د. محمد سعيد شحاتة - جدلية الماضي والحاضر في قصيدة إليها وهي في ريعان تألقها الفائق للشاعر العراقي ثامر جاسم

إطار عام:
إن اللافت للنظر أن القصيدة تبدأ بالذات وتنتهي بالموضوع، يبدأ الشاعر به وينتهي بها، وهو ما يعبر عن أن العدْو كان إليها، فقد بدأ بأنه يعدو/ أعدو، وهو تعبير عن الأنا الشاعرة، وتنتهي القصيدة بالتعبير عن الموضوع/ البلاد، وهو إشارة إلى أن العَدْو الذي بدأه الشاعر كان إلى تلك البلاد، ومن ثم فإنه على المستوى اللفظي قد عبَّر عن نفسه التي ستقوم بالرحلة، أو بالعدو/ الجري، وعبَّر كذلك عن البلاد التي يعدو إليها، وعلى المستوى المعنوي تحدَّثت القصيدة عن الأنا الشاعرة التي قامت برحلة العدْو، وعن البلاد التي عدا إليها الشاعر، أو التي كانت رحلته إليها، وبين هذين العنصرين تدخل عناصر أخرى تمثل عقبات في أثناء الرحلة سواء رحلة البلاد نحو مستقبلها، أو رحلته نحو البلاد، وهو ما عبَّر عنه بقوله (ألا أيها الآكلون قمح البلاد) لقد كانوا عقبات قاسية في طريق هذه البلاد نحو حاضرها المشرق الذي يتناسب مع ماضيها العريق، وقد عبَّر الشاعر عن ذلك بوصف هؤلاء بصفات سلبية (آكلون/ أي ينهبون – قمح البلاد/ خيراتها) ومن ثم فإنهم عقبات حقيقية تمنع البلاد من خيراتها، وقد أشار الشاعر إلى هؤلاء الآكلين بصيغة الخطاب، كأنه يوجِّه حديثه إليهم مباشرة؛ ليشير بذلك إلى أنهم معروفون، ولكنه في الوقت نفسه لم يسمهم بأسماء معينة، بل ذكرهم بأوصافهم (آكلون قمح البلاد) ليدل على أنهم كثيرون، ولا يستطيع إحصاء أسمائهم لكثرتهم؛ فقد تداعوا على قمح البلاد كما تتداعى الأكلة على قصعتها.
العنوان وعالم النص:
إن تركيب العنوان بالشكل الذي جاء عليه يشير إلى أن اختياره تمَّ بعناية وتأنٍّ؛ للدلالة على حالة محدَّدة، والتأكيد على رؤية مرتبطة بعالم النص؛ فمن الناحية النحوية ندرك تماما أن النحويين يؤكدون على أن الضمير يعود على متقدِّم، وهنا نتوقف أمام الضمير في (إليها – وهي – تألقها) فالضمير/ الهاء في اللفظ الأول (إليها) لم يسبقه شيء حتى يعود عليه، ثم يرتبط به الضمير (هي) وكذلك الضمير في اللفظ الثالث (تألقها) وهذا يعني أننا لابد أن نعود إلى النص؛ لنتعرف على من يعود الضمير، وهذا أول ارتباط بين العنوان والنص، وأما من ناحية التكييف النحوي للعنوان فنحن أمام اختيارين جائزين: الأول أن تكون الجملة اسمية، وفي هذه الحالة يكون التركيب النحوي للجملة كالتالي (هذه رسالتي إليها ...) وبذلك يكون طرفا الجملة/ المبتدأ والخبر محذوفين، ويكون الجار والمجرور/ إليها متعلقا بالخبر المحذوف/ رسالتي، وسوف نتحدث عن نتائج هذا التكييف لاحقا، وأما الاختيار الثاني فهو أن تكون الجملة فعلية، ومن ثم يكون تركيبها كالتالي (أرسل إليها ...) وفي هذه الحالة يكون الركنان الأساسيان للجملة/ الفعل والفاعل محذوفين، ويكون الجار والمجرور/ إليها متعلقا بالفعل المحذوف/ أرسل، وإذا تأملنا الاختيارين فسوف نجد أن الجار والمجرور في الحالتين متعلقا بما سبق/ الخبر أو الفعل، أما الجزء الثاني من العنوان (وهي في ريعان تألقها) فهو حال جملة اسمية، وبذلك يكون العنوان مكوَّنا من جزءين، الأول يمثله (إليها) وهو المتعلق بجملة اسمية أو فعلية على حسب المحذوف، وسوف نعود إليه، والثاني يمثله جملة الحال (وهو في ريعان تألقها).
بالنسبة لعوْد الضمير فإننا لابد – كما أشرنا سابقا – أن نعود إلى النص؛ لأنه وحده الكاشف عن ذلك، ولكننا نلاحظ أن النص يبدأ بالأنا الشاعرة، ويظل يتحدث عنها إلى أن نصل إلى نهاية المقطع الأول من النص فيقول (أعدو إلى ضوئها) فلا نجد ضالتنا؛ لأن الشاعر ما زال يستخدم ضمير الغائب دون أن يشير إلى ما يبلُّ الصدى بما يعود عليه هذا الضمير، حتى يختم المقطع بقوله (لهذي البلاد) فنعرف أن الهاء/ ضمير الغائب يعود على البلاد، ليحدثنا في بداية المقطع الثاني عنها حين تبدأ الدلالة في الانفتاح في قوله:
لهذي البلاد
بلادي العتيقة
كلما تذكرت أشجارها تذكرت أعمارها..
وهنا ندرك أن الضمير يعود على البلاد، وبذلك يرتبط العنوان بالنص ارتباطا وثيقا بحيث يكون كل منهما جزءا من الآخر، وبذلك يكون العنوان هو (هذه رسالتي/ أرسل إلى بلادي العتيقة وهي في ريعان تألقها)، أما بالنسبة للجزء الأول من العنوان (إليها) فقد أشرنا سابقا إلى أنه متعلق بمحذوف، وهذا المحذوف قد يكون مبتدأ وخبرا، فتكون الجملة اسمية، وقد يكون فعلا وفاعلا، فتكون الجملة فعلية، وفي كل الأحوال فإن هذا الجزء من العنوان يتكون من ثلاثة عناصر، هي: الأنا الشاعرة/ المرسل، والبلاد/ المرسل إليه، والرسالة/ النص، فإذا كانت الجملة اسمية (رسالتي إليها) فإن الجملة تدل على الثبات، وهو ما يعني أن رسالته إلى بلاده ثابتة لم تتغير، وأن معانيها واحدة، وعناصرها لم تتبدل، وهو ما يدل على ثبات الشاعر/ المرسل على مبادئه في نظرته للأمور، مهما تغيرت الأحداث، وتلونت الوجوه، وتبدلت الأقنعة، فإن رؤية الشاعر/ المرسل تظل ثابتة، وقناعاته راسخة، وأنه أرسل إليها رسالته، وهي تعرف هذه الرسالة منذ البدايات الأولى؛ فالجملة الاسمية تدل على الثبات، وقد استدل البلاغيون على هذا الثبات بقوله تعالى في سورة الكهف (وكلبهم باسط ذراعيه بالوسيط) فالحالة التي عليها الكلب ثابتة لم تتغير، وقد استخدم القرآن الاسم (باسط) دالا على هذه الحالة من الثبات، وأما إذا كانت الجملة المحذوفة فعلية (أرسل إليها) فإن عناصر الجملة لم تتغير، وهي ثلاثة أيضا: الأنا الشاعرة/ المرسل، والبلاد/ المرسل إليه، والرسالة، ولكن الذي تغيَّر هو طريقة التعبير؛ فهي هنا جملة فعلية، أي أن المستخدم في هذه الحالة هو الفعل، وهو ما يدل على الحركة والتجدد والاستمرار، وهذا يعني أن الشاعر قد كرَّر رسالته التي يؤمن بها تجاه أحداث بلاده في كل مرة تتغير فيها الوجوه المتحكمة في الأحداث، أو تتبدل الأقنعة، ويفعل الشاعر ذلك؛ ليؤكد على قناعاته الراسخة التي يؤمن بها تجاه أحداث بلاده، ورؤيته لتلك الأحداث، وأسبابها ونتائجها. ثم يأتي الجزء الثاني من العنوان (وهي في ريعان تألقها الفائق) وهي جملة حالية دالة على الهيئة التي عليها المرسل إليه/ البلاد، فالشاعر يرسل إليها رسالته في حالة كونها في ريعان تألقها الفائق، وهنا قد نلاحظ – قبل أن نخوض في تحليل الجملة الحالية – تناقضا بين ما هو واقعي يعبر عن حال البلاد الآنية، وما تمر به من أحداث، وبين ما يشير إليه الشاعر (في ريعان تألقها الفائق)؛ فالحالة التي يتحدث عنها الشاعر ليست لحظة تألق للبلاد، ولكنها لحظات سقوط، ولكن هذا التناقض قد يزول إذا لاحظنا أن الشاعر يخلط بين ماضي البلاد المجيد وحاضرها الذي قد يبدو مزريا نتيجة الانحراف عن تاريخها الذي عرفته، وعُرِفت به، ومعنى ذلك أن الشاعر يشير إلى أن الأصل في بلاده الأمجاد، وأن ما هي عليه الآن حالة طارئة لا تلبث أن تزول بزوال أسبابها، وتعود البلاد إلى ما كانت عليه من الأمجاد، ومن ثم نجد الشاعر في بداية النص يتحدث عن عدْوه من مساء/ الحاضر إلى الماضي/ البلاد العتيقة، كلما تذكرت أشجارها تذكرت أعمارها، إنه الهروب من هذا الواقع المرير إلى الماضي الزاهي، ولكنه ليس هروب الضعيف، وإنما هروب الواثق بأن هذا الحاضر حالة طارئة، وسوف نتحدث عن ذلك لاحقا، ونلاحظ أنه أضاف إلى الجملة الحالية نعتا للفظ تألقها؛ إذ وصفه بالفائق، وهو ما يؤكد على تألق بلاده التي فاقت كل شيء، فهو لا يكتفي بوصف بلاده بالتألق، ولكنه أضاف إلى هذا التألق الريعان والفائق، وانطلاقا من مقولة النحويين بأن كل زيادة في المبنى يقابلها زيادة في المعنى فإننا نرصد أربع حالات للتعبير، كالتالي (وهي في تألقها – وهي في ريعان تألقها – وهي في تألقها الفائق – وهي في ريعان تألقها الفائق) ولكي نعرف الفرق في الدلالة بين هذه الاختيارات لابد أن نعود إلى الدلالة اللغوية لكل زيادة، بالنسبة للفظ (ريعان) فإن دلالته الواردة في المعاجم العربية كلها إيجابية؛ فقد ورد في المعاجم ((رَيَعان: (اسم، رَيَعان مصدر راعَ – وقت نموّ وتجدُّد – عمر يتحقَّق فيه النُّضج الجسميّ المثاليّ والنَّشاط العقليّ – رَيْعَانُ كل شيء: أَوَّلُهُ وأَفضله – ورَيعان السَّرَاب: ما اضطرب منه - رَيَّعَ: رَيَّعْتُ، أُرَيِّعُ، رَيِّعْ، مصدر تَرْيِيعٌ – رَيَّعَ النَّاسُ : اِجْتَمَعُوا – رَيَّعَ النَّباتُ : نَما، زادَ – رَيَّعَ تِجارَتَهُ : أَنْماها وَزادَ فيها – رَيَّعَ السَّرابُ : اِضْطَرَبَ، جاءَ وَذَهَبَ – رَيَّعَ الشيءَ: أرَاعَه – ريع: (اسم – الجمع : رُيُوعٌ ، و أرياعٌ ، و رِياعٌ – الرِّيعُ : المرتفِعُ من الأرض – الرِّيعُ :الطريق – الرِّيْعُ : فَضْل كل شيء، كريع العَجين والدقيق) ومن الملاحظ أن الدلالة تدور حول المعاني الإيجابية؛ فهي تدل على النمو والتجدد والنماء والخصوبة والنضج، وكلها معانٍ إيجابية، وهنا نرى أن الشاعر يركز على الخصوبة التي تتمتع بها بلاده والنمو والنضج، فالخصوبة/ الحضارة قد نمت وتطورت حتى وصلت إلى مرحلة النضج، فهي حضارة ناضجة، ثم يأتي اللفظ الثاني وهو (تألقها) وقد ورد في المعاجم العربية (تألَّقَ: فعل – تألَّقَ يتألَّق ، تألُّقًا ، فهو متألِّق – تألَّق البرقُ ألَق: لمَع وأضاء – تألَّق اللاعبُ: أحسن وأجاد – تَأَلَّقَتِ الْمَرْأَةُ لِحُضُورِ حَفْلِ زِفَافٍ : تَزَيَّنَتْ – تألَّق نَجْمُهُ: أحرز نجاحًا وتفوُّقًا) ومن الملاحظ أن المعاني تدور حول اللمعان والضياء والزينة والتفوق، فإذا أضفنا هذه المعاني إلى معاني اللفظ الأول (ريعان) فإننا نجد الدلالة تدور حول الخصب والنماء الذي يجذب الأنظار بلمعانه وتفوقه وزينته، فهذه الحضارة قد وصلت إلى نضجها الكامل وتزينت وتألقت ولمعت في محيطها الإقليمي والعالمي، أما اللفظ الثالث (الفائق) فقد ورد في المعاجم العربية (فائِق: اسم، الجمع: فَائقون وفَوَقة – اسم فاعل من فاق – الفَائِقُ: الجيِّد من كلِّ شيءٍ – الفَائِقُ: مَوْصلُ الفِقرة العليا للعمود الفَقَاري بالعَظم القَذاليّ للرأْس – الفَائِقُ: الممتازُ على غيره من النَّاس والجمع: فَوَقَةٌ – سرعة فائقة: مجاوزة للحد المقرّر – مع فائق الاحترام: عبارة تقليدية تختم بها الرسائل – فائق: اسم، جيِّد، ممتاز – فاقَ يَفوق، فُقْ، فَوْقٌ، فَوَاقٌ، فهو فائق ، والمفعول مَفُوق – فَاقَ السَّهْمَ: وَضَعَ فُوقَهُ فِي الوَتَرِ لِيُرْمَى بِهِ – فَاقَ السَّهْمَ : كَسَرَ فُوقَهُ – فَاقَ السَّطْحَ: عَلاَهُ – فَاقَ أَصْحَابَهُ: سَادَهُمْ شَرَفاً، أَوْ عَلاَهُمْ بِالفَضْلِ أَوِ العِلْمِ – فاق قُدراتِه: جاوزها فاق حدود العقل، وقولهم كان عددهم يفوق الخمسين: يزيد عليها) وهذه المعاني كلها تدور حول التفوق والعلوّ والسيادة والشرف، أي أن هذه الحضارة بعد أن نضجت ولفتت الأنظار بزينتها ولمعانها قد سادن غيرها من الحضارات، فإذا أضفنا كل هذه المعاني والدلالات إلى بعضها البعض وجدنا أن الشاعر يشير إلى أنه يرسل رسالته إلى بلاده التي تتمتع بالخصب والنماء واللمعان والزينة والضياء والروعة والامتياز والفضل والعلم الذي فاق كل البلاد حولها، وجاوز حدود العقل، وزاد على كل ما وصلت إليه البلاد الأخرى، وبذلك يتضح أن كل زيادة أضافها الشاعر في بناء العنوان قد أدت إلى زيادة في المعنى وانكشاف أكثر للدلالة، وهو ما أشار إليه النحويون من أن كل زيادة في المبنى/ بناء الكلمة أو الجملة يقابلها زيادة في المعنى/ معنى الكلمة أو الجملة، يقول الزركشي في معرض حديثه عن الزيادة في بنية الكلمة "إن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أعلى منه، فلا بد أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا؛ لأن الألفاظ أدلة على المعاني فإذا زيدت في الألفاظ وجب زيادة المعاني ضرورة" (الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج3، ص 34) ويقول ابن الأثير في "المثل السائر": " إن الألفاظ أدلة المعاني، وأمثلة للإبانة عنها، فإذا زيد في الألفاظ أوجبت القسمة زيادة المعاني، وهذا لا نزاع فيه لبيانه" (ضياء الدين بن الأثير، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ج1، ص 169) ويقول البقاعي: "ومن البين أنَّ أيَّ تغييرٍ يطرأُ على أيِّ وحدةٍ (حرف أو حركة) في بناء الكلمة إنما يؤثرِّ في دلالة الكلمة، وقدرتها الدِّلاليِّة تأثيرًا بيِّنًا عند قومٍ، وخفيًّا عند آخرين، أي أنَّه تأثيرٌ قائم يختلفُ ظهورًا وخفاءً اختلافًا نسبيًّا لأمورٍ ترجع إلى ملكات المتلقين. وكذلك الأمر في بناء الجملة: أيُّ تغيير يطرأُ على أيِّ وحدةٍ منها (الكلمة) إنما يؤثِّرُ في دلالة الجملة، وقدرتها الدلالية، تأثيرًا جليا أو خفيا، وفق قدرات المتلقين" (البقاعي ومنهاجه في تأويل بلاغة القرآن، محمود توفيق محمد سعد، ج ١، ص ١٤٦) ومن ثم فإن الزيادات التي لجأ إليها الشاعر في العنوان كان الهدف منها زيادة في المعنى؛ للكشف عن جوانب الرؤية الفكرية، وإنتاج الدلالة، وإذا كنا تحدثنا – فيما سبق – عن الزيادة المبنى التي ينتج عنها زيادة في المعنى فإننا نشير إلى أن الشاعر لجأ أيضا إلى الحذف، وهو ما تحدثنا عنه سابقا في التكييف النحوي لقوله (إليها) والتي أشرنا إلى أنها جار ومجرور متعلق بمحذوف، وقلنا إن المحذوف إما أن يكون جملة اسمية، أو يكون جملة فعلية، وفي جميع الأحوال فإن الحذف له دور في إنتاج المعنى والكشف عن الرؤية الفكرية المتخفية خلف هذه العلاقات اللغوية المتشابكة، وقد أشار شيخ البلاغة العربية عبد القاهر الجرجاني إلى أهمية الحذف، فقال "هو باب دقيق المسلك لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر؛ فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتمَّ ما تكون بيانا إذا لم تُبِنْ" (عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص 106) فإذا انتقلنا إلى تعليل لجوء الشاعر إلى الحذف في قوله (إليها) مستغنيا عن الجملة المحذوفة، ومستبقيا للجار والمجرور فإننا نلاحظ أن المحذوف دال على الأنا الشاعرة، والمذكور دال على الموضوع/ البلاد، ومن هنا نرى أن الشاعر أراد حضور البلاد وغياب الأنا الشاعرة، بمعنى أنه يريد للبلاد أن يكون لها الحضور الفعلي وإن غابت وجوه الناس، فلا يهم من يقوم بإعادة البلاد إلى مسارها الطبيعي الذي كانت عليه، ولكن المهم أن تعود البلاد إلى سابق عهدها من الخصوبة والنضج والارتقاء والروعة، ويبرر ذلك ما أشار إليه عبد القاهر الجرجاني أن ترتيب النعاني في اللفظ ناتج عن ترتيبها في الذهن، وإذا نظرنا إلى العنوان (إليها وهي في ريعان تألقها الفائق) فإننا نجد ألا وجود للأنا الشاعرة من حيث اللفظ، وأن الوجود الفعلي هو للبلاد من خلال الضمائر الدالة عليها، ومن ثم فإن وجود البلاد على المستويين اللفظي/ الضمائر والمعنوي/ ما تدل عليه الضمائر، وقد أكَّد ذلك جملة الحال والصفات الواردة في العنوان، فكلها تدل على البلاد مع غياب كامل للأنا الشاعر التي تجلَّت فقط في المحذوف/ رسالتي/ أرسل، ومن ثم فإن الذي يشغل الشاعر في المقام الأول هو بلاده، وإن كان ذلك على حساب نفسه ووجودها. لقد تمكنت آلية الحذف والذكر من الكشف عن البنية العميقة للعنوان من خلال تحليل مكوناته من أجل الكشف عن الرؤية الفكرية وإنتاج الدلالة.
حركة المعنى والبناء الرأسي للنص:
ويمكن تقسيم النص إلى خمسة مقاطع لمعرفة حركة المعنى في النص، وكيف استطاع الشاعر الكشف عن رؤيته الفكرية، وكيف استطاع بناء تلك الرؤية جزءا بعد جزء حتى اكتملت مع اكتمال النص، يقول في المقطع الأول:
- 1 -
أعدو
كما نافرٍ من مساء بغيض المضاجع
أعدو
كمن لاحقته النار ألسنة وأضراساً
وأرنو
فلا وجه يشي بالهداية وحتى في التماع الفنارات
شَرودٌ،
ولا جنة تأوي
ولا نهلة من فرات مياه
أعدو الى ضوئها
أعدو
واحتلام هذا الصباح الفتيّ خيال
يبدأ هذا المقطع من النص بالفعل المضارع؛ ليعبر عن الحركة والاستمرار، من زاويتين: الأولى الزاوية اللفظية، متمثلة في الفعل المضارع بدلالته الديناميكية المتحركة، والثانية زاوية معنوية متمثلة في معنى الفعل المستخدم/ أعدو، وهو معنى يدل على الجري، أي الحركة، ولا يكون العدْو إلا إلى شيء مرغوب فيه، أو من شيء مذموم مرغوب عنه، وهنا نجد الشاعر يصف عدْوه بما يوحي برغبته في الهروب بسرعة (أعدو كما نافرٍ من مساء بغيض المضاجع – أعدو كمن لاحقته النار ألسنة وأضراسًا) ونلاحظ في البداية أن الشاعر لم يصف العدْو وصفا مباشرًا بكلمات تصفه معبرة عن نظرة الشاعر له، ولكنه قدَّم صورة لهذا العدْو تجعل المتلقي يستنتج ملامحه ودلالاته، وجاء ذلك في صورتين واضحتيْ الدلالة، يقول في الصورة الأولى (كما نافرٍ من مساء بغيض المضاجع) هي صورة الإنسان الذي ينفر من مساء بغيض، وتشتمل الصورة على ألفاظ سلبية (نافر – مساء – بغيض) ولنا أن نتخيل دلالة لفظ (نافر) بما يحمل من معنى النفور بدلالته المعنوية، أي الكراهة؛ فالنفور لا يكون إلا من شيء كريه أو مكروه، ولكننا نلاحظ أن الشاعر يستخدم اللفظ في صورة اسم الفاعل؛ ليدل كذلك على الابتعاد، ومعنى ذلك أن اللفظ (نافر) يحمل دلالتين، الأولى تأتي من النفور، بمعنى الكراهة، والثانية بمعنى الابتعاد، والشاعر هنا يشبه عدْوه كالإنسان النافر من المساء البغيض المضاجع، وإذا كان الليل مأوى وارتياحا بعد عناء النهار فإن الشاعر يسلب منه دلالته الإيجابية ويحمله دلالات سلبية من خلال استخدام لفظ (نافر) أولا، ولفظ (بغيض) ثانيا، ويضيف لفظ (بغيض) إلى لفظ آخر، وهو (المضاجع) أي أن هذه المضاجع التي يمكن أن تكون في الليل – أي الراحة – هي بغيضة، أي مكروهة أشد ما يكون الكره، ثم يعود الشاعر مرة أخرى إلى اللفظ أعدو؛ ليبدأ مرحلة أو وصفا جديدا للعدْو، فيقول:
أعدو
كمن لاحقته النار ألسنة وأضراساً
وهنا لابد من الوقوف أمام لفظ (لاحقته)؛ لأنه ذو دلالة عميقة، وكاشفة في موضعه، فهو أولا على وزن (فاعَل) – بفتح العين – وهو وزن يدل على المشاركة بين طرفين في الفعل، والفعل هنا هو الملاحقة، فالطرف الأول هو النار التي ظهرت بأضراس وألسنة، وسوف نبين ذلك، والطرف الثاني هو المشبَّه به/ الملاحَق/ الشاعر، وأما الفعل (لاحق) فقد ورد في المعاجم العربية بدلالته (لاَحَقَ: فعل، لاحقَ يلاحق، مُلاحَقةً ولِحاقًا، فهو مُلاحِق، والمفعول مُلاحَق.. لاَحَقَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ: تَبِعَهُ.. لاَحَقُوا الْمُجْرِمَ: تَعَقَّبُوا خُطَاهُ) ومعنى ذلك أن الفعل (لاحق) يدل على الملاحقة ومحاولة الإدراك، والملاحقة والتتبُّع، والتعقُّب، فإذا كان وصف الملاحقة بأنها نار ذات أضراس وألسنة، وهنا لابد أن نتخيل الصورة كاملة (كمن لاحقه النار ألسنة وأضراسا) هو يعدو مثل الذي تلاحقه النار، وهذه النار لها أضراس تريد أن تطحنه، وألسنة تريد أن تلتف حول، وهي صورة مستقاة من الخيال الأسطوري، وهذا يعني أن عدْوه كان عدْو الخائف الذي يحاول الهروب، ثم تأتي اللمحة الثانية من هذا المقطع حين يقول:
وأرنو
فلا وجه يشي بالهداية وحتى في التماع الفنارات
وهنا تغيَّر الفعل من (أعدو) إلى (أرنو) ونلاحظ أنه استخدم حرف العطف الواو الدال على المشاركة ومطلق الجمع، وهذا يعني أن الفعلين (أعدو – أرنو) متلازمان، أي أنه كان يرنو في أثناء عدْوه؛ فهو يقول (أعدو وأرنو) ولكن اللافت في هذه اللمحة الجديدة وجود لفظ (المنارات) وهو لفظ يشير إلى الاهتمام بالجانب الشكلي وهذا يعني أن الشكل ولفت الانتباه هو كل ما يسيطر على فكر الحاضر دون الاهتمام بالمضمون، كما كان في الماضي، وهو لفظ يؤسس لما سيأتي بعد ذلك، ونلاحظ كذلك أن الشاعر ينفي أي لمحة تدل على إمكانية الهداية حتى في هذا الجانب الشكلي/ المنارات، أي أنه لا يجد ما يدل على أن هناك أملا في الخلاص من هذا الواقع المؤلم، أو في الاهتداء إلى الطريق الصحيح؛ ذلك أن لفظ (الهداية) يحمل دلالات دينية؛ إذ يدل على الخروج من الظلمات إلى النور أو من الضلال إلى الحق، ومعنى ذلك أن الشاعر يرى أن الواقع يمثل ظلمات يجب الخروج منها، ولكنه لا يرى أملا في الخروج على الرغم من وجود تلك المنارات التي يحمل الضوء الذي يمكن أن يهدي، ولكن هل يمكن أن يهدي الضالين في الطريق فيخرجهم من الظلمات إلى النور أو من الضلال إلى الهدى، ثم يواصل نفي أي أمل فيقول:
شَرودٌ
ولا جنة تأوي
ولا نهلة من فرات مياه
تكتمل الصورة الدالة على اليأس من الواقع، فإذا كان قد نفى فيما سبق وجود أي علامة تشي بالهداية رغم وجود المنارات التي تملأ الأماكن بأضوائها فإنه هنا ينفي وجود جنة يمكن أن تأويه التائهين، أو الراغبين في الحياة الهادئة الكريمة، كما ينفي وجود ما يمكن أن يروي العطشى؛ فهو شرودٌ ولم يجد جنَّة تأويه، ولا شربة ماء فرات تبلُّ صداه، وتروي عطشه، ومن ثم يعود إلى العدْو مرة أخرى، كأن الحياة أصبحت بالنسبة له عدْوًا مستمرًّا؛ إذ يقول:
أعدو الى ضوئها
أعدو
واحتلام هذا الصباح الفتيّ خيال
لهذي البلاد
وهنا لا يجد الشاعر أمامه إلا العودة إلى الماضي الذي يمكن أن يلوذ به لعله يجد فيه مأوى، ونلاحظ أن الشاعر بدأ المقطع بلفظ (أعدو) وأنهاه باللفظ نفسه في إشارة إلى أن الحياة بأكملها أصبحت عدْوا منذ البداية حتى النهاية، وهنا يغلق المقطع دلالته؛ لينقلنا إلى ملمح آخر مع المقطع الثاني من النص؛ إذ تنفتح الدلالة على زاوية أخرى من زوايا الرؤية.
- 2 -
بلادي العتيقة
كلما تذكرت أشجارها تذكرت أعمارها..
وحُوْبَ رماح سمهريات
قدَّدتها فؤوس
ألا أيها المجد المفخَّخ بالأباطيل اللعينة والأساطير عَنّا
إليك
عنا
قليلاً
لتبدو المرايا غير معوجة
بسبق إصرارٍ
صريرٌ
ببيبان أزماننا لم يكن من قلة الآيبينَ
والراحلين
فتلك المقابر اعتلتها مقابر
والسواتر أتبعتها سواتر
والمنابر فوق الجموع..
يمكن تقسيم هذا المقطع الثاني من القصيدة إلى ثلاثة أقسام مرتَّبة ترتيبًا منطقيًّا؛ فهو قد ربط القسم الأول من هذه الأقسام الثلاثة بما ورد في المقطع الأول الذي ختمه بذكر لفظ البلاد الذي كان يتحدث عنها بصيغة الغائب في العنوان، ومن ثم فإن هذا القسم الأول من المقطع الثاني سوف يكون مرتبطا بما سبق، فيقول:
بلادي العتيقة
كلما تذكرت أشجارها تذكرت أعمارها..
وحُوْبَ رماح سمهريات
قدَّدتها فؤوس
قلنا إنه ختم المقطع الأول بذكر البلاد في قوله (أعدو ..... لهذي البلاد) ثم يقول في بداية المقطع الثاني (بلادي العتيقة ....) وهنا يمكن اعتبار لفظ (بلادي) بدلا من لفظ البلاد الوارد في نهاية المقطع الأول، ويمكن اعتبار لفظ (بلادي) الوارد في بداية المقطع الثاني مبتدأ، وبذلك يكون الكلام ابتداء لحديث جديد، وهذا يعني أننا سندخل في حوار بين الشاعر ونفسه، وهنا يكون القسم الأول من المقطع الثاني بداية لزاوية أخرى من ملامح الرؤية، يكشف فيها الشاعر عن علاقته ببلاده، ونستنتج منه أن الشاعر مغترب عن بلاده، ويتضح ذلك من قوله (كلما تذكرت أشجارها تذكرت أعمارها ...) ونلاحظ في هذا القسم تنوع الألفاظ بين التنكير والتعريف‘ فهو حين يتحدث عن البلاد يأتي بالصفة في حالة التعريف (بلادي العتيقة) مطابقا بينها وبين الموصوف (بلادي) فالبلاد معرفة ومن ثم تكون الصفة معرفة، أما حين يذكر لفظ (رماح) فإنه يأتي به نكرة ومن ثم تكون صفته نكرة متطابقة معه، ومن الملاحظ أن مكونات هذا القسم هي مفردات البلاد ( الأشجار – الأعمار – رماح سمهريات – فؤوس) وعندما يتذكر الشاعر فإنه يتذكر من بلاده أشجارها وهو ما يدل على الخصب والنماء، ويتذكر الرماح السمهريات، وهو ما يدل على الحروب، والقوة العسكرية، أي أن هذا الخصب وتلك الحضارة لهما قوة عسكرية تحميهما، ثم ينتقل الشاعر إلى القسم الثاني من هذا المقطع، فيقول:
ألا أيها المجد المفخَّخ بالأباطيل اللعينة والأساطير عَنّا
إليك
عنا
قليلاً
لتبدو المرايا غير معوجة
بسبق إصرارٍ
وهنا في هذا القسم نجد سيطرة كاملة للمجد وصوره على الذهن، مما يدفع الشاعر إلى طلب تخلي هذا المجد عن هيمنته عليه؛ حتى يرى الصورة واضحة؛ لأنه يرى الأشياء من خلال الماضي، أي أنه لا يرى بلاده إلا في أثواب المجد الذي درجت عليه، ونلاحظ أنه وصف الأباطيل باللعينة؛ لأن الأباطيل تحمل الدلالات السلبية، ولم يصف الأساطير بهذا الوصف؛ لأن تاريخ بلاده قد أحاطته أساطير كثيرة، ولكنه لم يكن أباطيل، بل كان حقائق تاريخية نُسِجت حولها الأساطير، ومن الملاحظ أن هذا القسم يُختتم بلفظ لافت (بسبق إصرار) ليشير إلى التعمد، وينقلنا ذلك إلى القسم الثالث مباشرة، والمرتبط بما سبق، فيقول:
صريرٌ
ببيبان أزماننا لم يكن من قلة الآيبينَ
والراحلين
فتلك المقابر اعتلتها مقابر
والسواتر أتبعتها سواتر
والمنابر فوق الجموع..
يبدأ هذا القسم لفظ (صرير) وهو لفظ لافت في الدلالة بعد ما سبقه (بسبق إصرار) وقد ورد معنى صرير في المعاجم العربية (صرير: اسم، مصدر صَرَّ – أَحْدَثَ البَابُ صَرِيراً: صَوْتاً، طَنِيناً – صَرِيرُ الأُذُنِ: طَنِينُهَا – صَرِيرُ القَلَمِ: صَوْتُهُ عِنْدَ الكِتَابَةِ بِهِ – صَرِيرُ الأَسْنَانِ: صَوْتُهَا حِينَ يُحَكُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ – الصرير، صوت الجراد – صوت الجندب – صوت الحديد – صوت الزجاج – صوت الصرصور المتتابع – صوت العصفور – صوت القلم – صوت حك الشيء) وهو دلالة على أن هناك صوتا ناتجا عن حركة احتكاك بين أبواب الأزمنة؛ ليحملنا ذلك على تخيُّل الحركة وما ينتج عنها من دلالة على كثرة الإنجازات من خلال الإشارة عن كثرة الآيبين والراحلين، وقد عبَّر الشاعر عن ذلك بقوله (لم يكن من قلة الآيبين والراحلين) أي أن الصرير بأبواب الأزمان ليس من قلة الآيبين والراحلين ولكن من كثرتهم، ثم يسوق الشاعر دليلا على ذلك بالإشارة إلى مقابر أولئك الأجداد (فتلك المقابر اعتلتها مقابر، والسواتر أتبعتها سواتر) ثم يختم القسم بقوله (والمنابر فوق الجميع) وهذه الجملة لها أكثر من دلالة؛ فقد تدل على أن بقايا الحضارات التي مرَّت على بلاده شاهدة وناطقة بعظمة تلك البلاد، من خلال استخدام اللفظ (منابر) ثم بعد قوله (فوق الجميع) أي منابر كل حضارة فوق شواهد تلك الحضارة تدل عليها وتنطق بعظمتها، وقد يكون قوله (والمنابر فوق الجميع) دالا على المرحلة الأخيرة من الحضارة التي طرأت على بلاده وهي الحضارة الإسلامية التي أشار إليها بقوله (المنابر) إشارة إلى المساجد، وفي جميع الأحوال فإن هذا القسم من المقطع قد كشف عن عظمة تلك البلاد وتنوع حضارتها، وصمود هذه الحضارة أمام ضربات الزمن القاسية التي أودت بحضارات كثيرة، لينتقل النص بعد ذلك إلى المقطع الثالث، وهو انتقال منطقي يمليه طبيعة التكوين الفكري للنص؛ فبعد أن تحدث عن الماضي وأمجاده، وهيمنته على الذهن كان لابد أن ينتقل إلى الحاضر ومآسيه، ومن ثم كان الانتقال المقطع الثالث بمكوناته الفكرية انتقالا منطقيا؛ ليأخذنا إلى زاوية أخرى من زوايا الرؤية الفكرية التي أرادها الشاعر.
- 3 -
ألا أيها الآكلون قمح البلاد
بهذي البلاد
صرير النواعير صرصرت أبوابنا فاستحالت غثاءً.. بحة
وندوب المرايا دموع الأمهات الصادقات
عرّجوا
نحو تلك التخوم العتيقة عرّجوا..
سائلوا كل بخّاتٍ -عشقه الرمل- عن سيرة السالفين
قبل لعنات النفوط
ثابت ذلك الرمل.. وهو للان
ومهما تحوّل او تغوّل القارُ إسفلتا للصِلات الحديثة
هذي الارض سِفرٌ
بمسمار ومزمارٍ
لوجد وعهد ورمل وسهل ومهدٍ وحرف تكور قصة قصـــة
قصة المجد القديم
يرصد الشاعر في هذا المقطع الواقع، ولكنه يرصد الواقع من منظار الماضي، أي أنه يتخذ من الماضي مقياسا للكشف عن ملامح الحاضر، فيوجه نداءه إلى الآكلين قمح البلاد بهذي البلاد، ولفظ (الآكلون) يحيلنا مباشرة إلى كثير من الآيات القرآنية التي تتحدث عن فكرة أكل الأموال وغيرها، ومنها قوله تعالى في سورة البقرة: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة، الآية 188) فالأكل هنا بمعنى الأخذ بدون وجه حق، وهو يعلم أنه ظالم، وقمح البلاد دلالة على خيراتها، وهنا يضعنا النص مباشرة أمام المأساة الحقيقية التي يراها سببا في انتكاس البلاد، وتراجعها، وإذا عرفنا أن البلاد تمتعت بالخصب والنماء – وقد أشرنا إلى ذلك سابقا – اتضح لنا أن المقصود بالقمح هو الخيرات التي هي لهذه البلاد؛ لقوله (قمح البلاد بهذي البلاد) أي أن الآكلين لخيرات البلاد هم أبناء هذه البلاد، في إشارة واضحة إلى فساد بعض أبناء البلاد، واستيلائهم على خيراتها، ونلاحظ – كما أشرنا سابقا – أن الشاعر استخدم لفظ (الآكلون) بصيغة الجمع في دلالة واضحة على كثرة هؤلاء الآكلين، ومن ثم كثرة الخيرات المنهوبة، وكذلك استخدم اللفظ في صيغة التعريف في إشارة إلى أنهم ليسوا مجهولين، ولكنهم معروفون تماما، وتزداد فكرة أنهم معروفون تأكيدا من خلال استخدام الشاعر لأسلوب النداء مع استخدام أداة التنبيه (ألا أيها الآكلون) ولا يمكن نداء شيء مجهول، ولكن النداء يتوجه إلى معلوم، ومن ثم فإن هؤلاء معروفون، ومعروفة هوياتهم، ولذلك استخدم الشاعر في ندائهم صيغة التعريف مع استخدام أداة النداء الدالة على البعد أيضا (أيها) من خلال إلحاق هاء البعد مع لفظ (أي) الدال على النداء؛ ليدل على أن هؤلاء وإن كانوا من أهل البلاد فإنهم بعيدون تماما عن روح تلك البلاد وأهلها، وأنهم غريبون عن روح بلادهم، وبعد أن ينادي الشاعر على هؤلاء الذين يستحوذون على خيرات البلاد دون بقية الشعب يحيلهم إلى واقع مرير وماض عظيم، فيقول:
صرير النواعير صرصرت أبوابنا فاستحالت غثاءً.. بحة
وندوب المرايا دموع الأمهات الصادقات
عرّجوا
نحو تلك التخوم العتيقة عرّجوا..
سائلوا كل بخّاتٍ -عشقه الرمل- عن سيرة السالفين
قبل لعنات النفوط
يعود الشاعر مرة أخرى إلى لفظ (صرير) وهو الصوت الناتج عن الاحتكاك، وهنا الاحتكاك للنواعير، وهي مصدر المياه، ثم يقول (صرصرت) وقد ورد اللفظ في المعاجم العربية (صرصرَ يُصرصر، صرصرةً، فهو مُصرصِر وصَرْصَر: صاح بصوت شديد متقطع – صَرْصَرَ الدوابَّ: جَمعَهَا ورَدَّ أطرافَ ما انتَشر منها، والصرصرة هي صوتٌ عالٍ وخَشِن في الزَّفير والشَّهيق – الصرصرة هي صوت صياح الإنسان الشديد المتقطع – صوت صياح البازِيَ بشدة وتقطع – صوت صياح الحي الشديد المتقطع – صوْت الجُنْدُب – صوْت الحمار الوحشي – صوت الريح الشديد الباردة) وهي دلالات سلبية في كثير من الأحيان، ثم يأتي اللفظ الآخر الدال بعمق، وهو لفظ (غثاء) وهو يحيلنا إلى الآية القرآنية (أما الزبد فيذهب غثاء) وهذا يدل على أن الغثاء هو الذي لا قيمة له؛ ذلك أن الغثاء هو ما يحمله السيل من خبث وأوساخ، ومن رغوة وفتات الأشياء التي على وجه الأرض، ومنها قوله تعالى (فجعلناهم غثاء) أي صاروا غثاء كغثاء السيل، وتتعدد الآيات والأمثلة للدلالة على ما يحمله لفظ غثاء من دلالة على الأشياء التي لا قيمة لها، فإذا عرفنا أن الشاعر يصف ما تنتجه النواعير بالغثاء، أو يصف الحاضر بأنه غثاء اتضح لنا مدى ما يعانيه الإنسان العراقي في هذا الحاضر، ولكن الشاعر لا يكتفي بذلك بل يضيف دلالة أخرى تعمق المعنى؛ إذ يقول (وندوب المرايا دموع الأمهات الصادقات) في إشارة واضحة إلى المعاناة، وقد قلنا إن الشاعر يرى الحاضر من خلال مرآة الماضي، ومن ثم يأتي القسم الثاني من هذا المقطع؛ إذ يوجه حديثه مرة أخرى إلى أولئك الآكلين قمح البلاد أن يعرجوا على الماضي، فينظروا كيف كانت سيرة السالفين الذين قدَّموا لبلادهم كل الخير على الرغم من عدم وجود الخيرات التي بأيدي المعاصرين؛ حيث يشير إلى ذلك بقوله: (سائلوا كل بخّاتٍ -عشقه الرمل- عن سيرة السالفين قبل لعنات النفوط) أي اسألوا عن سيرة السالفين قبل ظهور النفط، أي قبل وجود تلك الثروات الجديدة التي أصبحت لعنات؛ لأنها أثارت لعاب الطامعين، ولذلك وصفها النص بأنها لعنات في إشارة واضحة إلى نتائجها التي كان من المفروض أن ترفع من شأن البلاد أكثر، ولكنها حركت أطماع الطامعين، ثم ينقلنا النص إلى القسم الثالث من هذا المقطع حيث يقول:
ثابت ذلك الرمل.. وهو للان
ومهما تحوّل او تغوّل القارُ إسفلتا للصِلات الحديثة
هذي الارض سِفرٌ
بمسمار ومزمارٍ
لوجد وعهد ورمل وسهل ومهدٍ وحرف تكور قصة قصـــة
قصة المجد القديم
يشير النص إلى التحولات والثوابت التي أصبحا تتحكم في الحياة المعاصرة، وتحكم حركة المجتمعات، ذلك أن الرمل ثابت، أي أن البلاد ما زالت في مكانها ولم تتغير، ولكن الذي تغيَّر العلاقات التي تحوَّلت إلى إسفلت، وستظل البلاد كتابا للفن والحضارة، وفي كل يوم تكتب قصة للفن والحضارة، إنها قصة الماضي، والمجد القديم الذي ما زال مهيمنا على عقلية البلاد التي لن تتخلى عن فنها وحضارتها، وستظل مهما أكل الآكلون قمح البلاد، ومهما تحول أو تغوَّل القار إسفلتا للصلات الحديثة ستظل تنتج البلاد فنها وتبني حضارتها الموصولة بماضيها المجيد، وينقلنا النص إلى المقطع الرابع؛ ليعود الشاعر إلى فكرة العدْو مرة أخرى كاشفا عن زاوية جديدة من زوايا الرؤية.
- 4 -
أعدو
وأعدو
وأعدو
إلى/ ناقة العشق خلفي وقدامي الهوى
وأجتثُّ هذا الفراغ اللعين
أعدو
وأعدو
هبي
أنني الآن لا أعدو
هبي
أن عينيك مهماز قلبي الضعيف
وشعرك تلك الحدائق،
والحرائق
والكرنفال
هبي أن أرجوحة الضوء
ميس الجميلات في موئل الظل
وأن اكتحالك أضفى على المجد نشوة الارتقاء
وأن نهديك كانا رباي القديمة خلف ذكراي المقيمة
مذ كنت طين
هبي أنى.. بأحلام جدي
كروح الزواجل راودتها المعارج قبل المدارج
نحو بيت يممته القبائل اسمه البيت العتيق..
وللآن حتى، وحتى للقياك في عرفات
عتيقٌ من الاحلام الا من الشجن المعطر
من الملاحظ أن الفعل (أعدو) تكرر في بداية هذا المقطع ست مرات، جاء في خمس مرات بصيغة الإثبات، ومرة واحدة بصيغة النفي، ولكنه في صيغة النفي لم يكن النفي متوجها إلى الفعل/أعدو بقدر ما كان متوجها إلى تخيُّل عدم العدو (هبي أنني الآن لا أعدو) وهو ما يؤكد العدْو/ الجري ولا ينفيه، وفي بداية المقطع يؤكد الشاعر عدْوه نحو ناقة العشق، خلفه الهوى وقدَّامه، وقد يكون العشق هنا بمعنى عشق أمجاده التي ورثها عن أجداده وحضاراتهم، وإذا صحَّ هذا التأويل فإن المخاطبة هنا تكون البلاد متماشيا في ذلك مع ما ورد في المقطع السابق والمقطع الذي قبله أيضا؛ ففي المقطع السابق تحدث عن آكلي قمح البلاد بهذي البلاد، وفي المقطع الذي قبله تحدث عن بلاده العتيقة، مما يرجح أن يكون الشاعر يخاطب بلاده بهذا الخطاب المشحون بالإعجاب والعشق (أعدو إلى ناقة العشق – عينيك مهماز قلبي – أرجوحة الضوء – ميس الجميلات – شعرك الحدائق) ونراه في أثناء عدْوه/ جريه يجتثُّ الفراغ الذي هيمن على كل شيء مما جعل الشاعر يلعنه (الفراغ اللعين) ثم يعود ليؤكد فكرة العدْو مرة أخرى، وبالتالي فإنه يبدأ هذا القسم الأول من المقطع بتأكيد العدْو وينهيه بذكر العدْو ، إنها حالة من الحركة الدائمة والدائبة لاجتثاث الفراغ اللعين، أي الخروج من حالة الضياع التي تسيطر على المشهد، وفي هذا القسم الأول لا يوجد إلا صوت الأنا الشاعرة واصفة نفسها، وأنها في حركة مستمرة، واستخدام لفظ (أجتث) يشير إلى محاولة القضاء التام على الحالة اللعينة التي يدور فيها، حالة الضياع/ الفراغ، ثم يأتي القسم الثاني ليدخل المشهد عنصر جديد اتضح في استخدام ياء المخاطبة في قوله (هبي) ليصبح العنصران مشكلين للمشهد في هذا القسم (أنت – أنا) ولكنه يظهر بمظهر الضعيف وهي تظهر بمظهر المتوهجة (قلبي الضعيف – اكتحالك أضفى على المجد نشوة الارتقاء) هي تتمتع بكل ديناميكية الحياة (شعرك تلك الحدائق والحرائق والكرنفال – أن عينيك مهماز قلبي) وهو لا يملك إلا الضعف والعدْو ومحاولة اجتثاث الفراغ، ثم ينتقل الشاعر إلى القسم الثالث من هذا المقطع ليجيلنا إلى الماضي، ويحيلنا إلى كل ما يضفي على المشهد هالات القداسة (البيت العتيق – عرفات – المعارج – عتيق من الأحلام إلا من الشجن المعطر) وسوف نعود إلى ذلك لاحقا عند حديثنا عن البناء الأفقي للنص، ثم ينتقل النص إلى المقطع الخامس والأخير؛ ليغلق النص من خلاله الدلالة، وتنكشف ملامح الرؤية الفكرية.
- 5 -
يا نبضًا تأطر بالسنابل والحقول
آية.. أنت يا بيرق الاخضرار
راية في سماء البلاد المشرقية تهفو لها الشمس
والإشراق والأشواق
يا بنت الأُلى يمَّموا شطر أسلافهم
واستنهضوا..
نبض الحجر
في هذا المقطع يواصل الشاعر مخاطبة البلاد/ المحبوبة في خطاب يمتزج فيه الحب بالإعجاب بالفخر، ففي البداية يقول (يا نبضا تأطَّر بالسنابل والحقول) وهو إشارة إلى الخصب والنماء، وهو ما تحدث عنه فيما سبق من وصف لبلاده حين قال (بلادي العتيقة كلما تذكرت أشجارها تذكرت أعمارها) فهي في أعمارها الممتدة لم تكن سوى موطن الخصب، ثم يؤكد الشاعر فكرة الخصب والنماء في السطر التالي مباشرة حين يجعل بلاده آية على الاخضرار مستخدما لفظ بيرق وهو العلم أو الراية، أي أنها علم على الاخضرار، أي علامة دالة على الخصب والنماء، ثم يعود مرة أخرى إلى الفكرة الثانية التي أشار إليها سابقا، وهي فكرة الأمجاد، إذ يقول ( راية في سماء البلاد المشرقية تهفو لها الشمس والإشراق والأشواق) في إشارة واضحة على الأمجاد (تهفو لها الشمس) مفتخرا بهذا المجد العتيق، ويؤكد الفكرة أكثر في قوله في نهاية النص (يا بنت الألى يمَّموا شطر أسلافهم واستنهضوا نبض الحجر) فاستنهاض نبض الحجر يدل على القوة والإرادة التي تمتع بها الأسلاف، ولكنه لا ينسى أن هذه الروح ما زالت ممتدة في الأحفاد من خلال استخدام جملة (يمَّموا شطر أسلافهم) أي أن الأحفاد يتخذون من أسلافهم قدوة، واستنهضوا الحجر، لقد أقام الشاعر نصه على ثنائية الماضي والحاضر، ولكن الماضي كان أكثر حضورا بإشراقه وأمجاده وـألقه وخصوبته، وقد بدا الحاضر باهت الحضور، ولم يتحدث عنه الشاعر صراحة إلا في مقطع واحد، كأنه يشير إلى أن هذا الواقع ما هو إلا حالة طارئة لن تلبث أن تزول وتعود البلاد إلى سابق عهدها من الأمجاد الراسخة والخصوبة والنماء. وبذلك يتضح لنا أن البناء الرأسي للنص قد استطاع أن يكشف عن رؤية الشاعر التي تمركزت حول ماضي بلاده وأمجادها، وحضر الماضي بكل ملامحه في النص مهيمنا على اللغة والفكر.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى