حميد الهاشم - يا سيدي.. كنّا نلعب

الرابعة عصراً يجيئون ،
بتوقيت لا أعرف متى رحلوا.
ببجامتي المقلّمة وقميصي السمائي _ آخر ما اشتراهُ أبي لي قبل أن يتلاشى في المجهول _؛ عبرت شارعا ، شارعين ، حزمة شوارع ، وبضعة قطاعات من أحياء شعبية ، كي ألتقي..كي ألتحق..كي أنضمّ إليهم.
نعم، ألتقيتُ وأنضممتُ.
منذ الطفولة ، أدمنت اللقاء بهم كما أدمنوا اللقاء مع أنفسهم ، يتضاحكون ، يتصايحون ، يركضون خلف الكرة..هيا أعطني... اضرب لي..هيا..هيا. أنت.. لاتعرف اللعب...هيا..هيا..
عبرت شارعا ، شارعين ، حزمة شوارع،وبيوت شعبية متلاصقة.
لا، لم ألتقِهم هذه المرة، ولم أنضم إليهم.
ماذا حصل ؟!
تم اختفائهم ؛ ومن كل شيء.
ماذا سيفديني لو عبرت كل شوارع المدينة وميادينها وبيوتها ولم أجد إلاّ بقايا ضحكاتهم وبرائتهم محنطة داخل ذلك الملعب الترابي، له مرميان من صفائح التنك، تتوسطه شجرة كاليبتوز عالية ، لم نكن نعلم حكمة وجودها بيننا ،أو لِمَ اخترنا ملعب تتوسطه الفارعة الطول تلك.؟
لم نكن نعرف أصلا من جاء بها وزرعها هنا مع ذكرياتنا.
أتراني عرفتُ الحكمة ولكنها تأخرتْ ،كما تأخرتُ أنا كثيراً..ستظّل حَكَماً بيننا مدى الحياة.
أم تظل شاهدا لنا.
الآن وقد عبرتُ.. وعبرتُ..مرةً ومرتبن.. وأنا أعرف أني لم أجد غير الصدى ، هو من يحركني ويجذبني إليهم وأنا لا أعرف أين هم الآن.
كلا الفريقين قد أُعْتِقلا ،مَن لا شائبة في وطنيتهِ ومَن لا وطنيةَ لديه كما قيل لنا.
كلا فريقي الصبية _وكان أكبرهم سنا لا يتجاوز الخمسة عشر عاما _كانوا بلا شرف وطني؛ في نهاية اللعبة.
هذا ما قالوه لنا.
_" يا سيدي ،كنا نلعب على التراب ،تراب وطننا...حين نكبر ندافع عنه، وحين نموت نُدْفَنُ فيه، وحين نغني نرقص عليه ،وإنْ كنا لا نجيد الغناء ولا الرقص."
كنا نعشق الكرة ،تُنْسينا الكثير ،غضبُ المدرسين حين نذهب بلا تحضير لدروسنا ،غضبُ أبائنا المساكين حين يغضب علينا المدرسون ،فماذا نفعل بل ماذا سيفعل الجميع إذا ما غضب الوطن علينا.
وهل يغضب الوطن علينا ؟ نفضلّ غضب الله ولا غضبَ من يضع الوطن في جيبهِ.
أخطأ عمران المرمى ، كان الهدف مفتوحاً ، الحارس المسكين انشغل بحذائه الذي طار من قدمه؛حذاء بلاستيكي لم يكن على مقاس قدمه، القندرة والكرة كلاهما طائرتان خارج المرمى؛ بسبب حماقة عمران.
الضحكات تصاعدت مع غبار الملعب.
كلا الفريقين ضحكا، لكن راشد وهو غير الراشد؛ والذي هو من نقل الكرة إلى رأس عمران:"حظ فريق الثورة مثل......"
لم يُكملْ الجملة التي طارت هي الأخرى بسرعة البرق ، حتى الأثير يلعبُ ضدنا.
قال فريق،و لم يقل الثورة لوحدها ،بل مع فريقها، وتلك قسمتْ ظهر راشد ، وأطاحت برأس عمران ، وقلعت أظافري.
بعد عشرة أيام من الهدف الضائع،والحياة الضائعة وشتمِ حظ الثورة العاهر وجدتُ نفسي في تأويل الحدث الماكر: "يا سيدي.. كنا نلعب..."
على جذع شجرة الكالبتوز نُقِشَتْ أسماء..فيصل.. عمران.. كريم..راشد.. قاسم...و وو.. وأنا.
أكثر من عشرين عاماً مرّ، وأسمائنا معلقة. لا الليل ليلنا ولا النهار نهارنا ولا السنين لنا ، لكن الأسماء أسماؤنا.
وكلّ كان له مركزه ؛عندما تحين وقائع الكرة المستديرة ، وقد دارت بنا.
فما لنا ومال أهل الصولجان.
مازالت نوايانا بريئة وصغيرة ،ليست بحجم الأهداف الكبيرة التي لا تُسَجْل أو تُسَجْل في شِباك أرواحنا.
أجهشتُ بالبكاء.
" كان عليك يا عمران أن تسجل الهدف ،فلولاكَ لما تجرأ راشد على النيل من العواهر، سهوا أو بغير سهو ، والسنين كلها عواهر "
تجمعَ صبية حولي ،فيهم من يشبه عمران أو كريم أو...بل كلهم يشبهون الكل...والويل كل الويل لهذا الكل ،والسنين بينهم والصولجان.
" لماذا تبكي يا عم؟"
بالطبع، أنا المقصود بهذا العم.
" من أنت.. لماذا دخلت ملعبنا...ما قصة هذه الشجرة"؟
" ماذا تريد.... يا عم.."
نسوا لعبتهم وتجمعوا حولي.
راحوا يتهامسون، تصاعد الهمس حول أصابع قدمي.
" لماذا بعض أصابع قدمه بلا أظافر"!
الكرات الطائرة جميلة، كما الكرات الأرضية ،شأنها شأن الحياة ،إن كانت تحلّق في الهواء أو تجري على الأرض.
أليس كذلك ؟
رد علي أبي ممازحاً.
ماذا تقول أبها الفيلسوف الصغير ؟بعد أن نعتني بالفيلسوف، واشترى لي قميصي الأخير؛ خرج ولم يعد، مثل الكثير.
الله يلعنني لأنني فهمت ذلك مبكراً.. وألتحقت بفريق شباب الأمل مبكراً ،حيث لا أمل حتى و إن هزمنا شباب الثورة.
لم يلعنني الله لأنني عرفت ذلك لكني دفعت ثمن أن الله لم يمنعني من ذلك.
لست الناجي الوحيد الذي أفرج عنه بأصابع مشوهه،ربما هنالك غيري ، لكن ربما أكلتهم الحروب ،الانفجارات البغابا ،
شظايا شقيقة ، شظايا صديقة.
كفكفت دموعي بكم قميصي ، قبّلت الشجرة باسمائها المسافرة قسرا في الغياب...ومشيت.. ومشيت..نظراتهم مثل اسئلتهم ظلت تتبعني.
لم أسمع أصواتهم،قهقهاتهم ، صياحهم،
لم أجدهم ، اختفوا؛ وبقيت وحدي انتظرُ عودتهم.
الرابعة عصراً يجيئون..
وبتوقيت لا أعرف متى بدأوا الرحيل.
وإلى الآن لم يعودوا.

انتهت.

حميد الهاشم/ العراق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى