منصف سلطاني - الجازية الهلالية : جزء من السردية الشعبية في تاريخ تونس

"الجازية الهلالية" مثال لقدرة المرأة في المشاركة في صناعة القرار ، تجربة لامرأة ولدت في مجتمع قبلي، استطاعت بفعل حذاقتها أن تحصل على ثلث المشورة في قومها، وذلك بعد القصة الشهيرة لابن قبيلتها ʺأبا زيد الهلاليʺ الذي لا تختلف قصته كثيرا عن عنترة بن شداد، فقد نكره أبوه وعشيرته لسواد لون بشرته على خلاف قبيلته، فهاجرت به أمه إلى قبائل « الزحلان » التي آوتهما، إلى أن اشتد ساعده وبلغ أشده. بعد بضع سنين، قامت حروب شرسة بين قبائل الزحلان وبني هلال، فحارب أبو زيد أهله حتى يأتوا إليه بأبيه. خشيت أمه ʺخضرة الشريفةʺ أن يقتل أباه، فخرجت أمام بني هلال، بعد أن كانت متخفية، لتخبرهم أن من يقابلهم هو ابنها وابنهم، فسروا بذلك وطالبوا بعودته. قبل أبو زيد عرضهم مقابل شرط واحد، وهو أن يفرشوا أمام موكب أمه حريرا من قبائل الزحلان إلى منازل بني هلال، تكريما وتنزيها لها من كل ما اتهموها به. لكن الشرط قد بدا لبني هلال صعب التنفيذ. فتدخَلت الجازية و أشارت عليهم بجمع ما لديهم من حرير وفرشه أمام ʺخضرة الشريفةʺ ، وما إن يُشرف الموكب على الوصول إلى نهاية الجزء المفروش، حتى يجمع بعض من خدمهم الجزء الذي مشى عليه الموكب، ويكررون فعل ذلك إلى أن تصل إلى منازل بني هلال. فسر بها أبوها الملك سرحان، ملك بني
. هلال، وانبهر من رجاحة عقلها وحدة ذكائها فمنحها ثلث المشورة في قبيلتها

كان الهلاليون يقطنون بلاد نجد، وبحكم طبيعتها الصحراوية وقلة مياهها، فُرضَ عليهم نمط حياة شاق، كان من الصعب عليهم أن يتحرروا منه أو يفرضوا على أنفسهم نمطا غيره، فتراهم يجوبون أطراف الجزيرة وقلبها،

ويركبون الصحراء من أدناها إلى أقصاها ليبلغوا الأقل من الشراب والأقل من الغذاء...

ولما جدبت أرضهم وجاعت بطونهم ونشفت ماشيتهم، رحلوا كعادتهم البدوية إلى أرض ʺالشريف بن هاشمʺ صاحب الحجاز، فتقدمت إليه ʺنور بارقʺ المكناة بالجازية -لطول شعرها- لمحاورته. كانت الجازية جميلة المنظر، لطيفة المحضر، بديعة الجمال، عديمة المثال في الحسن والكمال والقد والاعتدال، وفصاحة المقال، نظرت إليه قائلة

“يا الشريف بن هاشمي، جيناك في عام شادة وشديدة، كان ما تعرف حوايلي كيال، نضت أنت يا الشريف بن هاشمي عملت فينا هول من الأهوال”.
وقع شريف مكة في غرامها وطلب يدها من أخيها الملك حسن بن سرحان، مقابل أن يأويهم وماشيتهم، ويحسن ضيافتهم، وأصر على ذلك قائلا:

“هذه المرأة نديها، إذا صبية تعطوهالي، وإذا مرت راجل نديها”.
فزوَّجه إياها، ونزلوا عنده حينا من الدهر، حتى حدثت بينه وبينهم فتنة ومغاضبة، فغادروا الحجاز وتركوا ابنتهم الجازية عنده، لتعيش معه حياة ملأها الحب والعيشة الهنية، تُوجت بإنجاب صبي ʺأحمدʺ

استمر البؤس في مطاردة بني هلال وحلت بهم المجاعة، ولم يجدوا حتى ما يسد رمقهم ويبلل أمعاءهم، فقرروا الرحيل إلى الأرض التي لا تجدب والماء الذي لا ينضب، أرض تونس وبلاد فريڨيا، وكان لا بد أن يستدعوا الجازية ذات العقل البارق والذكاء الوقاد لتؤنسهم في تغريبتهم، فبعثوا لها رسولا ليطلب منها الهروب من زوجها الذي منعها من زيارة أهلها. لم يكن صعبا على الجازية أن تدرك بأن الأمور تحل بالسلاسة لا بالقوة، حيث أنها لا تستطيع
. أن تفر بين جمهور الخدم والحراس الذين نصبهم الشريف بن هاشم

في الليلة التي استقبلت المرسول، قامت الجازية بتطييب خاطر زوجها، فتسامرا ضحكا ولهوا جلَّ الليل، وما أن حلَّ الصباح حتى طلبت منه أن لا يغادر إلى الصيد كعادته، ففرح لطلب زوجته وقبل بذلك. في الصبيحة الموالية اقترحت عليه أن يلعبوا ʺالخربـﭼـةʺ )لعبة تشبه الشطرنج، لا زال كبار السن في بلادنا يلعبونها إلى اليوم(، فاشترط عليها أن تخلع ثيابها إن كان هو الفائز، وأن تطلب ما شاءت إن فازت هي. في المرة الأولى كان الفوز حليفه، فكان له ما أراد. وفي المرة الثانية تغلبت عليه فطلبت منه أن تزور أهلها، فانزعج لطلبها ولكن وعد الحر دين عليه، فقبل بذلك شرط أن تعده بأنها ستعود ولن تخونه، فوعدته بذلك وقالت له: أمهلني ثلاث ليال حتى أجهز نفسي وآخذ متاعي، فأنا
. زوجة شريف مكة، لا ينبغي لواحدة من بنات هلال أن تفوقني جمالا

انقضت الليالي الثلاث وجاء اليوم الموعود، وما أن همت بالرحيل مع زوجها حتى قالت له « نسيت مشطي الذهبي »، فدخلت إلى بيتها، غسلت يديها ومسحت وجهها قائلة: “حلفت عليك يا هاذ الدار اللي دخلتك، لا نزيد
. ندخلك”، ثم خرج بها إلى أهلها

ما إن وصلوا إلى سعيهم حتى أحسن بنو هلال ضيافتهم، وصاروا يرتحلون به وبها، كاتمين الرحلة عنه، فكانوا يموهون عليه بأن يباكر معهم للصيد والقنص، ويعودون به في الليل إلى بيوت قد بنوها في غيابه، فلا يتفطن لذلك، حتى رحلوا به سبعا وسبعين رحلة. وكانت الجازية تترك له في كل موطئ خبزا ورأسا مطهيا، فلم يشعر الشريف بن هاشم بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه وصار إلى حيث لا يملك أمرها عليهم، ففارقوه، بعد محاولات جمة منه لاسترجاع الجازية التي آثرت مصلحة قومها على زوجها، ورضت بحياة القسوة والترحال بعد أن كانت في كنف البذخ وراحة البال

عاد الشريف بن هاشم إلى الديار مطأطئ الرأس، يجر ذيول الخيبة، خائب الظن في من أحبها فنقضت وعدها، عاد وقلبه مفتور على من تربعت على عرش قلبه وسكنت روحه، تلك التي كان يقول عنها: “الجازية خيرة النسا، إذا وقفت بين الرجال لا من يضدها، وإذا وقفت وسط النسا زادت وفا وكمال”. لم يتبق له من أمل إلا أن يطلب من ابنه أحمد أن يحاول إقناع أمه بالعدول عن تعنتها والرجوع إلى بيتها وعائلتها، قائلا له: “سير يا أحمد يا وليدي،
… تعيد عني من الأخبار، ولا قولي يا مشوم ارتاح”

امتطى أحمد حصانه وجاب البلدان، حتى وصل إلى المكان المقصود حيث خيمة أمه، فحاورها من وراء الستار، وهو يتقطع من البكاء عندها، راجيا منها العودة، قائلا لها: “علاش يا يما، خليتينا دار بلا عيال، خليتينا بيت بلا ستار…”.
حن قلب الجازية، فمهما بلغت همتها ومهما وصلت صرامتها إلا أنها تبقى أما، فظهرت له من وراء الستار متحسرة على فراق عائلتها وقالت: “وحشك يا الشريف بن هاشم ووحش ولدي أحمد وبنتي حمدة راهو في بطني شَعـﱠال”. فقررت الرجوع مع ابنها وكلها غبطة وسرور، و لكن وهُما في طريقهما، أزاح ابنها اللثام عن نيته وتلاعبه بمشاعرها، وقال لها:

“نديك يا أم خشان لبابا، يضربك ويكتفك ويبيتك بين الروث والزبال، نديك يا أم خشان لبابا، يضربك ويكتفك ويبيتك بين زوج حيطان”
فنادت الجازية مستنجدة: “يا زيد يا بوزيد يا العزيز تعال، ابن البطن سمعنا منو فال، وولد الناس لا عليه سوال”،
فلحق بها أهلها ممتطين خيولهم لاستردادها، وخشية منها أن يؤذوا ابنها
… نزلت وأمرته بالهروب

بقيت الجازية مع قومها، ولم يغلبها على العاطفة الخاصة إلا العاطفة العامة تجاه قبيلتها، لتفارق رغد العيش إلى جفوة الحياة القاسية، وانتقلت معهم في رحلتهم إلى بلاد المغرب، فما كانوا يفصلون في أمر دون الرجوع إليها في الأمور السياسية وفي ميادين الحرب، فكانت تخرج في كل غزوة على رأس من الجميلات يشجعن الفرسان بأناشيدهن ويحرضنهم على الذود عن قبيلتهم وعن حرمتهم. هي التي حملت « ذياب بن غانم » (من كبار فرسان قبيلتها و المحب الأول لها ) على منازلة « الزناتي » ملك تونس والأخذ بالثأر منه، وهي التي ساعدت أبو زيد بالحيلة على اقتحام سور القيروان بعد حصار طويل و الاستيلاء عليها

وبعد الاستيلاء على تونس و بلاد القيروان ، استفاق جشع وطمع ذياب بن غانم في السلطة، ليقتل أخاها الحسن بن سرحان وفارسَ قبيلتها أبو زيد الهلالي، فهربت الجازية بأولاد الحسن وأبو زيد، وأرضعتهم من حديد الثأر وربتهم على القتال، ولما اشتدت سواعدهم راسلوا ذياب وهددوه بالثأر وطالبوه بالقتال.. ولما تلاقى الجيشان أبت الجازية إلا أن تنازله، فتنكرت في ثياب فارس في الميدان، وقاتلت بكل بسالة مؤمنة بأن خير الموت تحت ظلال السيوف، فكان لها ذلك أن أرداها قتيلة ...

الجازية الهلالية، أو نور بارق، الفاتنة المقاتلة، تلك التي أحبت فغوت، والتي تبنّت القتال فرسخت في الأذهان. إلى يومنا هذا، لا يزال صيتها يُدوِّي في أروقة الذاكرة الجماعية، وخير دليل على ذلك قبرها الشاهد على
. تاريخها، في مدينة سُميت باسمها، بلدية الجازية، ولاية أم البواقي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى