محمد بشكار - نجيب العوفي النَّاقد المُتجدِّد في الزَّمن الرَّاكِد!

بَعْضُ النَّقْد الأدبي يُعْلي بيْنكَ وبين النُّصوص الإبداعية أبْراجاً عاجِية، فلا تعْرف وأنتَ تُلْقي كأيِّ صيّادٍ بِشَبكِيَّة التأمل إلى مَدىً أبْعَد، هل هذا النَّقْد هو المُتعالي الشَّاهق في مفاهيمه المُسْتوْرَدة التي لا يفهمُها أحد، أمْ أنْت الحَسيرُ القصيرُ أكْثر مِمّا يحْتمِلُه السَّطْح، أوَ ليْس النَّقْد إضاءةً لِطرائق الكتابة ولِمَا اسْتَغْلق أو أعْتَم من معاني، فمَا لِبعْضه المُدجَّجِ بكل ما أنْتَجتْهُ المدارسُ النَّقْدية من أسْلحة منهجيَّةٍ فتَّاكة، عِوَض أنْ يُساعِدني على كَبْح جِماح النَّص الأدبي يَجْعلُني أنَا الصَّريع، لا أُبالِغ إذا قلْتُ إنَّ الإنْشِغال بطنين النَّحْل يُلْهِي عنْ تَذوُّق العسل، لِذلك لمْ أعُدْ أُشْرِك في خَلْوتي بأحد النُّصوص عُنْصُراً ثالثاً ولو كان ملاكاً، وقد بَرَع حقّا "رولان بارط" حين وصف هذه اللحظة المُسْتحيلة بـ "لذّة النَّصْ" ، أوَ لسْنا فِي كُلِّ قراءةٍ جماليّة وروحيّة نأْتِيها بلهْفةٍ وشوْق، نُرِيد أنْ نُصيب وَطَرَنا من لذّة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فكيْف نَسْمح لِساحرٍ يُعلِّق أحْجبةً وطلاسِم يدَّعي أنَّها النَّقْد.. كيف أسْمح لِلقُبْح أنْ يُضلِّلني عنِ الجمال ويُفْسِد بعْد طُول مُراودةٍ ما غنمْتُه مِن وُدْ !
لسْتُ عدميّاً لأُعمِّم هذه الآفَة، ولا نحْتاج لِفتيلِ القنديل كيْ نجد ضالَّتَنا والقمر ساطِعٌ، وهلْ ثمّة سِواه النَّاقد الأديب نجيب العُوفي، يَجْمع في كلمة يخُطُّها من القلب فخْمة بيْن الحُجّة والبيان، بيْن الإجرائية العِلمية والتَّمثُّل، فهو لا يُوظِّف المُصْطلح النقدي المُسْتَدْعَى من ترْسانةِ أحَد التيارات النَّقْدية، تُراثية كانت أو مُعاصرة تحتدمُ بالجدل، إلا ليتمثَّل النَّص الأدبي في عُمْقه الدلالي وجُموحِه التَّخييلي، وكمْ تكْبُر دهْشتي حين يكْتُب العُوفي ما بَقِي عالقاً في خاطِري، فلا أمْلك إلا أنْ أصيح: يُهيَّأُ إليَّ أنَّ طيْف هذا المعنى البعيد، هو ما كنتُ أريدهُ أنْ ينْكتِب على الورق، ولكن هيهات.. فقد انفلت بمنأى عن ملامح أحْرُفي، وها هو يتَّضِح على يد ناقد يتمتَّع بدرجةٍ عالية من الحَدْس، ها هُو يفْتحُ في مَداركِي كل النوافذ !
لِنقُل إنَّ نجيب العوفي يتجاوزُ وظيفة الناقد الذي يُعْتَبر بالعقْلية الإجْحافية القديمة، مُجرّد كاتبٍ من الدَّرجة الثانية تابعٍ لِما يُنْتِجُه الأدباء، وتَكْمُن هذه الإسْتِباقية التي أضْحَت تُوصَف في الأدب الحديث بِقفْزة النَّمِر، في اشْتغاله على الحَلَقة المفْقُودة التي بدون دهشتها لا يَصِلُ النَّص إلى ذِرْوة الإمْتاع، وتلك وظيفةٌ لا يُتْقِنها إلا مُبْدعٌ خلَّاقٌ يتجاوزُ رحلاتِ السِّنْدباد السَّبْع باقْتِراف الثَّامنة، وهي الأخْطَرُ لا تخْضع لِمنْطق الأسْطُر المُسوَّدة للعِيَان، لا تخْضع لِخريطةٍ أوْ بحْر، إنَّما تشتغل على البياض الأخْرس الَّذي لَمْ نسْتطِع أنْ نَصِلَهُ بكلمة، العوفي يصُوغ تلْك الكلمة الضَّائعة التي تسْتَرْعي الإنتباه وتأخُذ بالألْباب، فَتُغْنيك الجَوْهرة الفريدة عنْ باقي القِلادة !
لا أُخْفي أسَفي اليوم وأنا أسْتحضِر أوّل كتابٍ قرأْتُه لنجيب العوفي، وهو "درجة الوعي في الكتابة"، على زمنٍ أدْركتُ من حيويَّته الفِكْرية بعض الشَّرر رُبّما في نهاية الثّمانينيات، لا أُخْفي أسفي وقد انْقلبتْ حُرْقة هذا الوعْي إلى رماد، انْقَلبَ ذلك الوعْي إلى غيبوبةٍ طويلة الأمَد في غُرف الإنْعاش السِّياسي، من يَعْنيه اليوم ما يقوله النَّصُّ الأدبي الذي وهَبَهُ العوفي من الإنْصات أرْهَف الحواس، لقد تَمرْكزت الذَّات حول عُقدِها النَّرْجسية المريضة، وانْقَلب الوعْي بِقَضايا المَرْحلة التَّحرُّرية سواءً إبداعياً أو إنسانياً، إلى واقعٍ لمْ يكُنْ هو المُتوقَّع بالمُقارنة مع قُوة الأفْكَار وحجْم التَّضْحِيات، أصْبح الفَرْدُ ومعهُ القِرْدُ يقول رأسي ثم رأسي.. وبعدي الطُّوفان، بِيع كُلُّ شيء، ولا أعْجَبُ إلا مِمَّن ما زال يُتاجِر بِجُثّة ذلك الماضي بأجْمَل الشِّعارات، لا أعْجب إلا مِمَّن في مُسْتَنْقع هذه الجُغْرافيا الهشّة يُقْحم فِكْره مُكابِراً أوْ واهما، داخل هذا الشَّرط التّاريخي البائِد، نحْتاج فعلاً إلى ناقدٍ مثل نجيب العوفي يدَّخِر احْتِياطياً كبيراً من إكْسِير الحياة، يتجدَّد كُلَّ يوْم وجيلاً بعد جيل، ولا يُهمُّه فِي كُلِّ تناوُل بِمبْضَعِ الجرّاح وليْس بالشَّوْكة والسِّكين، مَنِ الكاتبُ سِنُّه أوِ اسْمُه أوْ ذيْلُه المرْجِعي والإيديُولوجي، هلْ هُو ذاكرةٌ لا تَنْسى لِتنْتقِم من فئةِ الفِيل، أوْ أقْدَم بقليل ويَشِي عَملُه الإبْداعي فِي المُسْتقْبل بِمشُرُوع ديناصُور !
ذلك هو نجيب العُوفي أحَدُ أكْبر وأعْرق الأُدباء والنُّقّاد في العالم العربي، قيمةُ لم تَنلْ حظَّها الذي يليقُ بِعُلوِّ شَأْوها في التَّعْيير النَّقْدي الرَّاجِح والتَّعْبير الأدبي البديع، ومَنْ يَسْأل لماذا فَقَدتْ بعْضُ أكْبر الجوائِز الأدبيّة قيمتها وبريقها في زمننا بعْد أن خَلا الجَو، ما عليْه إلا أنْ يُفكِّر في ذلك الكُرْسي النّاقص دائما في لِجَنِها المُتشابِهة والمشْبَوهة، كُرسي نجيب العوفي أحَد عُتاة النّقد الأدبي العربي الحديث، كُرْسي المِصْداقيّة والكفاءة الأدبّية الرّصينة التي تَجْمع في تناوُلها النّقدي، بَيْن المعْرفة المُتبحِّرة في كل المناهج المُعاصرة، وبين القلْب الصّافي دليلاً يُصيب الرّأي ولا يُخْطئ الهدف، ولكنْ هَيْهات أنْ يؤخذ بالخبْرة والنزاهة والكفاءة الكاشفة للْعورات في زمن المَباءة، هَيْهات أنْ أفُكَّ الارتباط مع الأمل ونجيب العوفي بيْننا يتجدّد كُل يوْم مع ما نبْتكِرُه من جنون، هو الوحيد الذي يستطيع أنْ يُعْديك بكيمْياء شبابهِ السِّحْرِي، لِتنْتَفِض فجْأةً كأيِّ طَليعيٍّ يَتنكَّر لِجيل الإحْبَاطْ !


محمد بشكار


.................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 25 ماي 2023.


بشكار.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى