ذياب شاهين - بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد (نازك الملائكة) (ج1)

(ج1)
البحث عن السعادة والخوف من الموت

مقدمة
من الغريب حقا أن تؤرق الشاعرة "نازك الملائكة" ذات الثلاثة والعشرين ربيعا في حينه قضيتان خطيرتان حيرتا قبلها الكثير من العلماء والمفكرين والشعراء وهما السعادة والموت، وهي بهذا العمر الصغير نسبيا الذي يكون فيه الإنسان مقبلا على الحياة بكليتها تؤشر استباقا زمنيا على مستوى الخبرة والتجربة مطلقة أسئلتها الوجودية الخالصة والمدهشة بما يضارع ما يفكر به القلة القليلة من الناس ، ليس هذا فقط بل إنها تقوم بشعرنة هذه التساؤلات من خلال رحلات خيالية مجهدة لإيجاد أجوبة لها، وكأنها بفعلها هذا قد مدت يدا لتقطف لؤلؤ الوجود من محارته الشاهقة ولتشيد عالما خاصا بها هو عالم السكون والليل ولتكون نجمة هذا الليل المتلألئة وبالتالي لتحتاز عظمة ومكانة فريدة في تأريخ الشعر الحديث .
إن رحلة "الملائكة "تلك امتدت لتشمل بقعة زمنية مقدارها عشرون عاما وبالضبط من عام 1945 وحتى العام 1965...وهذه الرحلة الوجودية قد تكون متقطعة ولكنها كانت تعمل وتحفر في لاشعور الشاعرة رويدا رويدا، وإذا كانت نازك قد بنت مجدها الشعري من خلال دواوينها الأولى الثلاثة وريادتها لحركة الشعر الحر(شعر التفعيلة) إلا أن تلك الفترة من حياتها يبدو لي لم تستكشف جيدا بالرغم من وفير شعرها الذي يبلغ أكثر من ألفي بيت، تلك الرحلة التي لم يكن ليضمها أي من دواوينها (عاشقة الليل، شظايا ورماد وقرارة الموجة)، حيث أبانت عن هذه الرحلة في المجلد الأول من أعمالها الكاملة .
لا شك أن قراءاتها الفلسفية واطلاعها على الشعر الإنكليزي هما من ألهماها وفتحا عينيها على جوانب مهمة من الحياة المضيئة منها والمظلمة، وبالتالي فإن تلك القراءات هي من جعلها تعشق الليل الفيزياوي وتنحاز إليه ليكون معادلا لليلها الروحي المعتم ولأسئلتها الكونية والوجودية والتي كانت تشكل وتنسج شبكة عنكبوتية حولها في المستويين الزمني والمكاني، حيث تقول نازك عن فلسفتها في تلك الفترة إنها ضمن رؤيا شوبنهاور الفيلسوف الألماني حين يقول(1):- لست أدري لماذا نرفع الستار عن حياة جديدة كلما أسدل على هزيمة وموت ، لست أدري لماذا نخدع أنفسنا بهذه الزوبعة التي تثور حول لاشيء؟ حتام نصبر على هذا الألم الذي لا ينتهي؟ متى نتذرع بالشجاعة الكافية ونعترف بأن حب الحياة إكذوبة وأن أعظم نعيم للناس جميعا هو الموت.
إن روح التشاؤم الذي يطفح به المقطع أعلاه كان بالنسبة للشاعرة شعارا، وهو الذي اتخذته في كتابة مطولتها الأولى والتي اسمتها(مأساة الحياة)، هذه المطولة ذات الألف والمائتي بيت شعريا هي التي نجد فها أسئلة الشاعرة وتفاصيل رحلتها في البحث عن السعادة، وهي تقول أيضا عن تلك الفترة(2):- والواقع أن تشاؤمي قد فاق تشاؤم شوبنهاور نفسه، لأنه -كما يبدو- كان يعتقد أن الموت نعيم لأنه يختم عذاب الإنسان ،أما أنا فلم تكن عندي كارثة أقسى من الموت، كان الموت يلوح لي مأساة الحياة الكبرى، وذلك هو الشعور الذي حملته من أقصى أقاصي صباي إلى سن متأخرة .
وتلخص الشاعرة الملائكة المواضيع التي اختارتها في كتابة المطولة(مأساة الحياة) وترى أن موضوعها كان فلسفيا ليس غير ويدور حول الحياة والموت، وكذلك فهي تشعرن المآسي التي خلفتها الحرب العالمية الثانية وفيها دعوة صريحة للسلام وانتقاد حاد لتجار الحروب وتتحدث عن السعادة وتتساءل فيما إذا كان لها وجود في هذا العالم، ثم تفصّل في موضوعة البحث عن السعادة..وتقول إنها كانت تعتقد بوجودها في بيوت الأغنياء، ولم تجدها لأن المال لا يدفع عن الإنسان وحشة القبر والأكفان وهي برؤيتها تلك إنما تتكئ على مرجعية إسلامية واضحة، حيث نقرأ (3):-
قد بحثنا عن السعادة لكن
ما عثرنا بكوخها المسحور
أبـــدا نـسأل الليـالي عنــها
وهي سر الدنيا ولغز الدهـور
طالما حدثوا فؤادي عنهــا
في ليــالي طـفـولتي وصـبايا
طالما صوروا لعينيّ لقيا
ها وألـقـوا أنـبـاءهـا فــي رؤايــا
فهي آنـــا ً ليســت سوى العطر والأ
لوان والأغــنــيات والأضــواء
ليس تحيــا إلا على باب قــصــر
شيدته أيـدي الغنـى والرخــاء
إن رحلة الشاعرة في البحث عن السعادة بين القصور، كانت رحلة خائبة حيث لم تجد الشاعرة هناك أية سعادة(4 ):-
سرتُ بين القصور وحدي طويلا
أسأل العابرين أين الطروب؟
فــإذا فــتـنـة الـقـصـور سـتـــار
خادع خلفه الأسى والشحوب
والغنى لن يُنجي الغنيَّ من الأحزان ولا الكبرياء الذي يجلبه المال لهم ينجيهم من الموت فهم سواسي في ذات المصير مع باقي عباد الله(5):-
ليس ينجيهم الغنى من يد الأشـ
جان ليست تنجيهم الكبرياء ُ
ليس يعفو المماتُ عنهم فهم حز
نٌ وصـمـت وحـيرة وبــــكاءُ
وهذا ما جعل الشاعرة تنأى عن قصور الأغنياء فهي أكثر حزنا وشجنا، والمهم للشاعرة أن ساكني هذه القصور ليسوا بمنجى من يد الموت لذا نسمعها تقول (6):-
يا طـــريقــي ملْ بــي العشية ما عا
دَ جمال القصور يحلو لعيني
لم أ جدْ ومـضة الســعـادة فـــيـــها
لم أجدْ غير ظل يأس وحزن
كانت الشاعرة تظن أنها ستجد السعادة عند صوامع الزهاد والرهبان، وبالتالي نراها قد وجهت دفة شراعها نحو أعلى الصخور حيث تقام المعابد هناك متلألئة وهي تلثم السماء (7):-
ســرْ بـنـا نحو ذلــك المـعبـد القا
ئم فوق الصخور بـــيــن الجبال
سـرْ بــنــا لــعـــل لــــــدى الرهــ
بـان ســـرّ النــعــيـــم والآمــــــال
هــــؤلاء الزهــاد في القــنـة البيـ
ضاءَ حـيث الصــفاءُ مـلئ الوجـود
عـلـهم يـعـرفـون ما قـد جـهلـنا
عــن شــهــاب الــســعــادة الـمـفقود
إلا أن ما تبحث عنه الشاعرة قطعا غير موجود هنا، حيث يبدو لي عصيا عليها أن تفهم أن سعادة الزهّاد الخالصة هي التقرب من الله بأجسام عارية وجائعة، وعصيا عليها أيضا أن تعرف أن الرياضات القاسية والجوع هو من يوصل المؤمن الحقيقي إلى الله، لذا فأن سعادتها هو غير سعادتهم، وما ينشدوه غيرما تنشده هي، وبالتالي ترجع خائبة من عالمهم وهي أكثر شك مما كانت حتى أنها تشك في انتمائهم الفيزياوي للبشر وتتساءل عما إذا كانوا آدميين أو غير ذلك !(8):-
لـم أجـد فـي تلك الصوامع غير الـ
أوجه الــشــاحــبــات والــديــجــور ِ
لم أجـد غـيـر وحــشــة ٍ تـبعـث اليأ
سَ وصـمـت ٍ كـمثل ِ صــمت الـقـبور ِ
هــؤلاء الأشــبــاح مــاذا تـــراهم؟
آدمــيــــون أم بــقــــــايــا طــــيــوف
فــيـم جــاءوا هــنــا وأيــة ســلــوى
وجــدوهــا ما بــين هـــذي الكــهــوف
وعندما تسأل الشاعرة هؤلاء الزهاد عن سعادتهم، يأتيها جوابهم على غير ما تشتهي، أو على غير ما كانت تتوقع، وهذا بسبب أن الشاعرة ينطوي في داخلها النقيضان، كأنها واقعة تحت تأثير قوتين وسعادتين الأولى دينية والثانية دنيوية، فهي تريد الخلود وهو مطلب لن تناله الأجساد الترابية لأنه مختص بأهل السماء، وتريد السعادة وهو مطلب أهل الأرض، وبالتالي فهي لن تنلها، لأن سعادتها هو حصد عشبة الأبدية، وهذا مايفسر لنا سرحزنها المفرط(9):-
ماالذي عندكم من البشر والأف
راح ؟ مـاذا يــا أيها الزاهــدونا
ليس إلا عــمرٌ يــمرّ ُ حــزيــنــا
يــتــهــادى كــآبــة وٍســكــونـــا
حدثــونـي عــنكم فقالوا :قلوبٌ
نــُسجــتْ مــن نــقــاوة ٍ وثـــــراء
ونـــفـوس صيغــتْ من الزهـر والعط
ر ِ وهامت مــع الـسنا والنقاء
وإذ لا يسعفها جواب الزهاد والرهبان، لإتسامه بالمثالية المتكلفة تجد أن ضالتها هي أبعد من أن تكون موجودة في هذا العالم الغريب، هي تنشد الخلود وهؤلاء ينشدون الله وشتان مابين الطريقين لذا نجدها تخاطبهم قائلة (10):-
لن تــذوقــوا شـهد السعادة ما دمـ
تم أنــاســيَّ مـــن تــراب ٍ ومــاء
كــتــبــت هــذه الطــبـيـعـة للأحـ
يــاءِ أن يــكرعوا كــؤوس الشقاء
إذن فالشاعرة تنكر عليهم أن يحصلوا على السعادة لأنهم من تراب وماء، وهي بهذا إنما تعكس شقاءها على عالم الرهبان وهو ليس بالضرورة متشاكلا مع احساساتها وإذ تفشل في أن تحصل على ما تريده في عالمهم فهي تتجه بقاربها نحو جهة مغايرة تماما، وهي جهة العوالم الشريرة والتي يعيش فيها الأشرار والطغاة وغيرهم من المجرمين(11):-
قــد رقـبـت الأشرار حــيـنـا فلم أعـ
ثرُ لـديـهـم عـلى سـنــاك الحبـيـب
فـهـم الـبـائـــســون تـطــحـنـهـم أيـ
دي الــلـيــالي بـمـا جـنـوا من ذنوب
ورأيـت الطــغاة يــحــيــون مـحـزو
نـيـن بــيــن الأوهـــام والأشـــبـــاح
لــيــس يــشـــفيهم من الــحــزن واليأ
سِ دواءٌ فــالــــــداء فـــــي الأرواح
يستوي لدى الشاعرة الأشرار من(لصوص وقتلة ومجرمين)مع الطغاة من السياسيين، فهم برأيها في ذات المنزلة، وإذا كان الأشرار معذبي ضمير جراء جرائمهم، إلا أن الطغاة خائفون من أوهامهم أولا ومن الأشباح التي تطاردهم، وإذا كان الضمير الإنساني فعلا هو ما يؤرق الأشرار بمختلف مشاربهم حسب ما تقول به الشاعرة فنحن نتساءل على عكس الشاعرة فيما إذا كان حقا لهذا النوع من البشر ضمير أو وازع يردعهم فلم يمارسون هذه الأعمال ولم لم يتوقفوا عن جرائمهم ويتوبوا ؟مما يدل على أن السعادة لدى هؤلاء الناس هو الإيغال بالجريمة تلو الأخرى، وليس هنالك ما يردهم، ولا شك أن الكتب مليئة بأخبار الكثير من هؤلاء المجرمين أو السياسيين الطغاة، والمصائر التي آلوا إليها لهو دليل على ما نقول وهذا بالطبع يجعلنا نتساءل لماذا أصرت الشاعرة على ولوج هذا العالم.
إن الشاعرة هنا تتكلم عن العوالم التي تلجها بصيغة السارد الكلي العلم والذي يعرف أكثر مما تعرف الشخصيات، وهو يعلم المخفي والظاهر في الروح الإنسانية،حيث نقرأالشاعرة وهي تقول(12):-
فـإذا أخـمدوا هــتـافـات مـظلـو
مٍ فـما يخمدون صوت الضمير
ذلــك الــراقـب الإلهي في النفـ
سِ لسان الهـدى وصوت الشـعـور
أبـدا سـاهـرٌ يـراقــب أقــــدا
ر الـلـيـالي وســطــوة الأيــــــــــــام
أبدا يرمق الحياة من الأعـ
ماق، مــســتهــزئأ مــن الأعـــوام
فإذا حادت القلوب عن الخيـ
رِ علا صـوت ذلــك الــجبـــــــار
فهو الناقم النبيل على الشر
و قــاضــي الطـــغــاة والأشــــرار
وإذ تخيب الشاعرة وترجع مثبطة الهمة من عالم سعادته هي سعادة الأرواح الشريرة، وهو غير عالم نازك بالمرة، والذي هو عالم الروح المرهفة والروح الشاعرة، نجدها تتجه نحو عالم آخر هو عالم الريف حيث تنشد مكانا وادعا وآمنا قد تجد مبتغاها فيه، وهو عالم مختلف لا يمثل عالم أشخاص بعينهم مثلما لاحظنا سابقا في رحلاتها الثلاث الأولى(الأغنياء والزهاد والأشرار) بل تتجه إلى عالم الطبيعة الفاتن(13):-
عند هذي الأكواخ شاعرتي ألـ
قي المراسي تحت الفضاء الصاحي
أنـظري أيُّ عــالم فاتــن المجـ
لى بـــعيــدٍ عـــن ضـجـــة الأتـراح
أنظري عــلـنا بلغــنا أخـــيــرا
ذلـك الشـــاطــئ الــذي نــتــمـــنــى
بــعــد ليل مــن الــمسيـــرطــويــل
ضاع فـــيه عــمري كــلالا وحـــزنـا
ولكن عالم الريف الجميل يحتضن الرعاة والفلاحين، وهؤلاء تبادرهم الطبيعة برعودها وثلوجها وذئابها، فهي أشد وطأة عليهم من جمال الريف، فليس هنالك منأى لراع ٍمن ذئب مفترس، وليس هنالك منجى لحقول القمح من أن يغمرها الثلج ويقتلها، حتى أن الرعاة والفلاحين يودون مغادرة أكواخهم إلى القصور والمدن، فهي أكثر أمنا لهم من الريف (14):-
خيــبتْ هـذه القـرى حـلو أحـلا
مـي فــلا رســم للسعـادة فـيها
ليس يدري الراعي المعذب مأوا
ها ولا كان مــرة مــن بــــنيها
يتمنى أن لو تـبدل بـيـت الط
ين قــصــرأ عــلى حــفــاف المدينة
ويريد الحــياة لهوا فلا أغـ
نـام تـثـغـو ولا نــفــوسَ حــزيـنــة
إذن عالم الريف مخيب للآمال أيضا كالعوالم السابقة مما يجعل الشاعرة تقصد عالما آخر هو عالم الفنانين والشعراء(15):-
أنشري يــا سفينُ أشرعة السيـ
رِ وشقي عبـــابَ هــذه الحياة
ثم أرسي بنا على شاطئ الفن
وبيــن الأشــعــار والأغــنيات
عــلــنا واجدون في ذلك الشا
طئ ظــل الســعــادة المتــمنــى
علهم قد ترشفوا شهدها السا
حر حتى صـاغـوه شـعرا وفنــا
ولكن للشاعر عالمه، وله مأساته أيضا، وقد تكون سعادته من نوع آخر.. ونفترض نحن بوصفنا قراء أن العالم الذي تغزوه الشاعرة هو عالمها الأصلي، وهي أعرف من غيرها به، وبالتالي فهي شاءت أم أبت تتكلم عن عالمها هي حيث تقول(16):-
طالما بات ساهد الطرف حيرا
ن يسر الظلام أحزان شــاعــر
لا يــرى في الحــياة إلا وجـودا
ظللته يد الشــقــاء الــعــاصــر
أبدا لا يرى سوى مســرح المــأ
ســـاة بـيــن الدموع والتـهيد
وســتـــارا مــن الــدجى يــتــجـلى
كل يـــومٍ عــن مــيـت وجــديد
الشاعرة هنا ليس لها ثقة بما يحيط بها، فالحياة لا تنطوي إلا على شقاء مستديم وليس هنالك سوى الدموع ولعبة الحياة والموت هو ما يدور في أرجائها، وهذه اللعبة هي لعبة الوجود بامتياز، وكأن الشاعرة وهي تتعمق في الإنصات إلى لغة الكون ترى ما لايراه الآخرون، حيث تساق المخلوقات إلى الموت كما تساق الأنعام للمقصلة، فلكل نهايته ولا خلاص من هذا القدر، ولذا فالشاعر في نص الملائكة معتكف في صومعته ولا تظلله سوى نجوم العزلة منصتا للحفيف والهديل ودوي الرعود الذي ينساب إليه من البعيد البعيد، فأية حياة هذه يعيشها الشاعر(17):-
هـي عـمـر ظـمـآن تـعصـره العـز
لة ُ عـصــراً، يــمـــرُّ ، كالآزال ِ
في سكون ٍلا صوتَ يـُسـمعُ فيــه
غير صوت الصرار تحت الليالي
غير همس الحمام في الجبل المو
حش أو لــحــن بلبل مهجـــور
وحـفـيف الأشــجار في قبضـة الر
يح وصوت الرعود في الديجور
ليس هذا فقط، بل إن الشاعرة يؤرقها أيضا حياة الناس البسطاء وجهادهم في الحصول على قوتهم اليومي وهي تذكر الشاعر أن أرقه لن يوقف نواميس الحياة، بل حتى الناس الذين يؤرقه عذابهم يكادون لا يشعرون بما يجري لهم فهم نيام وهو ساهر(18):-
عجبا كيف تسهر الشاعرَ الملـ
همُ أحزانُ من عن الحزن ناموا
كيف ترقــا مدامع الورد في الحقـ
ل ِ ويبكي على أساها الحمــــام ُ
في واقع الحال نقرأ في ثنايا هذا النص سمفونية شاهقة تخطها أنامل الشاعرة عن مأساتها ومعاناتها في الوصول لقطف الشعر من مكامنه القصية، إنها تصف آلامها وأشجانها وهي تطأ تخوما غير عادية لتصطاد جواهرها ولقاها الثمينة(19):-
فــإذا جــاش قلــبه بمعاني الـ
يأس ألــقى أحــزانــه في النــشيــد
لائــذاً بـالــيراع يـسكـب فـيه
مـا يــعــاني من الــعـذاب الشــديــد
ســاكـباً روحــه علـى كل بيت
نــاحــتــا مــــــن فــؤاده الألــحــانــا
راضياً بالــشحوب والسقـــم حبا
لأبــولــو مســتــسهــلا مــا كــانـــا
إن المجد الذي يناله الشاعر لن يكون مجدا مجانيا بأية حال من الأحوال، بل على الشاعر أن يسعى إليه، ويدفع ثمنا مقابل ذلك من راحته وصحته، فالأرواح لن تسمو إذا لم تغتسل بالدموع والشاعر لن يعلو إذا لم تسوطه الحياة بآلامها(20):-
ليس تــعطي الحياةُ للشاعر المجـ
دَ إذا لم يـذقْ هـموم الحـياة
ليس تسمو الأرواحُ إن لم تطهرْ
ها مــعانـي الـدمـوع والآهات
أما مصير الشاعر فهو قاتم عند "نازك الملائكة"، فهذا الشادي الذي ملأ الكون غناء ونشيدا، والذي يبكي على الآخرين، لا يعره أذنا أحد، ذلك الرحّال الأبدي الذي أدمت أقدامه الأشواك، ستلقيه الحياة أخيرا في حفرة موحشة، وفي مكان مقفر لا تصفر فيه إلا الريح منسيا، غريبا وحزينا (21):-
نبذته الأيام في قبره المو
حش تحت الرياح والظلمات
حيـث لا آهـة يصـعدها قلـ
بٌ ولا دمعةٌ على المــأسـاة
هكذا في العذاب تمضي حياة الشـا
عر الملهم الرقيق وتـنسى
هــكذا يمــلأ الوجــود جــمــــالا
ويذوق الآلام كـأسا فكأسا
أليس هذا هو مصير نازك الملائكة في منفاها، ومصير السياب والجواهري والبياتي، إنه مصيرنا كافة، على أية حال سوف نغادر عالم الشعراء والفنانين مع نازك الملائكة إلى عالم آخر هو عالم العشاق والحب، لنبحث معا عن السعادة، وإذا كانت سعادة الملائكة هوالخلود وعشبة الأبدية فهل في هذا العالم سعادة ترتجى(22):-
ربــما كــان فــي حـياة المحبيـ
نَ رجــاءٌ أو دفــقــةٌ من ضياء
ربــما كـان عنــدهم ذلـك الإكـ
سيرُ بــيــن الخــيــال والأهــواء
شــاطئ الـحــب أيــها اللامع الخا
دع هــات الــحديث عــن أبــنائك
صف مناهم وبشرهم وأساهم
صف لنا مااختفى وراء صفائــك
ولا شك في أن عيونَ الغيد الحسان تكوي القلوب وتلسعها كما لا تلسع نار مثلهن، إنَّ جفاءهن يترك أثرا داميا في القلوب لا يندمل بسهولة حتى مع جارف الأيام، إذن عن أية سعادة تبحث الشاعرة في هذا العالم المسكون بالتأوهات والحشرجات(23):-
وتمرُّ الحياة والعاشق المهـ
جــورُ قـلـبٌ دامٍ ووجـهٌ شاحب
أبـدا يرجع الخـيـال إلى الما
ضي ويبكي على الغرام الذاهب
إن العاشق يعيش على ذكرى الحبيب، فهي التي تحيي غرامه كما أن الذكرى عقارُه الوحيد ليس غير، ولا تنفع معه شكوى(24):-
يا لقلب المسكين تلذعه الذكـ
رى وتحيي غرامه وأساه
هكذا قد قضى عليه كيوبيـ
ـد فــمــاذا تـفـيد شــكـواه؟
ثم تعرج الشاعرة على أمير الشعر العربي"قيس بن الملوح"حيث نقرأ(25):-
كيف مات المجنون؟ هل سعدت ليـ
ـلـى ؟ســلــوا الــصــحــاري الــحــزيــنه
إ ســألوها مــا حــدث الريح قيسُ الـ
أمس لـــيــلاً وكــيــف عــاش ســنــيــنــه
وهي تحاول أن تذكرنا أن عالم العشق لا سعادة فيه ترتجى، وهو أيضا لن يحمي العاشق من الموت، وهي ترسم لقيس صورة مأساوية حين تقول(26):-
ثـم جـاء الصـبـاحُ يــوما وقـيسُ
في يـد الموت ذاهــل مصـروعُ
ليس تبكيه غير تنهيدة الريـ
ـحِ وصوت البوم الكئيب دموعُ
إن سعادة تبحث عنها الشاعرة في واقعها هروب من عالم الموت، وهي تذكرنا بالبطل"جلجامش" وبحثه عن عشبة الأبدية، وإذا كان البطل الأسطوري قد احتاز العشبة عند اجتيازه لبحر الظلمات، إلا أنه قد أضاعها سريعا عندما سرقتها منه الأفعى، ولكن الشاعرة وبرغم من مرورها بكثير من المرافئ وعبورها الكثيرمن البحار إلا أنها لم تحصد سوى قبض ريح، وكأننا نتذكر تحذير سيدوري فتاة الحان لجلجامش وهي تقول له:-إرجع أوروك فالحياة التي تبغي لن تجدها.


(يتبع)


.../...



نازك.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى