د. رضوان كعية - الصمت والمعنى في "الكأس المكسورة"

تمهيد
تكشف الرؤية السطحية للصمت على أنه انعدام لكل أشكال الصوت، بما فيها الكلام. وهو بهذا المعنى لا يعدو أن يكون فراغا مجردا من أي قيمة دلالية. بيد أن تأملنا في أشكال الكلام المختلفة، يجعلنا ننتبه إلى حضوره القوي فيها، إلى درجة عدم إمكانية الاستغناء عنه، فلا يمكن عده فراغا غير ذي أهمية في نقل المعنى.
إن أي تلفظ بالكلام لا بد أن تسبقه فترة صمت مهما كانت وجيزة، تساعد المتكلم على التفكير في ما سيقوله، وفي المخاطبين وكذا في مقام التخاطب... كما أن إدراك المتلقي للكلام هو أيضا رهين بفترة صمت قصد التأمل والفهم. وبهذا يغدو الصمت مكمِّلا للكلام وليس ضده، "فكلاهما نشيط ودال، والخطاب لا وجود له من دون علاقتهما المتبادلة. الصمت إذن ليس فضلة، أو ورما يلزم اقتلاعه أو فراغا للملء" ، وإنما هو جزء من الخطاب، لا يمكن الاستغناء عنه لما فيه من فوائدَ تغذي اللغة وتؤمِّن التواصل وتضيء المعنى الذي يصير معقولا وقابلا للتبليغ.
وبهذا يصير الصمت لغة لا تقل أهمية عن اللغة المعبَّر بها في الكلام، إنه "مثلُ الإيماءة أو الحركة، لا يجسّد سكونية فجائية للسان وإنما تسجيلا فاعلا لاستعماله. إنه يدخل في التواصل بحصة متساوية مع اللغة وتمظهرات الجسد التي تصاحبه" .
إن كون الصمت شبيها بالإيماءة أو الحركة يجعله لغة تواصل مستقلة عن الكلام، وهي قادرة على تبليغ المقصود لوحدها وبدون كلمات، لأن "الكلام لا يستطيع التخلي عن الصمت، عكس هذا الأخير" ؛ فالكلام المكتوب مثلا رهين بلحظات الصمت التي تتخلله، وهو ما تدل عليه علامات الترقيم، التي تسمح بتوقفات متتاليةٍ تساعد تنظيم الجمل وترتيب المعاني. أما الكلام المنطوق فإنه محكوم أيضا بلغة الصمت التي تجعل المتكلم يتوقف عدة مرات ليمنح المتلقي فرصة لفهم المسموع.
من هذا المنطلق، بدا لي من خلال قراءتي للمجموعة القصصية "الكأس المكسورة" للمبدع الأستاذ سي حاميد اليوسفي أن قصص المجموعة يسودها هدوء قوامه لغة رصينة وامتلاك لناصية الكتابة الإبداعية، بشكل يجمع بين الإمتاع الذي يشد القارئ إلى متابعة القراءة، والإقناع المتمثل في قدرة السارد على مناقشة قضايا راهنة، بعيدا عن كل أشكال التعصب أو التطرف. ونتيجة لذلك، تسلل الصمت إلى جل قصص المجموعة، فتعددت صوره واختلفت معانيه بشكل لا يزيد المؤلَّف إلا نضجا إبداعيا وتصويرا فنيا لمفارقات الواقع الاجتماعي وتناقضاته.
وقد تنوعت صور الصمت في "الكأس المكسورة" بين قوى فاعلة أساسيةٍ في تنامي الأحداث، أو أحدِ أشكال الزمن النفسي الذي يمنح فرصة للتأمل وانتقاد الواقع، أو صيغةٍ لتبليغ المعنى وإبانته أو غيرِ ذلك، وسنحاول في هذه الورقة الوقوف عند بعض تجليات الصمت في بناء المعنى انطلاقا من المجموعة القصصية "الكأس المكسورة" للمبدع الأستاذ حاميد اليوسفي.
تطالعنا تيمة الصمت في أول قصص المجموعة والتي تحمل عنوان: "كرامة"، حيث نلمح تركيز السارد على تصوير الزمن النفسي للشخصيات، من خلال تعبيرها بالصمت بدل الكلام، وهو ما يظهر في صمت العرافة وهمسها وإشاراتها، وكذلك في جواب زوجة التاجر المثقف بعد أن أبدى لها إعجابه بالمرأة ذات الشعر الغجري.
وقد اكتسبت كل من العرافة والزوجة _ على ما يبدو _ درجة عالية من الوقار والقدرة على التأمل بفضل الصمت، حيث تمكنت العرافة بعد أن رفعت بصرها وتأملت ملامح الرجل وصمتت قليلا أن تعرف انشغالاته وهمومَه، أما الزوجة فقد أعرضت بصمتها عن مجادلة زوجها مكتشفة أنه "ميت القلب" الذي صرفه المال عن رسالته. أما هو فقد أدرك حجم خطئه بسبب زلة لسانه وتصريحه لزوجته بكل وقاحة: "واللهِ لو رأيتِها لتمنيت أن تكوني مثلها!
وفي قصة "الحي الشتوي"، نقف عند تأمل البطل حينما جلس في المقهى وحيدا وقال في نفسه: "هل أخطأ بعض الوهابيين في وصف هؤلاء الحوريات (ويقصد مومسات شارع فرنسا) بأقذع النعوت؟ (شمطاوات، مومسات، فاجرات، باغيات، داعرات، حطب جهنم...). كل وصف يشبه قنبلة ذرية، يمكن أن تدمر مدينة بكاملها. ولم ينسوا طلب ضرب أعناقهن بالصمصام. هؤلاء الوهابيون مثل القطط إذا لم تجد الطعام، وصفته بأنه نتن" .
لقد خرج بطل القصة بقراءة نقدية لمجتمعه نتيجة تأمله الذي يعكس شكلا من أشكال الصمت، وهو الذي هداه في النهاية إلى الشك في بعض المعتقدات السائدة في المجتمع، وإلى التساؤل: من سيخفف عن عن هؤلاء النسوة آلام وأوجاع الحياة التي قضينها في الأرض يتألمن من القهر والمرض والجهل والجوع؟ كيف تجازيهن السماء؟ ألا يوجد الحور العين بصيغة المذكر؟ (...)
وفي قصة "الغزال الذي يشرب من النهر"، يغيب الكلام بصفة نهائية باستثناء مقطع قصير يتمثل في قول علال بصوت رخيم بعد أن أُعجب بزينب: "يا إلهي كيف تشرق الشمس بالليل؟"، وهو كلام ما كان لعلاّل أن يقوله لولا المعنى الذي أثر فيه بحركات جسد زينب وبلباسها وبالعطر الذي يفوح منها، كل ذلك وزينب صامتة لم تنبس ببنت شفة. وعليه فإننا نلمس في قصة الغزال الذي يشرب من النهر جنوح السارد إلى رسم عوالم النص بشكل لا يمكن معه إنكار المعاني المتولدةِ عن فترات صمت الشخصيات، وباتخاذها أشكالا تعبيرية أخرى غيرَ الكلام، لأن علاقة المتلقي بالعالم "لا تنسج فقط في استمرارية اللغة ولكن أيضا في لحظات تعليقها، وفي التأمل والخلوة، أي في اللحظات العديدة التي يسكت فيها الإنسان" .
وفي قصة "المقاطعة"، يَبرز شكل من أشكال الصمت الذي ابتدع السارد من خلاله وسيلة للتعبير عن موقفه الرافض لأشكال القمع الممارس على الفئة المقهورة بسبب غلاء المعيشة، الشيء الذي جعلها تقاطع بعض السلع إما احتجاجا على جشع المسؤولين الذين لم يتوانوا في وصف المقاطعين بكل النعوت القدحية، وإما بسب الفقر الذي وُلد معهم ولزمهم طوال حياتهم.
لقد اختارت هذه الفئة الصمت تقيّة من البطش الذي قد يلحقهم من السؤولين إذا احتجوا علناً، فعبّروا بالمقاطعة إما طوعا أو كرها، لكنها لم تجنِ لهم من ذلك سوى تقهقرِها في التصنيف المجتمعي لمن تحالفوا مع التماسيح والعفاريت وسرقوا الوطن.
خاتمة
نخلص مما سبق إلى مجموعة من النتائج نوردها على الشكل الآتي:
1 _ شكل الصمت في المجموعة القصصية "الكأس المكسورة" تيمة أساسية أسهمت في بناء الأحداث بشكل يعكس امتلاك الأستاذ سي حاميد اليوسفي ناصية الكتابة القصصية الحديثة؛
2 _ تنوعت صور الصمت في "الكأس المكسورة" بين قوى فاعلة أو أحدِ أشكال الزمن النفسي أو صيغةٍ لتبليغ المعنى وإبانته أو أشكالٍ للاحتجاج على الواقع؛
3 _ عمل الأستاذ المبدع سي حاميد اليوسفي في مجموعته القصصية المحتفى بها على تقديم نصوص فنية لا تخلو من حس نقدي للواقع الذي يعرف مجموعة من الاختلالات، وقد سخر لذلك الصمت بتلويناته المختلفة... وهذا يجعلنا نعتقد بكثير من الاطمئنان أن المؤلَّف تحكمه نزعة إصلاحية تدعو إلى نبذ كل أشكال التمييز الطبقي بين فئات المجتمع من خلال الاهتمام بالفئات البسيطة والمقهورة.



نص مداخلة الدكتور رضوان كعية بعنوان : "الصمت والمعنى في الكأس المكسورة".. بمناسبة حفل توقيع المجموعة القصصية الموسومة بالكأس المكسورة لكاتبها حاميد اليوسفي الذي نظمه مكتب المنتدى المغربي للحكامة بمدينة ايت اوروير على ضفاف واد الزات بفندق كوك هاردي.


الكاس المكسورة.jpg

سي حاميد 1.jpg




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى