "دينارين" لذلك كانت المرة الأولى والأخيرة!
بعد عدة أشهر؛ تعودت على الطريق، ألفته وألفني ذهابًا وإيابًا إلى مدرستي، شعرت بعدها أني في حاجة إلى اكتشاف شارع الدواسة وما فيه من دور العرض السينمائي، دون الحاجة إلى مرافقة أبي.
احترفت الترحال والاستكشاف؛ فكانت هوايتي الأقرب إلى قلبي هي البحث والاستقصاء واكتشاف دروب وأزقة الموصل، التي عشقتها. مع الطواف والترحال، ومغامرة مرهق غرير، وقعت في عشق السينمات التي تعرض أفلامًا دون قطع أو رقابة، فصارت إدمانًا.
ينتهي اليوم الدراسي في الواحدة والنصف ظهرًا؛ أعود إلى البيت ممسكًا بيد أخي الأصغر، أسلمه لوالدتي، أضع حقيبتي، أنطلق نحو شارع العدالة، حيث سينما "الحمراء" التي تعرض أفلامًا درجة ثالثة، مكسيكية وأمريكية!
بعد انتهاء العرض أنطلق إلى البيت قبل عودة والدي؛ مرت الأيام دون أن يعكر صفوها اضطراب؛ تركت خلالها السينمات الراقية، ذات الخمس نجوم، حمورابي وأشبيلية وغرناطة، وتفرغت تمامًا لسينما الحمراء! حتى جاء يوم رجعت فيه إلى البيت بعد مشاهدة ممتعة، فإذا بأبي يجلس بجوار باب الشقة ينتظرني، يدخن سيجارته بنهم. حملق في وجهي، رأيت جفن عينه اليسرى يتدلى لأسفل، يكاد يحجب الرؤية عن عينه! يبدو في شراسته أسدًا جائعًا! يشبه في تربصه ورغبته في الانقضاض عليَّ الفنان زكي رستم في فيلم "رصيف نمرة ٥".
ضاعت حروف اللغة، جف لساني، انتفض قلبي حتى تهاوى على الأرض فلم أنتبه! حملقت مرعوبًا في عينيه الواسعتين اللامعتين كعين الذئب، دون طائل حاولت أن أرطب شفتيَّ ولساني بلعاب لم يعد له وجود!
سألني: "كنت فين؟"
- كنت في شارع القرطاسية (النجفي)
- في القرطاسية ولا سينما الحمراء؟
لم أعد قادرًا على الصمود؛ تخلت عني قدماي، وفرت الأرض من تحتي، كأني أقف فوق بركة ماء.
كدت أسقط مغشيًا عليَّ، لكنه التقطني بأنامله، جذبني إلى صدره، أحاط عنقي من الخلف بكفيه، قال بصوت عالٍ رغم أنه يغمس شفتيه في أذني:
"كل خطواتك بتوصل لي.. وعارف كل تحركاتك!"
خاصمني والدي أيامًا! رفض أن أجالسه وقت الغداء! كان عقابًا أليمًا، جعلني امتنع عن ارتياد سينما الحمراء حتى رحلنا عن الموصل عام 1982.
استبدلت شارع الدواسة بشارع خالد بن الوليد الذي نقطن فيه، ثم تدريجيًا اجتزته إلى شارع القرطاسية (النجفي) الذي يعج بالمكتبات، ومحلات بيع الأدوات المدرسية والطوابع النادرة والمقلدة.
شَعُرَ أبي بأني تغيرت للأفضل، فعاد إلى سابق عهده معي، يضحك ويداعب في لطف، غافرًا ذلتي، لكني إلى الآن لا أعرف مَن كان ينبئه بكل خطواتي!

(يتبع)
علي حسن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى