أ. د. عادل الأسطة - القدس.. ملف (1.....10)

1- قالت لنا القدس

"قالت لنا القدس" هو آخر كتب القاص محمود شقير، فقد صدر عن وزارة الثقافة الفلسطينية في العام الحالي، ويبدو أن مؤلفه محظوظ، فما ان انتهى من كتابته حتى وجد طريقه للنشر، خلافاً لمخطوطات اخرين كثر ما زالت تقبع في مكاتب الوزارة، وربما كان موضوع الكتاب السبب فهو عن القدس والوزارة، في عام القدس عاصمة للثقافة العربية، اهتمت بالكتب التي تناول اصحابها المدينة: شعراً ونثراً ودراسات.
و "قالت لنا القدس" هو مجموعة مقالات كان شقير نشرها على صفحات "أيام الثقافة" في جريدة "الأيام" خلال العام المنصرم، وقد استخدم القاص مفردة "نص" لتحديد جنس العمل الأدبي، كما ادرج تحت العنوان الرئيس المفردات التالية: نصوص، يوميات، شهادات. وكتب شقير في كتابه عن المدينة الآن والمدينة كما كانت وكان اصدر في العام 1999 كتابه "ظل آخر للمدينة: سيرة مدينة" ليقارن فيه بين القدس قبل ابعاده عنها وبعد عودته اليها 1975 -1993، كما كتب شقير في كتابه عن فضاء المدينة في يوميات السكاكيني، وكتب في مديح بنات القدس وعن شبابيكها، وما يجري الآن من ترييفها، هي المدينة المعزولة عن ريفها، كما كتب عن مقاهيها التي تتناقص باستمرار، وقارن بين شطري المدينة: الشرقي الذي يذوي والغربي الذي يزدهر، وآتى على العمران في ضواحيها، وشارع الزهراء والتبدلات التي تمت فيه، كما كتب عن ثقافتها المعزولة بسبب حصارها، ولم يغفل الكتابة عن تبدلات شارع صلاح الدين، وعن فنانيها: فرانسوا ابو سالم وعادل الترتير، ولكونه قاصاً وكاتباً فقد التفت الى غياب المدينة في النصوص السردية، كما انتبه الى حضورها في السير والشهادات واليوميات، ومن المؤكد ان الكتابة عن القدس لن تكتمل ما لم يكتب عن بيت السكاكيني ومقهى الصعاليك، وعن مفارقات الحصار الآن وسورها القديم والجديد والاخير ذكره، هو الذي زار برلين، بسور برلين.
آخر ما كتبه شقير في كتابه كان تحت عنوان: أنا والقدس والكتابة وقد لفت هذا العنوان وما أدرج تحته نظري للكتابة عن القدس في نصوصنا الادبية، كان شقير كتب من قبل عن القدس والنص السردي الغائب، ما دفعني ذات نهار، لكتابة مقال، في هذه الزاوية، تحت العنوان نفسه آتي فيه على النصوص القصصية بخاصة في القصة القصيرة التي اتى مؤلفوها فيها على القدس، واتخذوها بعداً مكانياً لها.
يكتب شقير تحت العنوان الأخير: أنا والقدس والكتابة، عن حضور مدينة القدس في قصصه ونصوصه، ويرى انها لم تكن ذات حضور طاغ، فهو، حتى اللحظة، لم يتمكن من امتلاك المدينة على النحو الذي يتمناه، ولم يتمكن من التعبير عنها الى الدرجة التي يرغب فيها، ويعزو ذلك الى اسباب منها نشأته القروية على تخوم المدينة، فقد تركت أثرها على حياته، "بحيث إن طول ملازمتي للمدينة، وكثرة ترددي عليها لسنوات طويلة، وتعرفي الى كثير من التفاصيل التي تشتمل عليها، لم يسهم في كسر الحاجز الرهيف الذي بقيت اشعر به تجاه علاقتي بها حتى الآن" وشقير لا يتقن الكتابة عن المكان الا إذا كان ملتصقاً به على نحو حميم، ولأنه لا يعتبر المكان في قصصه مجرد اطار خارجي، "بل أراه جزءاً عضوياً من بنية هذه القصص، وامتداداً اصيلاً لمضمونها ولشكل صياغتها الفنية". (ص 185).
طبعاً لا ينكر شقير فضل القدس الكبير عليه "فلولاها لما كنت كاتباً، ولولا مجلتها الثقافية التي نشرت اولى قصصي فيها، ولولا صحفها التي جعلتني على تماس مع القضايا العامة، ولولا مكتباتها التي أمدتني بالكتب الادبية والمجلات الثقافية، ولولا دور السينما فيها، التي فتحت لي أفقاً ثقافياً كنت أفتقر اليه، لولا كل ذلك لما دخلت عالم الكتابة، أو لعلني ما كنت لأستمر في الكتابة". (ص 190).
وقد لامس كلام شقير السابق، وأنا أقرأه، لامس فيّ وتراً حساساً، كأنه عبّر عما اعبر عنه في اثناء كتابتي عن المكان في قصص قصاصينا وأشعار شعرائناً، فأنا واحد من الكتاب لا استطيع ايضاً الكتابة الا عن اماكن اعرفها او عن تجارب أمر بها، ولا اكتب أيضاً عن المكان في نصوص كاتب إلا إذا كانت له صلة بهذا المكان وتركت أثرها عليه. هكذا كتبت عن درويش والمدينة، وعن القدس والسواحري وشقير وهنية وفياض، وربطت بين كتاباتهم عن المدينة وتجربتهم فيها.
مؤخراً، طلبت مني مؤسسة فلسطين للثقافة أن اكون محكماً في لجنة تحكيم الاعمال الادبية لجائزة القدس، وطلبت ان تكون الافضلية في منح الجائزة لما يكتب عن القدس، وهكذا قرأت غير رواية كانت المدينة حاضرة فيها حضوراً لافتاً، حتى لكتاب لم يزوروا المدينة ولم يعرفوها، مثل الكاتب الفلسطيني حسن حميد "مدينة الله" والكاتب العراقي علي بدر "مصابيح اورشليم: رواية عن ادوارد سعيد". وكان سؤالي الذي اثرته وأنا اقرأ الروايتين: كيف يكتب كاتب رواية عن مكان لم يزره ولم تكن له معه علاقة حميمة؟ "قالت لنا القدس" اجاب فيه شقير عن سؤالي.

بعيداً عن السياق وزيرة الثقافة والثقافة
وزيرة الثقافة تجد وتجتهد من أجل حراك ثقافي وحياة ثقافية، ولهذا تبدو كثيرة الحركة، ففيها البركة، هل هي فترة الاسترخاء التي ساعدتها ولم تساعد غيرها من الوزراء السابقين، ام يعود السبب اليها؟ خلال العام الماضي والحالي اجتمعت مع وزيرة الثقافة، أنا قليل الحركة، ثلاث مرات، في مبنى المحافظة في نابلس من اجل رعاية الاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة )2009( وفي سلفيت، حيث رعت احتفال مؤتمر الادب الشعبي الذي شاركت فيه بورقة عن توفيق زياد، وفي مكتب وزارة الثقافة في نابلس، لدراسة واقع الثقافة في المدينة، ودراسة آلية تفعيلها، ولو هيئ لي السفر الى الجزائر والشارقة لكنت اجتمعت بها هناك ايضاً، وحتى اللحظة، لم اجتمع مع الوزيرة في مكتبها في رام الله، وهذا ما كان يتم سابقاً، في عهد وزراء سابقين، حيث كانت الوزارة تدعونا، نحن الكتاب للالتقاء بالوزير في مكتب الوزارة هناك. هل وزيرة الثقافة الحالية ابنة الشعب الذي ظلت وفية له، ولم تتنكر لما آمنت به ونشأت عليه، خلافاً لعمر القاسم في قصة زكريا تامر: "يا أيها الكرز المنسي". كان عمر القاسم معلماً فقيراً بلا سند، وهكذا عين معلماً في قرية بعيدة عن العاصمة، وعاش مع الفقراء وبينهم، فأحبهم وأحبوه وأطعموه الكرز الذي رأى في لونه الاحمر دم الفلاحين، ومع مرور الايام غدا عمر وزيراً ما جعل القرية/ الضيعة تشعر بالسعادة، وسافر مندوب عنها، ومعه سلة كرز، ليبارك لعمر بمنصبه الجديد، ولكن المندوب عاد ومعه السلة كما هي، ولأن تامر يومي ولا يقول مباشرة، فقد قال الريفي لأهل ضيعته: عمر القاسم مات.
وزيرتنا ليست مثل عمر القاسم. وهي لا تطلب منا ان نذهب اليها، فهي تزور المدن والقرى وتسافر وتتنقل وتتناول معنا طعام المسخن وتحتج على احضار المشروبات الاسرائيلية، مثل بعضنا، وهي تجلس معنا وتستمع الينا: كيف يمكن ان يكون للثقافة حضور؟ ماذا يمكن أن نفعل؟ ما هي اراؤكم ومقترحاتكم، انها تحاول ثقافة او قد تخفق فتعذر، قياساً على ما قاله امرؤ القيس: نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا.
كلما اجتمعت مع وزير ثقافة، وقد حدث هذا غير مرة، اكرر آرائي: تفريغ عدد من الكتاب، لا ليكتبوا عملاً أدبياً، وإنما للذهاب الى المدارس والجامعات يومياً لمدة عام، لقراءة نصوصهم، والحديث عن الحركة الثقافية، القيام بعرض مسرحيات في المدارس، وكذلك اقامة معارض فنية متنقلة و... و... ويأتي وزير ويذهب وزير والافكار هي الافكار، ومع ذلك لا افقد الامل، هل ترك محمود درويش روحه فيّ حين قال: نربي الأمل!

عادل الأسطة
2010-04-25


*-*-*

2- في القدس....مشيت الخطا ذاتها

في يوم الأحد الماضي 16 حزيران وجدتني أزور القدس .
ذهبت إلى رام الله في التاسعة لأنهي معاملات التقاعد في هيئة المتقاعدين ، وعرجت على فندق الرنتو لألتقي بالكاتب زياد عبد الفتاح ، فقد اتفقنا على موعد لنتحاور في قضايا أدبية محورها كتابه الجديد الذي يهيئه للنشر ، وهو كتاب نشره على حلقات في " الفيس بوك " وتابعته وعقبت على كثير من حلقاته .
الروائي زياد عبد الفتاح صديق للشاعر محمود درويش وقد آثر أن يكتب عن علاقتهما معا كما بقيت في الذاكرة . هذا يعني أنه سيكتب عن الجانب الإنساني في شخصية الشاعر ، لا عن الجانب الشعري الذي يشغل قراء الشعر ونقاده ، وقد يكون كثير من هؤلاء مثلي أنا يعرفون عن الشاعر من خلال متابعة أخباره من الصحف والمجلات والمقابلات لا من خلال المعرفة الشخصية عن قرب ، وأظن أن لقاءاتي بالشاعر على كثرة ما كتبت عنه لم تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة .
حين يزور زياد عبد الفتاح رام الله ينزل في فندق الرنتو الذي كان اسمه عنوان رواية زياد الأخيرة التي لم أتشجع لقراءتها ابتداء لظني أنها رواية تاريخية ، ثم لما تجاذبت والروائي أطراف الحديث عن تجربته عرفت أنها تدور في المكان الذي نجلس فيه وعن رواده ، ما ذكرني برواية نجيب محفوظ "ميرامار " .
- ماذا أفعل بعد أن أنفق ساعتين في الحوار مع الروائي ، واليوم هو يوم الأحد لا يوم السبت ؟
في السنوات الأخيرة أخذت ، كلما زرت رام الله في الصباح ، أفكر في زيارة القدس ، ونسيت مرتين أنه لا يسمح لي بدخولها في أيام السبت إن لم أكن أملك تصريحا ، وفي المرتين عدت من حيث أتيت إلى معبر قلندية .
في يوم الأحد لم تكن ثمة أزمة في معبر قلندية ، ووجدتني خلال نصف ساعة داخل السور الجديد ، فلقد صار للمدينة سوران لا سور واحد ، وسوف أجد نفسي أحور في سطر شعري لمحمود درويش هو " في القدس -أعني داخل السور القديم " . لقد وجدتني أقول "في القدس- أعني داخل السور الجديد " ولم أتذكر مطلع قصيدة تميم البرغوثي :
مررنا على دار الحبيب فردنا
عن الدار قانون الأعادي وسورها "
وتميم يقصد بالطبع السور الجديد لا القديم . أتذكر مطلع قصيدة تميم حين أنسى وأذهب إلى القدس يوم سبت .هنا فقط يردني عن دار الحبيب قانون الأعادي والسور الجديد .
عندما تنقلت من رام الله إلى معبر قلندية صعدت في باصات القدس ظانا أنني سوف أصل إلى باب العامود مباشرة دون المرور الفردي بالمعبر . ظننت أن جنديا ما سيصعد إلى الباص وينظر في الهويات ، ولكني اكتشفت غير ذلك . يجب اجتياز المعبر بطريقة فردية - أي يجب النزول من الحافلة . كل ما في الأمر كان يتعلق بالأجرة ، فحين تسافر بحافلة القدس تحتفظ بالتذكرة ولا تدفع الأجرة مرتين .
وفي الحافلة يلتفت مواطن مقدسي من أصول خليلية إلى أنك قطعت تذكرة ثانية فينبهك ، حين يبصر بيدك التذكرة الأولى ، إلى أنك لست بحاجة إليها .
ما الذي جعلك والمواطن تتجاذبان أطراف الحديث عن ارتفاع تكاليف الحياة في القدس وبيت حنينا ؟
المواطن المقدسي قال إن ثمن الشقة في بيت حنينا يصل إلى 350 إلى 400 ألف دولار ، وأن سعر الساندويش الذي يباع في الضفة بثلاثة شواكل يباع في القدس بعشرة شواكل ، وتحدث عن أسعار الفواكه التي لا يصدق ارتفاعها .
وأنا في شارع نابلس ، قرب المكان الذي كان فيه كشك دعنا لبيع الصحف والمجلات ، قررت أن أمشي الخطا ذاتها ؛ الخطا التي ذرعتها آخر مرة في صيف العام 1992 ، وكنت أذرعها باستمرار حين كنت أزور مكاتب جريدة " الشعب " و " المكتب الفلسطيني للصحافة " حيث كانت تصدر مجلة " العودة " .
انعطفت من مكان الكشك السابق صوب شارع صلاح الدين . اشتريت كعكة ومعها الدقة وواصلت المشي .
ما إن رأيت موقف الباصات حتى دخلت إليه . لم أعد أذكر إن كانت باصات نابلس تقف فيه قبل 1967 ، ولكني أذكر أنني في 1970 و1971 كنت استقل الباص منه إلى بيت لحم مباشرة ، فلم أكن أسمع بطريق وادي النار .إن هي إلا ربع ساعة حتى أكون في بيت لحم وبيت ساحور .
مازال موقف الباصات على ما هو عليه يقل الركاب إلى جبل الطور والقرى المجاورة أيضا . تأملت في الموقف وواصلت سيري ملتفتا إلى الريفيات يبعن الفقوس وورق العنب والعنب والكرز والبندورة والخيار .إنه منظر مألوف منذ عشرات السنين .
على رأس الشارع ؛ شارع صلاح الدين نظرت إلى مكتب البريد الذي كنت أرسل منه الكتب إلى زميلي د.خليل الشيخ يوم كان يعد الدكتوراه في جامعة بون . ليس معي الآن كتب أرسلها فلماذا أعرج على المكتب ؟
انعطفت يسارا إلى مكاتب جريدة " الشعب " التي حررت فيها " الشعب الثقافي " ، بتكليف من الصديق القاص أكرم هنية ، وكان ذلك - على فترات متقطعة - في نهاية 70 القرن العشرين ولغاية أيلول من العام 1987 .
أمام مدخل مكاتب الجريدة توقفت كما لو أنني شاعر جاهلي أو كما لو أنني مثل محمود درويش يتوقف على أطلال قريته "البروة " ومدينته حيفا .
نظرت إلى اللافتات المكتوبة . ثمة عيادة أسنان لمواطن مقدسي من آل السلايمة ، وثمة مكتب محامي شرعي .
" لخولة أطلال " والتفت إلى الدكان المقابل وهو لرجل من آل القواسمي .لم أصعد الدرج الذي صعدت إليه قبل عقود مرارا ودخلت إلى محل القواسمي للزجاج والصور والرسوم والإطارات ولطالما دخلت إليه في الزمن السابق .
في شقتي الأولى الآن بعض لوحات تشكيلية كنت اشتريتها من هذا المحل . تأملت في اللوحات الموجودة لربع ساعة لم يسألني الموجودون خلالها أي سؤال عما أبتغيه ، ثم غادرت المكان إلى شارع صلاح الدين .
2-
على زاوية الشارع هناك محل بيع مكسرات وقهوة غالبا ما كنت أشتري منه . دلفت إلى المحل كما لو أنني أواصل حبل ود لم ينقطع . اشتريت نصف أوقية بندق وكاشو وسألت عن قهوة تركية إسرائيلية تاريخ انتهائها بعيد .
واصلت سيري في شارع صلاح الدين ببطء وتوقفت أمام فاترينة مكتبة أمعن النظر في الكتب المعروضة ولاحظت أنها قديمة الصدور . لم أدخل إلى المكتبة وواصلت المشي أبحلق في المحلات حتى وصلت إلى نهاية الشارع الذي كانت فيه مكاتب المكتب الفلسطيني للإعلام .
آخر مرة زرت فيها المكتب كانت في أيلول 1992 . هنا التقيت بالشاعر والصحفي ابراهيم قراعين ، وهنا التقيت بعبد الكريم سمارة و الشاعر المتوكل طه ورضوان أبو عياش الذي كنت أعرفه في مخيم عسكر القديم ، وهنا التقيت بوليد العمري الصحفي الذي سيغدو مشهورا من خلال فضائية الجزيرة و ... و ... وهنا جلست مرارا أنا والشاعر عبداللطيف عقل الذي كان يقرأ شعره ويتحدث عنه بلهفة كما لو أنه يكتبه بدمه .
توقفت مليا أمام مدخل البناية المغلق أقرأ اللافتات التي خلت من اسم مكتب العودة أو المكتب الفلسطيني للإعلام والصحافة . مات رضوان أبوعياش ومات عبد اللطيف عقل ولم أعد أرى ابراهيم قراعين أو عبد الكريم سمارة ، ولم أعد أعرف أخبار كثيرين و وليد العمري هو الوحيد الذي أراه من خلال فضائية الجزيرة .
سوف اسأل أحد أصحاب الدكاكين عن المكتب وزمن إغلاقه وسيخبرني المكتب ما عاد موجودا وأنه لا يعرف بالضبط تاريخ إغلاقه .
أقطع الشارع إلى الجانب الآخر وأتأمل المحلات التجارية . كان الشارع كما وردت الكتابة عنه في أدبيات المقدسيين ، وبخاصة محمود شقير ، كان في 60 القرن العشرين من أكثر شوارع المدينة ازدهارا من ناحية تجارية ، ففيه محلات بيع الملابس الحديثة ومنها تجهز العرائس .
الآن أنظر في بلاط الرصيف وفي واجهات المحلات فأعرف ما يفعله الزمن في البشر والحجر ، أنا وشارع صلاح الدين هرمنا معا .
في الشارع كما في باب العامود تجد الريفيات الفلسطينيات يفترشن الأرض عارضات بضائعهن فتتذكر آمنة في قصة أكرم هنية "بعد الحصار ..... قبل الشمس بقليل " 1979 .
كانت آمنة زوجة أسير تأتي إلى القدس يوميا لتبيع الخضار والفواكه وتنفق على عائلتها ، فما هي قصة كل واحدة من هؤلاء النسوة - في الحافلة وأنا عائد من معبر قلندية إلى نابلس تحدثت امرأة عن عملها في القدس لتنفق على أسرتها وقد انتقدت امرأة كبيرة مريضة ركبت معنا في الحافلة من حوارة تمتهن التسول ولامت أبناءها المقتدرين المتنفذين في مراكزهم كيف يسمحون لأمهم بالتسول ولم استفسر منها عن أبناء المرأة وعن أصلها وفصلها ، وعن معلوماتها هي أيضا ، واختتمت المرأة كلامها بأن التسول مهنة فتذكرت أمي - رحمها الله - وهي تذكر قصة المتسولة التي تزوجت وعاشت في قصر ولكنها وقفت على الدرج ومدت يدها تخاطب الطاقة " يا طاقة بدي رقاقة " - .
أمعن النظر في المحلات علني أتذكر مكاتب منشورات صلاح الدين ، ولكن عبثا أتذكر .لقد أسهمت تلك الدار من خلال منشوراتها في تكويننا الثقافي وعرفتنا بأبرز الكتاب العالميين والعرب التقدميين ؛ من برتولد بريخت إلى الطاهر وطار وزكريا تامر .
3 - أعود إلى باب العامود ل لأدلف إلى البلدة القديمة . أعود بذاكرتي إلى العامين ١٩٨٦و١٩٨٧ وأتذكر روز وفائزة ثم أواصل سيري . لقد آثرت الوحدة و أدمنتها و أخاطب نفسي :
- عليك أن تنسى إن استطعت .
هل كررت سطرا من أغنية محمد عبد الوهاب :" بفكر في اللي ناسيني "؟
أذرع الخطى نفسها . متى كانت أول مرة ذرعت هذا الطريق؟
منذ سبعينيات القرن الماضي وأنا أزور القدس . ثمة ألفة مع المكان .ثمة صلة لا أظن أنها دينية وإن كانت الأماكن الدينية من أماكن القدس التي أزورها في الغالب .
أمعن النظر في البائعات الريفيات الجالسات ، وأمعن النظر في المحلات ، ولفت نظري وأنا عائد من زيارة الأقصى وكنيسة القيامة اختفاء مقهى . هل كان ثمة مقهى هنا في مدخل باب العامود جهة اليسار وأنت تدخل إلى البلدة القديمة ؟
يستبد بي الفضول وأريد اختبار ذاكرتي فاسأل أحد أصحاب المحلات ليؤكد لي أن ذاكرتي لم تخني .
- نعم كان هنا مقهى وأغلق .
أمشي ببطء شديد وكالعادة تقودني قدماي إلى الأقصى .
على الزاوية التي تقود إلى الأقصى ثمة مجندات يحملن السلاح وقد يرشدن سائحا ما وقد .. ولم تمعن النظر فيهن .تنظر بطرف خفي خشية أن تتهم بالتحرش من خلال نظراتك ، فلم يغب عن ذهنك موظفة الجسر المجندة .
كنت مسافرا إلى عمان وسلمتها جواز السفر ونظرت إليها حتى تتأكد من ملامح وجهك وصورتك ، وفجأة صاحت .
أواصل طريقي إلى الأقصى . الأقصى هو الأقصى والصخرة هي الصخرة وبلاط الساحة القديم يحتاج قسم منه إلى ترميم .
في الرابعة مساء لم تر في الأقصى والساحة سوى عشرات وبعض زوار من العالم الإسلامي .شاب مصري بصحبة شابين آخرين يريدان الدخول إلى المسجد ، فيرتاب بهم حارس ظانا أنهم غير مسلمين ، فيتكلم الشاب المصري الذي يبدو مظهره أوروبيا لا مصريا ، يتكلم بعربية سليمة ويخبر الحارس بجنسيته وأصوله المصرية .
على باب المسجد مصلون يقرأون القرآن ويتعلمون تجويده بروح مرحة فكهة فيها ضرب من التنافس والاختبار .
لماذا ألح علي هاجس استبدال الحذاء أو إمكانية سرقته ؟
لعلها الحكايات التي كنت أسمعها ، ولعلها فكرة رواية Shaar Yahia " حذاء إبليس " التي قرأت من عامين أجزاء منها ثم انشغلت عنها ولكنها ما زالت على أجندة القراءة ، فكاتبها دكتور فلسطيني في الفيزياء يقيم في موسكو ، وكان جاري قبل حوالي ٤٠ عاما . هل خفت أن أدخل إلى الأقصى ثم أخرج ولا أعثر على الحذاء . يا لبؤس مخيلتنا أحيانا بخاصة أننا نعيش في وطن سرق بأكمله !
أمشي في درب الآلام . بعض محلات مغلقة وأصحاب محلات أخرى يجلسون أمامها ولا يبيع إلا بائعو العصائر لعدد قليل من الزوار . بدت القدس مدينة فقيرة عادية لا تزاحم فيها .
أواصل سيري واسأل لأتأكد . اسأل عن كنيسة القيامة ومسجد عمر بن الخطاب . وأدخل إلى الكنيسة . كما لو أنها مدينة بابل . لغات شتى . كما لو أنها لندن التي أقرأ عنها ولم أزرها . خليط بشري وبشر من بلاد متعددة . بيض وحنطيون وسود وكاكاويون و .. وأتجول في الكنيسة . أصغي إلى ألسنة تتكلم لغات لا أعرفها وأشاهد حركات تبدو لي غريبة ، كما تبدو لهم بعض حركاتنا في صلاتنا غريبة .
في مدخل الكنيسة مستطيل كما لو أنه ضريح أو قبر لنبي .
أشاهد نسوة بيضا وحنطيات وسمرا وكاكاويات يقرفصن ويضعن رؤوسهن على البلاط ويخرجن أشياءهن من حقائبهن ليباركهن . في الصخرة ثمة مكان إن مر منه القصار فإنهم قد يصبحون طوالا . مرة أخذ والداي أختي لتمر منه لعلها تصبح أطول وما زالت أختي قصيرة . الشعوب كلها لها معتقداتها وسعائرها وطقوسها و .. و .. وأمعن النظر في الحجارة والمباني وصفوف الزوار ليشتروا شيئا أو ليضيئوا شمعة .
وأنا أتأمل بلاط ساحة الأقصى والسور المحيط وحائط البراق وحجارة الكنيسة وداخلها المعتم أتذكر سطر محمود درويش من قصيدته " في القدس " ٢٠٠٣ :
" أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب ؟"
هل زار الشاعر كنيسة القيامة ولاحظ الضوء الشحيح ؟ ربما ! .
٤-
أتجول حول الكنيسة فأرى المقاهي والمطاعم .ثمة بعض رواد والاكتظاظ يلفت في الكنيسة لا في المطاعم التي حولها .
أغادر المكان وأسير في خان الزيت . أجواء جد جميلة وجد ساحرة . القدس وعكا ونابلس ودمشق وفي ألمانيا بامبرغ وهايدلبرغ وروتنبرغ . إنها مدن تعيش في الذاكرة ولها طعم خاص ومذاق خاص . مدن لها تاريخ تمشي فيها مندهشا مسرورا . مدن تبدو أليفة .
تشتري قطعة كعك مقدسي وترش فيها الدقة وتتذكر زياراتك السابقة وعادتك كلما زرت المدينة . لا بد من شراء الكعك المقدسي وحين تصل باب العامود لا ترى كشك عميرة لبيع الكتب .
هل كررت بيت تميم البرغوثي أم أنه لم يخطر في بالك لأنك لم تشعر بوحشة ؟
"وما كل نفس حين تلقى حبيبها تسر
ولا كل الغياب يضيرها "
من المؤكد أن قول تميم لم يخطر على بالي إطلاقا ، فالسرور الذي شعرت به لم يضاهه أي شعور ، ولا بد من زيارات ، ولا بد من القدس وإن طال الغياب وكثرت المعابر والحواجز و ... و ... .
الجمعة ٢١ حزيران ٢٠١٩

*-*-*

3- حنين إلى القدس

لَسْتَ تدري متى زرْتَ القدس أول مرة. ربما كان ذلك في أوساط الستينات، ربما كان ذلك تمَّ يوم كنْتَ طالباً مدرسياً، وربما كان ذلك يوم اصطحبتك قريبتك معها لتعالج ابنها هناك. كان ذلك، هكذا يبدو لك الآن، منذ زمن ... منذ زمن سحيق كأنه بداية الخلق.
ولكنك، منذ بداية السبعينات، أخذت تذرع شوارع المدينة، وتسبح في بركة جمعية الشبان المسيحية، وتشاهد مباريات كرة القدم. كان ذلك يوم كنت تذهب إلى حقل الرعاة في بيت ساحور لتنفق هناك عشرة أيام، تزور خلالها القدس. وحين أنهيْتَ التوجيهي زرْت المدينة مراراً، وزرتها أكثر بعد العام 1976، ومنذ ذلك العام غدت القدسُ الكعبةَ التي تحجُّ إليها.

والقدس منذ ذلك العام أخذت تربطك بمكتب جريدة "الشعب"، وبمكتب مجلة "العودة"، وبجريدة "الاتحاد" الممنوع توزيعها في المناطق، وبدار نشر صلاح الدين، وغدت زيارة أصدقاء مثل علي الخليلي وأكرم هنية وإبراهيم قراعين ومحمد البطراوي جزءاً من زيارتك القدس، تماماً كما غدا شراء الكعك المقدسي واجباً لابدّ منه، حتى تقنع أمّك أن السفر إلى القدس لا يعني شراء الكتب وحسب.

وحين غدوْتَ محرراً أدبياً في جريدة "الشعب" أصبح الذهاب إلى القدس – أو السفر إلى القدس على رأي أهل نابلس – عادة أسبوعية، تزور في أثناء وصولك المدينة، مكتب جريدة "الشعب" وقد تُعّرج على المكتب الفلسطيني لتزور عبد الكريم سمارة، وأحياناً كثيرة تجد قدميك تجرانك إلى شوارع البلدة القديمة، وفيها تبحلق في الأرصفة والمحلات والناس الذين هم مِنْ أمَم شتى، ويوم زرْتَ المدينة، ذات سبت، أنجزت قصتك "تلك القدس.. ذلك السبت "، وفيها لم تَرَ القدس في القدس. كانت مدينةً أخرى، مدينةً غير عربية سكاناً.

وحين غادرت فلسطين لمدة أربعة أعوام، كنت تَحِنّ إلى القدس، ولم تُنْسِكَ إياها المدن الأوروبية الجميلة. كنت تحن إلى أصدقائك فيها، كنت تحن إلى شوارعها، وكنت تحن إلى كعكها وإلى كلام أبي علي يعيش على الرغم من أنه كان يبدو لك كلام صاحب جريدة يهمه تسويق جريدته أكثر من باب نشر الوعي الثقافي التي أراد أكرم هنية تسويقها من باب نشر الوعي الثقافي ونشر الأدب الوطني والإنساني. وكلما سرت في شوارع (بامبرغ) أو في شوارع (ميونيخ) أو في الشارع الطويل في (هايدلبرغ)، تذكرت أرصفة القدس وبلاط شوارعها وازدحام الحركة فيها. بل إن وقوفك أمام مبنى الكنيسة في (فرايبورغ) ومبنى الكنيسة في (كولن)، سرعان ما كان يذكرك بكنائس القدس وبيت لحم.
والقدس هي التي علمتك أن تتسلل إليها، بعد أنْ غدا الوصول إليها محرماً على أبناء مناطق الاحتلال الثاني، ولم تكن، وأنت تمر أمام الحاجز، لِتَرْتَبِكَ إطلاقاً. إن أكثر ما سيفعله الجندي لا يتجاوز إعادتك أو حجزك لمدة ثلاثة أيام أو إجبارك على أن تدفع مائة دينار. وكنت منذ 1991 تتسلل إلى القدس لزيارتها أو لتحرير صفحة "الشعب الثقافي" من جديد، أو لحضور مؤتمر ثقافي أو للمشاركة في ندوة أدبية.

والقدس هي التي تذكرك بقصائد الشعراء المشهورين، ومن أجلها أنجزت دراستك "القدس في الشعر العربي المعاصر" والقدس أيضاً هي التي تجعلك تغني مع فيروز "الغضب الساطع آت وأنا كلي إيمان"، ولا تدري ما نوع الإيمان، أهو الإيمان الوطني أم الإيمان الديني ... أم ... أم...؟

وتسألُ نفسك الآن: كم تبعد القدس عن نابلس!!؟ وتصرخ أحياناً: يا قدسُ، يا قدسُ، يا قدسُ!! وفي كل يوم خميس، في صباح كل خميس تفتقد القدس. تذرعُ شوارع نابلس، تجوبها في ساعة، ويبقى من اليوم زمن طويل، كأن يوم الخميس ألف سنة مما نعد في هذه الفانية. وتهمس يوم الخميس: لو كانت الطريق إلى القدس ميسرة، لو لم تكن هناك حواجز لمرّ الوقت سريعاً. وتهمس يا قدسُ!!

وتحن إلى القدس، تحن إلى شوارعها، تحن إلى أصدقائك فيها، تحن إلى مكتب جريدة "الشعب"، إلى كلام أبي علي يعيش: لا تنشر في الصفحة مقالاً واحداً، أنشر عشر قطع حتى يشتري أصحابها الجريدة، وحتى يقرأ القراء، فالقراء يملون من الموضوعات التي تشغل صفحة بأكملها، تحن إلى شوارع القدس القديمة التي تقودك إلى مكتبة يهودية اشتريت منها كتاب (ألف مليم) لتتعلم العبرية، وتحن إلى مقهى التقيت فيه بالكاتب عفيف سالم، عفيف سالم الذي كان ترك الاتحاد ليحرر في صحيفة النهار، وليعيش حياة الصعلكة التي ذكرتك بطرفة بن العبد، وتحن إلى مكتبة المحتسب التي كنت تشتري منها الكتب، المكتبة التي كنت تدفع لصاحبها مما كان محاسب جريدة الشعب يمنحك إياه، وتحن إلى بائع اللوحات التشكيلية الذي كان يتركك تبحلق في اللوحات دون أن يبدو بائعاً متعجلاً.

وتحن إلى تلك المدينة التي غَيَّرَتْ رأي عبد اللطيف عقل فيها، حتى قال:

"لأكاد أقسم أن جسم القدس
من نور
وليست هذه الحسناء من طين وماء"
وتحن إلى القدس!!

الأحد 14/1/2001

***

4- القدس أم الطريق إلى القدس؟

غير مرة كتبت عن القدس التي غالباً ما يكون الطريق إليها محفوفاً بالمصاعب والمشاكل.
الطريق إلى القدس صعب ولكنه يهون أمام الفلسطينيين، فهي كما يافا وحيفا وعكا، مهوى الأفئدة ومحط الرحال. ترنو إليها أنظارنا، فنحتمل لأجلها وعثاء السفر، ونكابد ونعاني و...
الطريق إلى القدس متعب وفيه مهانة، حيث تمعطنا المعاطات ونصعد الجسور وننزل من حافلة لنصعد أخرى، ولكن ما إن نجتاز المعبر حتى ننسى ما المعاناة، وحين سألني زياد خداش في زيارتنا، ونحن قرب باب الخليل، عما تعنيه لي القدس، أجبته:
- ما إن اجتزت اليوم المعبر ووصلت إلى باب العامود حتى شعرت أنني في الجنة.
ولم أبالغ، علما بأنني لم أدخل إلى الجنة، فصورتها تشكلت في ذهني من الأدبيات الإسلامية ومن زيارة أماكن جميلة، ما إن نراها، إلا ونقول:
- إنها قطعة من الجنة.
في آذار انتهت صلاحية البطاقة الممغنطة التي تسهل للفلسطينيين العبور، عبر معابر خاصة بهم، إلى القدس ومناطق ١٩٤٨، وكان علي أن أجددها، علما بأنني في هذا الشهر سأدخل في عامي السبعين حيث صارت حركتي بطيئة وسفري إلى خارج مدينة نابلس أمراً يجب أن أفكر فيه، بسبب السكري وآثاره، ولقد أردت قبل أن أجتاز المعبر، لشدة لهفتي للقدس، أن أختصر الطريق لأصل إلى المعاطة، فصعدت طلعة ما كان يمكن أن أنجح في إتمام صعودها لولا مساعدة شاب أمسك بيدي. وكان يمكن أن أقع فلا أصل إلى المدينة وأعود مكسوراً.
حين تجتاز آلة الفحص وتعطيك المجندة إشارة بالمرور، تتنفس الصعداء، فلقد أيقنت الآن أنه بإمكانك زيارة البلدة القديمة ومعالمها.
ما إن وصلت إلى باب العامود حتى دلفت إلى (جروزالم هوتيل) حيث أبلغني زياد وحسام أبو عيشة أن أحمد أبو سلعوم سيكون بانتظاري، فرأيته بعد انقطاع ٣٥ عاماً وأكثر، علماً بأنني تابعت في شهر رمضان الأخير، مسلسل "أم الياسمين" الذي كان فيه وحسام أبو عيشة نجمين من نجومه.
في ٨٠ القرن ٢٠ تعرفت إلى أحمد حين كنت محرراً في جريدة "الشعب" المقدسية وأتردد على مكتب مجلة "العودة".
كما لو أننا لم نفترق هذه المدة، وسرنا معاً من باب العامود إلى البلدة القديمة حيث زياد وحسام ومعهما أمين السادن، وهو عراقي مقيم في كندا، ينتظروننا في مطعم أبو شكري الشهير للحمص والفلافل، وللمطعم قصص قصها على مسامعنا حسام ومنها أن حمص أبو شكري الأشهر في المدينة، فقد عرفه منذ كان طفلاً وشاباً يافعاً.
كان أبوه يرسله إلى المطعم ليشتري وكذلك، لاحقاً، صاحب العمل. تحدث عن جودة الحمص وبراعة أبو شكري في تقدير الكمية والمذاق، ولكن أهم من هذا هو بركة الكمية التي يضعها أبو شكري في الصحن.
حسام يؤمن بأن القدس مدينة كل ما فيها مبارك وحمص أبو شكري "فيه بركة"، فعندما كان يذهب ليحضر صحن حمص لـ ١٣ عاملاً، يتساءل إن كان الصحن يكفي، ولم يتأكد من ذلك إلا بعد أن ينتهي العمال من الطعام.
القدس مدينة مباركة والمسيح كان يطعم السمكة لعشرات وكان رغيف الخبز يشبعهم. هل آمن أحمد أبو سلعوم بما يؤمن به حسام؟
ونحن نتناول الحمص انضم إلينا زياد طه ابن أبو شكري. كان زياد في٧٠ و٨٠ القرن ٢٠ يكتب الشعر وينشره في جريدة "الشعب" ومجلة "الشراع" وفي صحف أخرى، ولكنه لا يعد نفسه شاعراً محترفاً.
ذكرنا بتلك السنوات التي أسهمت في تكويننا الثقافي وكانت القدس المركز في الحياة الثقافية، فيم كانت رام الله ونابلس هوامش.
وأنا وأحمد نسير معاً سألته، لكي أتأكد، إن كان هناك، من قبل، مقهى في مدخل باب العامود. المقهى الآن صار محل بيع للملابس، وإن لم تخني الذاكرة فقد خص القاص محمود شقير مقاهي مدينة القدس بصفحات فيما كتبه عن المدينة.
ما إن غادرنا المطعم حتى سرنا إلى كنيسة القيامة التي يكثر المترددون إليها لرؤيتها كمعلَم ديني يبهر بناؤه الأنظار، أو لقناعة دينية، أو لإشعال شمعة، أو لمباركة بعض ممتلكاتهم من أساور أو قروط ذهب أو ملابس، أو لرؤية معالم المدينة ذات الديانات السماوية، أو لالتقاط صور، والكنيسة تحكي قصة اختلاف الطوائف المسيحية فيما بينها والتسامح الإسلامي المسيحي أيضاً، فمفاتيحها مع عائلتين مسلمتين، حلاً لإشكالية الطوائف التي تريد كل طائفة منها أن تكون المفاتيح بيدها.
عشرات بل مئات الزوار يؤمون الكنيسة، فتغص بهم ساحتها ويمتلئ بهم داخلها، ولم يترك حسام أبو عيشة لذكرياته أن تظل حبيسة. لقد أراد أن يشركنا فيها، ففي الكنيسة تعلم أول درس في السرقة وأبدى أول استعداد للتحول للمسيحية لينجو.
عندما كان طفلاً زار الكنيسة مع صديق مسيحي وشاهد الزوار يتبرعون لها بالدولارات يضعونها في صندوق زجاجي. أغرته، هو الفقير وزميله، الدولارات فقرر أن يحصل على بعضها. هكذا أحضر دبوساً وقطعة علكة ليخرج أوراق الدولارات من الصندوق، وما إن نجح حتى كانت يد تمسك به وبصديقه وتقرر معاقبته.
عاقب رجل الكنيسة الطفل المسيحي حسب الشريعة المسيحية، فعفا عنه، وقرر أن يأخذ حسام إلى الأقصى لتطبق عليه الشريعة الإسلامية - أي قطع اليد.
ولما خاف فقد أبدى استعداده لأن يصبح مسيحياً. حسام الفنان يقص الحكاية بطريقته المشوقة التي تفقدها الكتابة بعض جمالياتها.
قرب الكنيسة يكمن مسجد عمر بن الخطاب، وتجاور الكنيسة والجامع يعيد الزائر إلى التاريخ الإسلامي في القدس والعهدة العمرية، ولم أكن أعرف أن هناك عهدة صلاحية - نسبة إلى صلاح الدين الأيوبي - إلا حين زرت، لأول مرة، كنيسة الفادي التي لا تبعد عن كنيسة القيامة إلا بضع عشرات من الأمتار.
ما إن اقتربنا من كنيسة الفادي حتى دعانا حسام إلى زيارتها وشرب القهوة في باحتها الداخلية.
لا أعرف تاريخ الكنيسة هذه وقصتها، ولكن ما إن دخلت إليها حتى شعرت أنني أدخل إلى كنيسة في مدينة ألمانية مثل بون. سيان. الكنيسة لا زوار فيها، خلافاً لكنيسة القيامة التي تعج بالزائرين السواح. هبطنا إلى طابق أرضي نجلس في باحته حيث الطاولات والكراسي وأشعة شمس نهاية أيار.
احتسينا القهوة التي أحضرها لنا حسام وتجاذبنا أطراف الحديث ما يقارب الساعة، وواصلنا سيرنا متجهين إلى حارة النصارى.
في حارة النصارى تتذكر الروائي نبيل خوري صاحب ثلاثية فلسطين (١٩٧٤) وعنوان إحداها "حارة النصارى". نبيل كتب عن القدس بألم وحسرة. ضاعت القدس في ١٩٦٧ برمشة عين ليظل مقيماً في المنفى يعمل في الصحافة ويحن إلى مدينته ووطنه عله يسهم في تحريره، ولكن أنى... !!
مثل نبيل عيسى بلاطة الذي لم يفقد الأمل بالعودة إلى القدس فكتب روايته "عائد إلى القدس" (١٩٩٨) ثم واصل تدريسه في الجامعات الكندية حتى توفي ولم يعد. شوارع يطيب المشي فيها والحارة تقود إلى الحارة.
أمام مبنى القشلة توقفنا. هنا كان الأتراك العثمانيون يقيمون أيام حكمهم ليسيروا حياة المدينة. هنا إحدى قلعتي القدس والقلعة الثانية في برج اللقلق.
المدينة طروس، والتعبير للعراقي علي بدر الذي كتب روايته عن القدس قبل أن يراها؛ روايته "مصابيح أورشليم: رواية عن إدوارد سعيد" (٢٠٠٦) أتى فيها على القدس تاريخياً وشبه طبقاتها، في توالي ثنائية البناء والهدم، فالبناء فوق الهدم، فالهدم فالبناء، بالطروس. طرس فوق طرس. مدينة تشيد على أنقاض مدينة. حين قلت على مسمع حسام وأحمد وزياد وأمين إن المدينة هدمت وبنيت تسع عشرة مرة صححني حسام:
- بل إحدى وعشرون مرة.
هنا حكم العثمانيون بعد المماليك والأيوبيين فالاحتلال الصليبي، وهنا فتح في السور، لغليوم الثاني الألماني الذي زار المدينة في القرن ١٩، باب سمي الباب الجديد، ونعته الناس "باب الهوى"، وعنه كتبت ليلى الأطرش في روايتها "ترانيم الغواية" (٢٠١٥) ووصفت القدس بأنها مدينة لها حياتان؛ حياة الباطن وحياة الظاهر، حياة الليل وحياة النهار، ومن باب الهوى خرج في الليل أبناء القدس، ممن يحب الانبساط والهوى، ليتردد على الأحياء الجديدة حيث الملاهي وبيوت الغناء، وقليلون من أبناء القدس، في هذه الأيام، من يعرفون هذا الاسم - أي باب الهوى.
في نهاية حارة النصارى نجد أنفسنا نواصل المشي في حارة الأرمن، وأطرف ما سمعته من حسام هو أن السيد المسيح تتشكل صورته وتتلون، إذ كل طائفة تسبغ عليه شيئاً من فهمها الخاص للمسيحية. سأطلب من زياد الذي يزور القدس باستمرار أن يكتب رواية يوظف فيها أسلوب وجهات النظر يأتي فيها على الصور المختلفة للمسيح. كما لو الطوائف في رواياتها قوس قزح. (غالباً ما يبدو المسيح شبيهاً بالجنس البشري الذي يقدسه. يبدو أبيض أوروبياً عند الأوروبيين وحنطي البشرة عند حنطيي البشرة وأقرب إلى الهنود الحمر عند الهنود الحمر وهلمجرا).
عندما وصلنا إلى بوابة داوود التي روى لي حسام قصتها في بداية حرب حزيران ١٩٦٧ تأملت في رواية الحكاية. كل يروي حكايته بطريقته. البوابة هي بوابة داوود الدجاني والأراضي التي حولها تعود لعائلته، وقد أدت العائلة خدمة كبيرة للقدس إذ حافظت على ممتلكاتها بعد أن استبسل أبناؤها مع جنود الجيش الأردني في الحرب في الدفاع عنها. استشهد أربعة من عائلة الدجاني وثلاثة من مقاتلي الجيش الأردني وهم يصدون الإسرائيليين لمنعهم من اقتحام البوابة.
كانت وفود الزوار زرافات ووحداناً، مواطنين بلباس مدني وأفراد من العسكر الإسرائيلي. يأتون إلى البوابة ليرووا روايتهم زاعمين أن البوابة بوابة نبيهم.
هل كنت من قبل أعرف القدس؟
لم أعرف الكثير عن مقابر المدينة. مرة قبل ٢٠ عاماً شاركت في جنازة فداست قدماي تراب إحدى المقابر بمحاذاة السور، وبعدها قرأت رواية ميرفت جمعة "ماميلا" عن مقبرة مأمن الله، فتشكلت لدي فكرة عن محاولات الصهيونية إثبات أحقيتها بالمكان من خلال عظام من دفنوا، وهو ما عبر عنه محمود درويش إثر حرب حزيران ١٩٦٧:
"عالم الآثار مشغول بتحليل الحجارة".
نعم إنهم مهووسون بالآثار لإثبات ملكيتهم الأرض. وعندما قرأت قصيدة تميم البرغوثي "القدس" قرأت عن التراب الذي يضم رفات من جاء المدينة غازياً وأقام فيها ومات على أرضها. شواهد القبور شاهدة على تعاقب الغزاة. كلهم جاؤوا وكلهم زالوا ولم يبقَ منهم إلا رفات موتاهم.
ونحن نمر بمقبرة صهيون تذكر زياد وحسام وأحمد شيرين أبو عاقلة وحكايات الأخيرين معها وهي كثيرة ليس أقلها أن حسام أجرى مقابلة معها وصورها قبل قتلها، وأن أحمد استعان بها لتغطية نشاط فني أحياه في باب العامود، واختلف فيه مع الشرطة التي حضرت بالعشرات، فما كان من أحمد إلا أن رفض تقديم العرض حتى ينسحبوا وقد حقق ذلك وصار يكرر إنه أول من أجبر الإسرائيليين على الانسحاب الجزئي من القدس.
سأل زياد حارس مقبرة صهيون إن كان بإمكاننا الدخول لزيارة قبر شيرين فلم يمانع. ترقد شيرين الآن في المقبرة حيث خلودها الأبدي في تراب مدينتها؛ شيرين التي قتلها قناص إسرائيلي في أيار ٢٠٢٢ وهي تغطي أحداث اقتحام مدينة جنين ومخيمها.
لقد صار قبرها محجاً لمحبيها وللصحافيين الأحرار في هذا العالم الذي لم يرحم الفلسطينيين.
حين تركنا المقبرة سرنا باتجاه السور من الخارج ليقلنا نضال أحمد أبو سلعوم إلى السواحرة الغربية - جبل المكبر - حيث ينتظرنا الأديبان جميل السلحوت ومحمود شقير في بيت الأول. كنا نطل على المنطقة التي عرفت بين ١٩٤٨ و١٩٦٧ بالمنطقة الحرام وعلى قرب منها مبانٍ استيطانية صهيونية أنشئت مع بدايات القرن ٢٠ لتشجيع اليهود على الاستيطان في القدس.
ثري صهيوني أقامها ليأتي إليها اليهود ليكثر عددهم. (في بداية ٧٠ القرن ٢٠ كنت أمر من هذا الطريق إلى بيت لحم، فلم يكن ممنوعاً على أبناء الضفة الغربية وكنت أرى باب الخليل من الخارج وأظن أنني يومها زرته ورأيت المكان).
هل يمكن أن يغيب جبرا إبراهيم جبرا عن أذهاننا نحن الكتاب ونحن في القدس؟
اسم المنطقة المشار إليها هو "جورة العناب" وسميت كذلك، كما قال أحمد، لأنها كلها كانت تزرع بالدوالي حيث تعطي العنب.
في الصيف يكون منظرها أخضر، وقد كتب عنها جبرا في سيرته "البئر الأولى" (١٩٨٦) حين تحدث عن أماكن إقامته بعد ترك عائلته مدينة بيت لحم.
هنا أقام جبرا ذات يوم وكانت المنطقة فقيرة يقطنها الفقراء، ولكنها ذات مناظر طبيعية خلابة.
في القدس لا يمكن أن تنسى جبرا، فهذا الكاتب الذي أقام في بيت لحم والقدس وإنكلترا والعراق وسافر إلى بلدان كثيرة ظلت القدس مدينته المنشودة الساحرة فكتب عنها في "صيادون في شارع ضيق" (١٩٦٠) و "السفينة" (١٩٧٠) و"البحث عن وليد مسعود" (١٩٧٨).
ثمة شيء ساحر في القدس؛ شيء واضح غامض لشدة وضوحه. ثمة رائحة تاريخ دفعت زياد لأن يسألنا السؤال الآتي:
- ما الرائحة التي تشمها في القدس؟ ما رائحة القدس؟
عندما استقبلنا جميل ومحمود وأحسنا استقبالنا قدم لنا جميل طعام المنسف؛ الوجبة التي يقدمها أبناء السواحرة لضيوفهم.
محمود وجميل كتبا عن القدس الكثير. إنها مدينة الأول الأولى التي فضل بعد عودته من إبعاد قسري دام ١٨ عاماً الإقامة فيها.
كتب عن القدس غير كتاب وكتب جميل عنها وعن العادات والتقاليد في المجتمع الريفي المحيط بها روايات عديدة عالج فيها موضوعات اجتماعية كثيرة مثل الزواج والطلاق والليلة الأولى واليتم والترمل والعنوسة واللجوء.
ما هي رائحة القدس؟
يصر زياد على سؤاله، وهو سؤال يبدو محيراً. هل للمدن روائح؟ هل للنساء روائح؟ ولطالما ربط الشعراء بين المرأة والمدينة.
- للقدس رائحة الياسمين. هكذا أجبته، فالمدن العربية القديمة كانت تزرع في أصص الزريعة الورد والياسمين، وهكذا رأى نزار قباني رائحة دمشق.
فكر محمود ملياً ثم أجاب:
- ليس ثمة رائحة معينه للقدس، فكل حارة من حاراتها، كل سوق من أسواقها له رائحته الخاصة به تبعاً لما اشتهر به اقتصادياً. رائحة التوابل ورائحة الملابس ورائحة الزعتر والبيض قرب الأفران و... و... و.
في الرابعة عصراً كان علي وعلى زياد العودة، والعودة من القدس إلى رام الله لم تكن قبل عقود تستغرق أكثر من ٢٠ دقيقة. الآن في الرابعة عصراً قد تستغرق ساعتين للاكتظاظ المروري، وربما هذا هو السبب الذي يجعلني لا أزور القدس في فصل الشتاء، فالنهار قصير والشوارع بائسة و... و....
منذ أشهر وزياد يسألني:
- متى نزور القدس؟
وأنا أعتذر، وسبب اعتذاري هو المعاناة في الذهاب والإياب حيث تمر بنا الساعات في الطريق إلى القدس طويلة، لا بسبب طول الطريق وإنما لاكتظاظه بالسيارات، لدرجة أنك تكرر مع المتنبي:
"نحن أدرى، وقد سألنا بنجد،
أطويل طريقنا أم يطول".
موضوع واحد ألح علي وأنا أسير بصحبة الفنانين أحمد وحسام وهو كتابة ذكرياتهما عن المسرح في القدس وتجربتهما فيه. حقاً لماذا لم يكتبا مذكراتهما عن تجربتهما الغنية حيث قدما مئات العروض المسرحية؟
*****
عندما اقتربنا من معبر قلنديا لاحظنا قواعد إسمنتية تنشأ فشرح لنا أحد الركاب السبب:
- إنها لإقامة نفق يمر منه الإسرائيليون، ليكون لهم طرقهم الخاصة، فلا يروننا. إنهم لا يحبون رؤيتنا أو الاختلاط بنا.
ولا حاجة للسؤال، قياساً على ما سأله محمود درويش: أيهما أجمل: البيت أم الطريق إلى البيت؟
فالقدس، بلا تردد، أجمل مليون مرة من الطريق إلى القدس.

2023-06-13
عادل الأسطة

***

5- في القدس:

"فصل من كتاب" مدن في الذاكرة : ما رأته العين وحفظته الذاكرة واستحضرته المناسبة "

( 1 )
خططت لزيارة رام الله فزرت القدس . في الجامعة التقيت د . محمد رباع فسألني إن كنت أرغب في الذهاب إلى وسط المدينة.في الطريق أخبرني أنه ذاهب إلى قلندية لاستقبال عائلته . قلت له أما أنا فذاهب إلى رام الله وأصر على أن أظل معه . في الطريق أراد أن يوصلني إلى رام الله لا إلى معبر قلندية كما اتفقنا ، ولكني أصررت على ما اتفقنا عليه وقلت له : أزور القدس . ووجدتني في القدس . على المعبر نظرت جندية شابة في هويتي وأعطتني إشارة بالمرور وابتسمت . يبدو أنها كانت في لحظة فرح ، وقانون اﻷعادي يسر لي هذه المرة الدخول . وهكذا وجدتني داخل السورين ؛ القديم والجديد /الحديث ، ووجدتني أكرر قول محمود درويش :
" في القدس أعني داخل السور القديم " ، ولا أكرر قول تميم البرغوثي :
" مررنا على دار الحبيب فردنا عن الدار قانون اﻷعادي وسورها " .
وﻷول مرة منذ سبع سنوات وجدت ميزة للتقدم في السن . أنا الآن فوق الستين وقانون اﻷعادي يسمح لمن هم فوق الستين أن يدخلوا إلى القدس دون تصريح من دولة أبناء العمومة . ها أنا لا أشكو من أوجاع الجسد ، فلقد نسيتهأ على المعبر وأنا أصعد الحافلة إلى باب العامود الذي لم أره منذ نهاية 1992، فقد كنت في آب وأيلول وتشرين أول من ذلك العام زرت القدس غير مرة متسللا غير آبه بالقانون الإسرائيلي . كنت أحرر صفحة الثقافة في جريدة الشعب وكنت أتسلل إلى مبنى الجريدة وأعود وكلي قلق وخوف من احتجاز لمدة يومين ودفع غرامة 600 شيكلا هي ضعف ما تدفعه لي الجريدة .
ها أنا إذن داخل السورين ؛ الجديد /الحديث والقديم ، وقد استبدلت الخوف بخوف آخر :
- هذه المرة لم يكن الخوف من الشرطي والاعتقال والغرامة ، وإنما من اﻷحداث المفاجئة في مدينة السلام ، الخوف من المتشددين المستوطنين .
في الطريق من المعبر إلى باب العامود كنت أرقب التغيرات التي طرأت على المكان ، وأظن أنني شاهدت بعضها في 1998 حين زرت أمي في مشفى المطلع أو في عام 2000 حين شاركت في دفن نسيب لنا مقدسي . ولا أرى في زيارة أمي والمشاركة في دفن النسيب زيارة للمدينة ، فقد تمتا خلسة .إنهما أشبه بدخول لص منزل ليسرقه . إنه لا يلتفت إلى جماليات المكان فذهنه مشغول بما سيسرق وبنجاح عملية السطو والخروج غانما سالما . هل هذه هي شعفاط التي أعرف ؟ هل هذه هي بيت حنينا التي أعرف ، وسأتذكر بيت اسحق موسى الحسيني الذي زرته مرة ﻷسأل د . اسحق عن نجاتي صدقي ، حتى ينجز شخص رسالة ماجستير عن كاتب القصة القصيرة .
أين هو بيت الحسيني ؟ المنطقة تغيرت تغيرا كبيرا . وأنا لم أتمعن جانبي الطريق جيدا منذ 1987، فما قمت به من زيارات ، بعد العام المذكور كان زيارات خاطفة عابرة سريعة
( 2 )
وأنا أهبط من الحافلة عادت بي الذكرى إل ما قبل 1987. من هذا المكان كنت أقفل عائدا إلى نابلس ، أيام الخميس التي كنت أزور فيها القدس . أتذكر باصات التميمي وخالي أبا عصام / عمر الذي عمل سائقا وأتذكر علي الخليلي الذي كنت ألتقيه في الحافلة وهو عائد إلى نابلس ، قبل أن يتزوج ويستقر في القدس .
المكان في مكانه ، والتعبير لمحمود درويش ، وسيتلفت القلب إلى مكاتب جريدة الفجر ، حيث كنت أزور علي الخليلي ، ولكن ماذا أفعل الآن لو زرت المكان ، وهدفي اﻷساس هو زيارة البلدة القديمة ، ثم إن عليا الآن تحت الثرى ، لا في مكتبه في الجريدة التي توقفت عن الصدور . المكان في مكانه ولكن السكان تغيروا .
أسير ببطء .
في أحد هذه المحلات كان كراج سيارات نابلس ، ولهذا سمي الشارع شارع نابلس ، ولم أسأل إن كان الشارع ما زال يحمل اسمه ، فما عادت هناك حافلات تقل العائدين إلى نابلس . أدخل محلا وأشتري زجاجة ماء ، وأواصل سيري ببطء . أنظر في زاوية البناية ﻷرى كشك دعنا الذي توفي صاحبه قبل أشهر ، فلا أرى الكشك الذي طالما اشتريت منه مجلات الحزب الشيوعي وصحفه ؛ الجديد والاتحاد ، مغامرا ، فقد كانت دولة إسرائيل تمنع توزيع هذه المنشورات في الضفة وتعاقب من يحملها في الضفة . أسأل صاحب كشك عن كشك دعنا فيخبرني أنه توفي . سأرد عليه قائلا :
- أعرف ولكن إلام آل كشك بيع الكتب ؟ وبموت صاحب الكشك اختفى معلم ثقافي آخر من المعالم الثقافية لمدينة القدس - احتجبت جريدتا الفجر والشعب عن الصدور ، وسيعلمني اﻷستاذ عيسى السلايمة أن مكتب جريدة الشعب غدا عيادة طب أسنان ﻷخيه -
أمعن النظر في باب العمود وأشتري كعكا مقدسيا من صاحب الكشك ، وكنت ، حين أزور القدس قبل 1987 ، أشتري باستمرار كعكا ﻷمي أو لعائلتي . هذه المرة سأدخل إلى القدس بحرية منذ 1987، وأنا أقطع الشارع لدخول المدينة إعبر باب العامود تذكرت المستشرقة وتذكرت روز وفائزة تسيران معي للدخول إلى البلدة القديمة ، فقد اصطحبتهما معي غير مرة في العام 1987.
ها أنا في باب العمود . الجنود الإسرائيليون قليلو العدد وليس في اﻷجواء ما يوحي بأن هناك ما يبعث على عدم الطمأنينة .
( 3 )
وأنا أهبط درجات باب العمود تلفت قليلا إلى يساري :
مكتب البريد والطريق المؤدي إلى مكاتب جريدة الشعب وشارع صلاح الدين والمكتب الفلسطيني ووكالة أبو عرفة للصحافة ونشر الكتب و ..و .. واﻷصدقاء الذين ما عادت لهم إقامة في اﻷماكن هذه ، فهم الآن في رام الله أو في عوالم أخرى ومنهم من توفي ، بعد أن منع من الإقامة في المدينة . المكان في مكانه ولكنه غير سكانه ، فلم تذهب أولا إلى هناك ؟
وأنا على درجات باب العود تساءلت :
- هل أنا ، حقا ، بعد هذا الغياب الطويل - 23سنة - هل أنا في القدس؟
في العام 1996 زرت بون من مطار اللد وأنفقت فيها شهرا ، ولم أتمكن من زيارة القدس بحرية . زرتها مخاطرة ومغامرا ، وكان قانون اﻷعادي يحول دون زيارتها . يومها كنت ، في بون ، أخربش وتذكرت القدس فكتبت :
- ها أنت تصل آخر الدنيا ولكنك لا تستطيع الوصول إلى القدس .
وفي العام 2002 وأنا أكتب زاوية حالات في اﻷيام كتبت :
- حنين إلى القدس .
في بون تذكرت القدس ، وعلى درجات باب العامود تساءلت :
- هل أنا في القدس ؟
وسأمعن النظر في الريفيات القادمات لبيع منتوجهن من العنب والفقوس والخوخة . إنهن معلم من معالم المدينة ما زال حاضرا ، ولطالما كتب عنه خليل السواحري وأكرم هنية ومحمود شقير ؛ كتاب القصة القصيرة الذين أبرزوا للقدس صورة واقعية أكثر مما أبرزها الشعراء وقبل أن يبرزها الروائيون .
ها أنا أمعن النظر في بضاعة النسوة ، وها أنا أتأمل قوس باب العامود وأتذكر ما كان يفعله سكان المدينة ، حين يحاول الغزاة اقتحام المدينة : من قوس هذا الباب كان سكان المدينة يدلقون الزيت المغلي على الغزاة ،وسأدخل المدينة .
( 4 )
مثل سائح مغترب وكأنني أزور القدس ﻷول مرة :
أراني أتأمل اﻷشياء وأمعن النظر في الناس وأسألهم :
- من أين الطريق إلى اﻷقصى ،
وسأسأل السؤال نفسه أربع مرات . " من السائح المغترب ؟ " سطر شعري لمحمود درويش أظنه ورد في ديوانه محاولة رقم 7 ( 1974 ) في إحدى قصائده التي أتى فيها على زيارته مدينة دمشق ، إن لم تخني الذاكرة ، بعد خروجه من فلسطين المحتلة . أما مظفر النواب فقد قال بعد زيارته دمشق في 1973:
" دخلت الجامع اﻷموي لم أعثر على أحد من العرب . "
والحق أن القدس أمس كانت مدينة عربية بالتمام وشبه الكمال ، ولو كنت زرتها يوم سبت لربما رأيت فيها مدينة عالمية .
أتذكر قصة كتبتها في 80 ق 20 عنوانها " تلك القدس ...ذلك السبت " ، وكانت القصة ناتجة عن زيارتي القدس ذات سبت.يومها رأيت القدس مدينة عبرية ، وكان أبناء العمومة وقتها يحتفلون بالبوريم : عيد استير البطلة لهم / عيد المساخر / ذكرى إنقاذهم من مذبحة أعدها لهم وزير الملك الفارسي .( لعله هامان وزير احشيشورش ) .
- من أين الطريق إلى اﻷقصى ؟
وربما ظنني بعضهم ذاهبا للصلاة أو أنني زائر يعشق جمع الصور ، ولم تكن بيدي كاميرا ولم يكن معي جهاز تصوير أو بلفون حديث .
وهكذا وصلت إلى اﻷقصى ودخلت من بوابة يحرسها جنود يهود وشرطة عرب سأعرف أنهم خاضعون للمملكة اﻷردنية وأنهم يتقاضون رواتبهم منها . أنا الآن في مكان يؤمه الفلسطينيون ليصلوا فيه ، ويزوره السواح اﻷجانب ، ويتردد عليه اليهود المتدينون للاستفزاز ربما . أنا في مدينة ثلاثية اﻷبعاد وثلاثية الديانات وعالمية البشر ومتعددة اللغات . أنا الآن في اﻷقصى ، فهل سألبي دعوة عيسى السلايمة وأصلي لله ركعتين ؟
وحين يمر متدينون يهود تستفز النسوة المسلمات حارسات اﻷقصى ويرتفع صوتهن :
" الله أكبر . الله أكبر " ،
فهل نحن على أبواب اشتباك ؟ هل خفت ؟هل .. ؟
وسأتأمل المسجد وسيقترب مني شاب مقدسي وسيسألني :
- هل تعرفني؟ وسيعلمني أنه عيسى السلايمة أحد طلابي في الماجستير ، وسيدعوني إلى منزله ، وسأقول له معتذرا :
- إنني قادم ﻷرى القدس ،
وسيتبرع مشكورا بمرافقتي وابنه ابراهيم مدة ثلاث ساعات واكثر ، غير آبه لتذمر ابنه الذي ألف اﻷمر وصمت بعد أن اشترى له أبوه من المعصرة الكسبة المقدسية .
( 5 )
سيسألني عيسى السلايمة إن كانت لدي رغبة في التجول داخل اﻷقصى وقبة الصخرة ، ولا أمانع في دخول المسجد والتجوال في داخله ، وسيريني عيسى المصلى المرواني وسيشرح لي قصته ، فقد ظل مهملا فترة طويلة حتى العام 1996 حيث أصر عرفات على افتتاحه وترميمه ولم يقصر الشيخ رائد صلاح في بذل الجهود اللازمة لتهيئته إلى ما غدا عليه .
في العام 1996 ، كما فهمت ، اتفق أبو عمار مع الإسرائيليين على أن يكون المصلى المرواني للفلسطينيين وأن يكون ما هو أسفل منه للإسرائيليين ، وما زلت أتذكر أحداث النفق جيدا .
السجاد في اﻷقصى تبرع من الحكومتين ؛التركية واﻷردنية ، وهو سجاد لافت لونه العام أحمر ، وربما لهذا سألني عيسى إن كنت ما زلت شيوعيا ، ذاهبا إلى أنني ، كما كان الطلاب يتداولون ، شيوعي . وطلب مني عيسى أن أتوضأ وأصلي ركعتين .
كلما طلب مني شخص ما أن أتوضأ وأصلي أتذكر رواية نجيب محفوظ " اللص والكلاب " وأتخيلني سعيد مهران بطل الرواية يصغي إلى الشيخ الجنيدي . كما لو أنني لص وينبغي أن أتوب ، وغالبا ما أتساءل عن الكلاب .
في المصلى المرواني سأتذكر رواية ليلى اﻷطرش " ترانيم الغواية " 2014 ، ولما رأيت رجلا من مواليد 1942 ويعرفه عيسى ، فقد سألته عن أبواب مدينة القدس وعن باب الهوى / باب عبد الحميد / الباب الجديد ، ورغبت في أن أستمع إليه يقص حكاية الباب ، لعل هذا يعزز في ذهني ما قرأته في رواية ليلى ، ولكن الرجل الذي يتذكر سقوط يافا ، حيث كان فيها عند أخته ، لا يعرف شيئا عن قصة باب الهوى ، مع أنه يتذكر حادثة اغتيال الملك عبد الله تماما .
في المسجد اﻷقصى تذكرت صلاح الدين اﻷيوبي ونور الدين زنكي والمحراب وتحرير اﻷقصى في 583 هجرية ، وأراني عيسى في المصلى المرواني آثارا صليبية تدل على تحويل المصلى إلى اسطبل لخيول الفرنجة . وهناك تيقنت من أن تدريس القدس في اﻷدب العربي يتطلب زيارة المدينة ومعرفة الوطن من خلال القدمين ، وهذا ما كان يحث عليه تربوي فلسطيني قبل 1948 ولعله إسعاف النشاشيبي .
( 6 )
الذين كتبوا عن القدس من الروائيين العرب والفلسطينيين غالبا ما كانت صلتهم بالمدينة معدومة أو عابرة أو أنهم كانوا كتبوا عن القدس اتكاء على الكتب ،ولهذا فقلما يتنشق المرء وهو يقرأ رواياتهم روائح القدس ويتمثل أجواءها : العراقي علي بدر والجزائري واسيني اﻷعرج والإسلامي نجيب الكيلاني والفلسطيني حسن حميد وبصورة أقل جبرا ابراهيم جبرا وعيسى بلاطة ونبيل خوري ، والثلاثة اﻷخيرون عاشوا في القدس فترة ، ثم كتبوا عنها بعد أن انقطعوا عنها بسبب حرب حزيران 1967 ، ولما كتبوا كتبوا عن ظلال تبقت في الذاكرة . أما علي بدر وحسن حميد وليلى اﻷطرش فكتبوا عن المدينة متكئين على كتب التاريخ أو اﻷدب أو الخرائط واﻷطالس - أستثني ليلى قليلا فقد زارت المدينة لفترة - .
ونتيجة لما سبق فقد كانت شخصية الدليل السياحي حاضرة في أعمالهم ، وما يقوله الدليل هو ما قرأه الروائي في الكتب ليس أكثر .
عيسى السلايمة كان أمس لي الدليل ، ولولا وجوده لما عرفت أشياء وأشياء . والحقيقة أنني كنت زرت القدس مرارا ولكنني لم أعرفها كما عرفتها من خلال مشاهدة حلقات عنها بثتها فضائية الجزيرة أو من خلال مسلسلات تلفازية مثل مسلسل براء الخطيب ابن يوسف الخطيب أو من خلال النصوص اﻷدبية.في اﻷقصى سألقي نظرة على مقبرة آل الحسيني : موسى وعبد القادر وفيصل عبد القادر الحسيني ، وكنت عرفت هؤلاء من المسلسلات أو من الروايات ، كما رواية سحر خليفة حبي اﻷول ، أو من خلال المعرفة الشخصية المباشرة ، فقد عرفت المرحوم فيصل شخصيا . وسأترحم على هؤﻷء ، وسيعرفني عيسى على المبكى الصغير لليهود .
مدخل المبكى الصغير يقود إلى بيوت سكنية ما زال الفلسطينيون يقطنونها ، وأحيانا يأتي المتدينون اليهود ليدقوا رؤوسهم بالمبكى ويبكون . ولا شك أن اﻷمر ، في ظل أجواء العداء والتوتر ، ليس ، للسكان ، بالهين . ﻷول مرة أعرف هذا وكان يجب أن أدخل إلى المتحف لولا أنه مغلق في الثانية ظهرا ، وبدل زيارته سأتجول في مكتبة المصلى المرواني حيث يؤمها الدارسون وكان عيسى واحدا منهم .
ساحة اﻷقصى ساحة واسعة وفيها يسير المرء مسافات وفيها يلاحظ الزوار باستمار .
( 7 )
من باب المغاربة يسمح بدخول السواح واليهود ولا يسمح لنا بالخروج منه . ثمة جنود اسرائيليون وثمة شرطة عرب خاضعون للنظام اﻷردني وظيفيا . أذهب وعيسى وابنه إلى البراق / حائط المبكى ، حسب روايتهم . أريد أن أراهم على أرض الواقع لا من خلال الفضائيات أو من خلال صفحات الجرائد . لطالما قرأت عما ؟ يفعلون هناك وما هو مضمون اﻷوراق التي يضعونها بين فراغات الحجارة . " أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب ؟ " محمود درويش في قصيدنه " في القدس " 2003 ؟ والحجارة شحيحة الضوء في البلدة القديمة كثيرة جدا ، وما أكثرها . تواريخ تجعل فاقد الحرية يتساءل تساؤل درويش : " من يشتري تاريخ أجدادي بيوم حرية ؟ "
ويضيف :
وتاريخ بني اسرائيل وغيرهم والفرنجة بلحظات هدوء وحياة كريمة لا خوف فيها.
أسأل عيسى :
- هل يحق لنا النزول إلى البراق أو حائط مبكاهم ؟
ويعلمني بأن ذلك ممكن لولا إجراءات التفتيش . من عل أنظر إليهم قرب البراق / الحائط . هنا سيحشرون حسب الرواية الدينية خاصتهم . في هذا المكان وكنت أتمنى لو أهبط وأشاهد المكان عن قرب ولكن ..
أسير وعيسى طالبا منه أن يأخذني إلى حارة اليهود التي كتب عنها جبرا في سيرته " البئر اﻷولى " وفيما بعد كتب عنها عيسى بلاطة ومن قبل هذين خليل السواحري في قصصه " مقهى الباشورة " 1969.
ها هو اﻷدب يعرفني بالمدينة وها هي القصص ترسم للمدينة خارطة في ذهني .
حارة اليهود تغدو بعد حرب 1948حارة الشرف ، وحين ينهزم العرب في 1967 ويحتل اليهود المدينة يعود الاسم القديم لها : " حارة اليهود " .
نسير في حارة اليهود . هناك يهود متدينون ذوو سوالف متدلية يجلسون على درج ما . أشعر بالرهبة ، فماذا لو استلبسونا ؟.
والحقيقة أنني شعرت بخوف ما . زواريب وأبنية قديمة ولا مارة عرب ولا نواصل ، ونذهب إلى السلسلة حيث السكان العرب قبل أن نعود ثانية إلى أجزاء عامرة من حارة اليهود التي كنت دخلتها في 1987 قبل الانتفاضة واشتريت منها كتاب تعلم العبرية " آلف مليم " - ألف كلمة .
ها نحن نعود ثانية إلى حارتهم ، وأسأل عن مكتبة ستميلاسكي فلا يجيبني أحدهم فهو لا يعرف أصلا ، وأبحث عن حارة الباشورة وعن مقهى الباشورة وخليل السواحري ، وهذا المقهى له حكاية
( 8 )
في حي الباشورة لا نعرف أننا فيه . نسأل شابا مقدسيا ، محله إلى جانب محلات اليهود ، عن الحي والمقهى فيجيب :
- هذا هو حي الباشورة ولا يوجد مقهى بهذا الاسم ، ولكن هنا يوجد مطعم ، فاسألوا صاحبه . وسيكون المطعم هو مقهى الباشورة .
مع أنني قرأت مجموعة خليل السواحري " مقهى الباشورة " ( 1969 ) ، وأنا أنجز رسالة الماجستير 1982 ، إلا أنني على كثرة زيارتي المدينة ، قبل 1987 ، لم أفكر بزيارة المقهى أو السؤال عنه . يبدو أن اهتمامنا بالمكان في اﻷدب كان اهتماما عابرا . صحيح أن الشعراء ركزوا على فكرة اﻷرض منذ ابراهيم طوقان ( توفي في 1941 ) إلا أن التركيز على المكان ، كمكان ، كان ضعيفا وهكذا لم نكتب عن يافا وحيفا وعكا كتابة تحفل بالتفاصيل ، وإنما كتبنا كتابة عابرة تذكر اسم المكان ولا تأتي على جزئياته وحياة الناس فيه . خليل السواحري فاق غيره في هذا اﻷمر ، كأنما كان يحذو حذو نجيب محفوظ ، ولكن السواحري الذي أبعد عن القدس كان أشبه بومضة ، سرعان ما انطفأت .
في قصصه يرسم السواحري صورة للقدس تبقى ، حتى اللحظة ، ذات نكهة مميزة ، نعثر عليها في مقهى الباشورة ، وهكذا سأدخل إلى المقهى وأمعن النظر فيه وأتذكر أبا بلطة صاحب المقهى والحارس الليلي فرج الهمشري واﻷستاذ سعيد / خليل ، ولم أتأخر حتى ساعة متأخرة ﻷرى زبائن المقهى الذي بدا شبه خال في الثالثة والنصف نهارا ، وفي قصص السواحري يعج ليلا بالشباب اليهود والشابات اليهوديات .
سيرحب بنا صاحب المقهى وسيصر على أن نشرب شيئا ، فنحن لسنا في محل أرامل . وسيجلب لنا الكولا : شيء بارد ، على رأيه وظاهر كلامه ، وسيتعرف إلى عيسى وأهله وأقاربه أيضا وسيقص علينا حكاية المقهى الذي عليه ضرائب أرنونة بما لا يقل عن 2 ونصف مليون شيكل وأنه يخسر يوميا من 300 - 400 شيكل للضرائب ، فالمقهى غير مجد ماديا ، وأن هناك من عرض عليه مبلغ 8 مليون شيكل لبيع المقهى الذي يطمح هو إلى تحويله إلى مطعم لكن البلدية ترفض منحه موافقة ، فعين اليهود على المكان .
عمدان المقهى لافتة ومن على سطحه ترى القدس وقبة الصخرة ، وفوق المطعم تقريبا يقيم سكان يهود يرجمون صاحب المقهى أحيانا بالحجارة من باب التضييق . صاحب المقهى قال لي إن هناك كتبا عنه بثلاث لغات ؛ الفرنسية والعبرية والانجليزية ، وأنه لا يوجد كتاب واحد بالعربية ، فأخبرته بما كتبه خليل السواحري ووعدته بأن أصور له المجموعة القصصية وأرسلها له .
( 9 )
سأغادر المقهى على أمل أن أعود إليه ثانية أو على أمل أن يزورني صاحبه ﻷصور له كتاب خليل السواحري " مقهى الباشورة " ، وستلفت الصورة التي التقطها لي عيسى اﻷنظار ، فعدا اعجاب الفيسبوكيين بها ، فإن زياد خداش وهو كاتب قصة قصيرة يكتب لي مستفسرا عن موقع المقهى .
وسأتجول ثانية في حارة اليهود ، في شارع يعج بالسائحين الذين يأتون جماعات جماعات ، فالإسرائيليون معنيون جدا بترويج المدينة باعتبار ما ستكون . ولا يخفى على أحد مدى اهتمامهم بأحيائهم مقابل إهمال اﻷحياء العربية . مثل يافا وتل أبيب . أهملوا اﻷولى فأصبح حالها يرثى له وأغدقوا اﻷموال لبناء الثانية فازدهرت ، فيم ماتت اﻷولى ، ما دفعني مرة لكتابة مقال في جريدة اﻷيام عنوانه " اغتيال مدينة .. اغتيال يافا " ، ولطالما شغلت نفسي باﻷمر ، وآخر ما كتبته كان تحت عنوان " القدس بين حكايتين ؛صهيونية وفلسطينية " ونشرته هذا العام في مجلة " مشارف " مقدسية .
وكنت توقفت مرارا أمام الترجمة العربية لرواية هرتسل وتبيان صورة حارة اليهود فيها . كما تذكرت صورة حي اليهود في سيرة جبرا . الحي الآن مختلف كليا ، وهذا جزء من الحرب ، كما في رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " وكما في دراسة أظنها لسليم تماري عن المدينة في الصراع . انتصرت تل أبيب على يافا فانتصر المشروع الصهيوني ، حتى اللحظة .
حي اليهود / حارة اليهود مختلفة الآن كليا . وسأمر على حي الأرمن مرور الكرام . هل كنت زرت أنجيليكا نويفرت في هذا الحي قبل 1987 ونسيت ؟وهذه مستشرقة ألمانية أخذتني إلى ألمانيا . وسأسأل رجلا ثمانينيا عما إذا كانت هناك مستشرقة ما زالت تقيم في الحي ، فسألني إن كانت هي الطويلة النحيفة ، وأخبرني أنها تقيم أصلا في حارة النصارى . ظل الرجل جالسا على كرسيه قرب المقهى وسرنا باتجاه كنيسة القيامة ومسجد عمر بن الخطاب ، والمسجد هذا غير المصلى في اﻷقصى .
( 10 )
في كنيسة القيامة ترى التاريخ البشري مجسدا منذ الفي عام . متى بنى البشر هذه الكنيسة ؛عمدانها حجارتها أبوابها ؟
كل شيء يعيد إلى الماضي ، ومن لم يزر اﻷقصى والقيامة كأنه لم يزر القدس . إلى جانب الكنيسة جامع الخليفة عمر بن الخطاب وحين تدخله يعود عيسى إلى طلبه : " توضأ وصل ركعتين " ، فتتذكر ثانية سعيد مهران والشيخ الجنيدي .
هنا الكنيسة إلى جانب المسجد ، وهنا التسامح ، فلم يهدم عمر الكنيسة ليقيم مكانها المسجد . كأن داعش وطالبان من قبل ، كأنهم لم يقرؤوا عن زيارة عمر إلى القدس . ويخيل إلي أن داعش خرجت من معطف الصليبيين الذين احتلوا القدس في 492 هجرية وحولوا اﻷقصى إلى كنيسة . كأن داعش لم تسمع عن صلاح الدين وما فعله يوم حرر القدس في 583 هجرية . اليهود ، حتى اللحظة ، ليسوا من داعش ولم يتأثروا بعد بطالبان ، ويوم يهدمون اﻷقصى ويغلقون المساجد ويحولونها إلى كنس ، وكذلك الكنائس ، فسيصبحون طالبان وداعش .
" إنهم أرحم من الغزاة الذين سبقوهم في التاريخ " يقول معلم سعيد المتشائل لسعيد . يقول الكلام ويسخر ، فالصليبيون احتلوا مدننا وقتلوا أهلها ، فكانوا أكثر رأفة بالسكان من اليهود الذين احتلوا المدن الفلسطينية وهجروا أهلها " إن في قلوبهم لرحمة " .
( والحقيقة ، يا ولدي انهم ليسوا اسوا من غيرهم في التاريخ )
( إن في قلوبهم لرأفة لم يحظ بها أجدادنا من الغزاة الذين سبقوهم )
( فتحققت من كلام معلمي انهم ليسوا أسوأ من الملك ليون هارت )( من " المتشائل " ، الرسالة 9 من الكتاب الاول " يعاد " )
وأنا أتجول في كنيسة القيامة أرى التاريخ وأشم عبق الماضي وأتذكر ما كتبه زكريا محمد حول تاريخ الكنيسة واسمها .
في شعر الحروب الصليبية بيت شعري نصه :
" وقمامة قمت من الشرك الذي بزواله وزوالها يتطهر " ،
ولكن المسلمين لم يزيلوا الكنيسة وظلت في مكانها . وأنا أدرس مساق القدس آتي على قصة كنيسة القيامة /قمامة وهيلين وصليب المسيح ، ولمن يهمه اﻷمر بالتفصيل فعليه العودة إلى ما كتبه زكريا محمد .
يا لروعة المبنى ! وسيخبرني عيسى عن الخلاف بين الطوائف المسيحية وعن مفتاح الكنيسة الذي ما زال بأييدي المسلمين .
هل أطنبت ليلى اﻷطرش في روايتها " ترانيم الغواية " 2014 بوصف الكنيسة من الداخل ؟
وهل يرقى وصفها إلى ما الكنيسة عليه ؟
لا بد من قراءة الرواية ثانية قبل إصدار الحكم .
( 11 )
في سوق العطارين أتذكر رواية عزام أبو السعود التي حملت الاسم نفسه " سوق العطارين " ، وللحقيقة أقول إنني غدوت أعرف أسماء أسواق وحمامات وفنادق ، في القدس ، من خلال روايأت أبنائها وبناتها : عزام أبو السعود وله رواية ثانية هي " حمام العين " وديمة السمان ولها رواية " برج اللقلق " ، ومن قبل هذين السواحري ونبيل خوري ، ولﻷخير رواية عنوانها " حارة النصارى " 1974 صدرت بعد قصص " مقهى الباشورة " .
في سوق العطارين في الرابعة عصرا كانت الحركة التجارية ضعيفة - على العكس كانت المحلات اليهودية تعج بالزائرين والسائحين والمشترين - وسيعلمني عيسى أن اﻷمر مخطط له ، فدولة أبناء العمومة تريد إخراج العرب من محلاتهم بالتضييق عليهم لتحويل البلدة القديمة إلى مدينة يهودية بالكامل ، كما تفعل في عكا ، والآن في يافا . التجار جالسون ولا يبيعون وأتذكر صورة المدينة المتخيلة في رواية ( هرتسل ) 1902 حيث ستغدو مدينة يهودية وعالمية يؤمها السياح .
أقول لعيسى :
- يجب تشجيع المسلمين على زيارة القدس القديمة ، ويجب علينا أن نخصص يوما لشراء حاجياتنا منها ، حتى يتمكن أهلها من الصمود . حقا هذا نوع من المقاومة حتى لا تصبح القدس غرناطة ثانية أو أندلسا ثانية ويصبح سكانها موريسكيين .
واعتقد ان على الفلسطينيين ان يشتروا من القدس ، ولو بسعر أعلى ، مع ان أسعار بعض السلع مثل أسعارها في نابلس ، لكي يدعموا أهل القدس ، واعتقد أن على كثيرين ممن يتبضعون من محلات ليفي أن ييمموا صوب القدس ، حتى لا تغدو مدينة يهودية بالكامل ، ويخس السبت في ( ... ) نحن لا في ( ... ) اليهود .
آن أوان صلاة العصر وعيسى سيصلي وأنا سأغادر وسنفترق عند خان الزيت .
( 12 )
( قفلة )
خمس ساعات سأنفقها في القدس ستكون لي ساعات من أجمل ساعات العمر ، حتى إنني لن أدعهم يكتبون على قبري ( مثل جبر:من رحم أمه إلى القبر ) . في انتفاضة اﻷقصى 28 / 9 / 2000 وبعد أن تحولت حياتنا هنا إلى جحيم بسبب التفجيرات والقتل ، كتبت قصة عنوانها " يوميات جبر الفلسطيني في العيد " وذهبت فيها إلى أن الفلسطينيين مثل جبر : من أرحام أمهاتهم إلى القبر .
أنا الآن في القدس . يا لها من ساعات تفوق في روعتها زيارة مدن كثيرة !
هل أشعر بالندم ﻷنني لم أسافر هذا الصيف إلى عمان كانت القدس عروس المدائن وفي شوارعها تتذكر فيروز :
" شوارع القدس العتيقة" .
مدينة اﻷديان . مدينة السلام . مدينة الحروب . أكثر مدينة تعرضت للتدمير على مدى التاريخ . مدينة الملوك . مدينة الله . أورشليم . أور سالم . آيلياء . القدس . و ..و ..
أتمشى في خان الزيت ببطء شديد . أشتري الحلوى والفواكه المجمدة وكنت أتمنى لو أنني قادر على تلبية نداءات ودعوات بائعات الخضار والعنب من الريفيات اللاتي ما زلن يفترشن اﻷرض وينادين على بضائعهن والزبائن
وكنت أمعن النظر في الناس . ما زالت أغلبية المارة من العرب ولم أشعر بالغربة هذه المرة . على باب العمود أمعنت النظر في بعض اﻷماكن التي أعرف .
- أين هي بوابة مندلباوم ؟
لقد أزالها الإسرائيليون بعد حرب 1967 ولا يعرف عنها إلا من قرأ قصة آميل حبيبي وقصة سميرة عزام .
ربما هنا يجد المرء نفسه يكرر مع تميم البرغوثي " في القدس من في القدس ، لكنني لا ارى في القدس الا أنت "
هنا في باب العمود أقول :
- هنا يجب تدريس مساق القدس في اﻷدب العربي . هنا وهناك : في اﻷقصى والقيامة ومقهى الباشورة ودرب الآلام .
أسير باتجاه باصات رام الله . كأنني ، الآن ، في العام 1987 . كأنني لا رحت ولا جيت وكأنني أخفي جريدة " الاتحاد " ومجلة " الجديد " .

***

6- القدس - هرتسيليا - يافا

- كان علي أن أزور يافا ثانية لأكتب عنها، وحين زرتها، الأربعاء الماضي، دخلت إليها في السادسة مساء ولم أنفق فيها نهارا سوى ساعتين وليلا سوى ساعة ونصف الساعة.
في الليل وأنا أنظر إلى البحر وأصغي إلى هدير أمواجه رأيت البحر وحشا يدخل الرعب في النفس. رأيته غامضا حقودا، بخلاف ما رأيته عصرا ومغربا. كانت الشمس تسقط في البحر، ومن هذا المنظر استوحى محمود درويش قصيدة "برتقالية" وشبه بالشمس البرتقال "لنا شمس في سلال الفواكه".
احترت في الكتابة، فالجمعة ذكرى وفاة الشاعر، والأحد العيد، وأنا أريد مواصلة الكتابة عن يافا (انظر مقالي في الأيام الفلسطينية ١٦تموز ٢٠١٩).
في السابعة والربع صباحا، كان موعد انطلاق الحافلة، ولدقتنا في المواعيد فقد انطلقت في الثامنة، وتكرر الالتزام بالمواعيد في القدس وهرتسيليا ويافا.
في القدس، وجب أن تنطلق الحافلة في الواحدة والنصف، وفي هرتسيليا وجب أن نغادر الشط في الخامسة والنصف، وفي يافا اتفقنا على أن ساعة الرواح هي التاسعة والنصف.
تركنا القدس وراءنا في الثانية والنصف، وهرتسيليا في السادسة، وودعنا يافا في العاشرة والنصف، وكانت المرأة التي تجلس إلى جانبي تسألني عن التوقيت الصيفي والتوقيت الشتوي. هل كانت المرأة ترى أننا ملتزمون بالوقت وأن مرد الاختلاف هو عدم الاتفاق على أي التوقيتين؛ الصيفي أو الشتوي، هو المقصود؟ ربما، فقد عزت المستشرقة الألمانية (انجليكا نويفرت) الخلاف الفلسطيني - الإسرائيلي إلى "حواجز لغوية بين جيران"، ورأت أن محمود درويش هو المسؤول عن الإرباك الذي سببته قصيدته "عابرون في كلام عابر".
هل كان عدم الالتزام بالموعد إذن يعود إلى عدم اتفاقنا على التوقيت الصيفي والشتوي؟!
في الصباح، وأنا أسأل عن الحافلة التقيت بأحد طلابي يقف قرب حافلة أخرى ستنطلق إلى القدس، وتجاذبنا أطراف الحديث وسألني عن وجهة سفري فأجبته.
قال لي طالبي:
- من المؤكد أن القدس لا تعني لك أكثر من زيارة عابرة، فيافا قصدك وهرتسيليا.
كنت علمت الطالب مساقا عن القدس، وقلت له:
- أنت تعرف رأيي. يافا والقدس وحيفا لي مدن فلسطينية ولا فرق بينها.
لم أر طالبي في القدس، فقد علمت أنه أوصل أهله وعاد لعدم حصوله على تصريح.
في الأقصى، سألت طالبا ثانيا علمته المساق نفسه، إن كان زار كنيسة القيامة أو حارة اليهود/ الشرف أو سوق الباشورة.
مؤمن يصلي ويصوم، وقد عرفت هذا من خلال وجوده في الأقصى، وعندما دعوته إلى حلويات جعفر اعتذر بأنه صائم.
لأول مرة يدخل مؤمن، الذي زار، من قبل، القدس مرارا ، لأول مرة يدخل إلى كنيسة القيامة، ولما رآها قال لي إنه يفهم الآن سطر محمود درويش
- "أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب؟".
كلما زرت القدس اشتريت كعكا مقدسيا وهذه المرة أفطرت منقوشة زعتر. كان صاحب المطعم نزقا عكر المزاج، وحين سألته عن السعر ولاحظ أنني أميل إلى الدعابة في حديثي استبدل البسمة بالكشرة - يدخل حرف الجر على المتروك.
وأنا أسير في شوارع القدس العتيقة أبدأ حديثا مع المواطنين لأصغي إلى آرائهم فيما هم والقدس فيه.
دخلت إلى مكتبة قرب إحدى بوابات الأقصى أسأل عن رواية عدنية شبلي "تفصيل ثانوي" فلم أجد ضالتي، وتحدثت مع صاحب محل كانت لهجته تقطر حزنا ومع ذلك لم ينل منه اليأس، فالقدس عرفت شعوبا وقبائل ودولا. دالوا وزالوا. هل كان تميم البرغوثي أصغى إليه وهو يكتب قصيدته وخلص إلى "في القدس من في القدس، ولكن لا أرى في القدس إلا أنت".
جلست، وأنا خارج من البلدة القديمة، في مقهى عابر أرتاح.
ثمة امرأة سبعينية تقدم المشروبات الباردة والساخنة للرواد. سألت المرأة عن مشروب غازي بلا سكر فاعتذرت لعدم وجوده ولم تصر المرأة على ضرورة أن أشرب شيئا ما، وتركتني دون أن تقول لي إن المكان يدفع ضرائب وهي ليست هنا لتقديم صدقات جارية على روح أمها، فتذكرت بعض أصحاب المقاهي في مدن أخرى ممن يصرون على أن تشرب شيئا.
في الطريق إلى هرتسيليا أنظر في جانبي الطريق وأمر بتل أبيب ويافا.
- هل كان علي أن أظل في الحافلة وأذهب إلى هرتسيليا؟
- "حلب قصدنا وأنت السبيل" قال المتنبي. وكان قصدي في الأصل يافا، وكان لي هدف هو أن أمعن النظر في المدينة لأنهي كتابا أعكف على إنجازه.
قبل يومين من الرحلة قرأت في وسائل التواصل الاجتماعي فقرة يهاجم كاتبها فيها أولئك الذين يزورون فلسطين الداخل، ويزعم أنهم مطبعون، فعقبت بدوري محتجا إن ما نقوم به ليس تطبيعا على الإطلاق، وإننا نزور مدننا وبلادنا وكنا نفعل هذا قبل ١٩٨٧ ولم نكن نطبع، بل وأصررت في ردي على ضرورة زيارة حيفا ويافا وعكا لتنطبع صورها في ذاكرتنا ولنتعرف عليها.
على شاطئ هرتسيليا أنفق ساعتين أتأمل البحر وانعكاس أشعة الشمس على صفحته. بدا البحر أزرق يلمع وكانت النساء غير العربيات يرتدين المايوهات كأنهن مصبوبات صبا. وأنا جالس تذكرت خليل مطران على شط الإسكندرية وهو عليل يتشافى. مم أتشافى أنا؟ إنني عابر في هذا المكان. هل تساءلت من العابر فينا: نحن أم هم؟
كان الشباب يسبحون وكانت النسوة الفلسطينيات يرتدين الملابس الشرعية أو الأوروبية التي تستر أجسادهن وكان ثمة شاب سوداني أو أثيوبي يبيع التذاكر لمن يرغب في الجلوس على كرسي تحت مظلة تقيه أشعة شمس آب اللاهبة، وكان ثمة آخر يبيع الآرتيك "آرتيك. آرتيك" والآرتيك هي البوظة والاسكيمو. هل بدونا استثناء أم بدا الشابان السودانيان أو الأثيوبيان هما الاستثناء.
كنت أتأمل البحر وأتساءل:
- بم يشعر هذان في هذا العالم الأبيض؟
الفتاتان اللتان كانتا بالقرب مني كانتا أوروبيتي الشكل تماما.
- "حلب قصدنا وأنت السبيل".
وكنت أفكر متى أصل يافا.
في السابعة إلا ربعا كنت على شاطئ المدينة. لم تكلل الزيارة بالنجاح، فلم أر المدينة نهارا بما يكفي. لقد أختار أكثرنا ركوب السفينة وكان علي الانتظار حتى يعودوا.
على شاطئ المدينة ثمة مطعم لافت، بالإضافة إلى مطاعم أخرى. إنه مطعم "العجوز والبحر" وفي الثامنة وحتى التاسعة كان الزبائن يفدون. المطعم يملكه عربي من يافا وعماله يتكلمون العربية ورواده خليط من العرب واليهود.
- ماذا بقي من يافا في يافا؟
أسأل نفسي وأنا أتجول في البلدة القديمة.
أسير بصحبة فلسطيني من نابلس عمل في المدينة ثلاث سنوات وقد أخذ يشرح لي عن الأماكن القريبة من الساعة وفرن "أبو العافية"، وكنت أسأل عن أسماء الشوارع شارعا شارعا.
وأنا أتحدث مع رفيقي انضم إلينا مواطن يافاوي كان بصحبة زوجته. الرجل من مواليد يافا في ١٩٤٠، وهو من عائلة أبو قاعود وقد درس الرياضيات في جامعة تل أبيب وعمل مدرسا وتقاعد منذ ست سنوات تقريبا وقد أخبرنا أنه يقيم في عمارة تتكون من إحدى عشرة شقة وأنه المسلم الوحيد من سكانها. أفاض الرجل في الحديث والإجابة عن أسئلتي حول المكان، ولما كانت زوجته تقف قريبا منا فقد أضطر للاعتذار لنا واللحاق بها.
- هل خطر ببالي وأنا على شاطئ البحر سطر الشاعر أحمد دحبور: "يا طيورا طايرة بلغي دمعة أمي أن حيفا لم تزل حيفا!" محورا: "أن يافا لم تزل يافا".
أبو حسن أبو قاعود قال لنا، إن الكثير من معالم يافا تغيرت، وأنا كنت في يافا ولم أكن فيها، ولا بد من أن أذرع شوارعها شارعا شارعا لأكتب عنها.
كان الليل قد أليل وكان البحر السماوي اللامع في منتصف النهار يتحول رويدا رويدا إلى البني القاتم المظلم وكان ثمة وحش أسطوري يتسلل إلى أعماقي.
هل كتبت كل شيء؟
في الصباح، كنت تذكرت أغنية أم كلثوم "أصبح عندي الآن بندقية. إلى فلسطين خذوني معكم يا أيها الثوار. إلى فلسطين طريق واحد يمر عبر فوهة بندقية" وحين ذهبنا إلى يافا ثانية وثالثة بعد خمسين عاما مررنا عبر معاطة في معبر قلنديا كما لو أننا دجاج. هل كتب اسحق موسى الحسيني روايته "مذكرات دجاجة" ١٩٤٣ عنا؟

تم النشر بتاريخ: 2019-08-14
عادل الأسطة
الايام

***

7- كتابة قصائد القدس

تذكرت وأنا أقرأ كتاب الدكتور محمد حور " تجليات القدس في الشعر المعاصر " وألاحظ كم القصائد وعدد الشعراء الذين كتبوا قصائد في القدس وأيضا عدد الدراسات العلمية والكتب والأبحاث حولها ، تذكرت قصيدة محمود درويش في ديوانه " محاولة رقم ٧ " ( ١٩٧٣ ) " الخروج من ساحل المتوسط " .
في القصيدة يقول إن الرثاء تعب من الضحايا وإن الضحايا جمدت أحزانها " أواه ! من يرثي المراثي "
ولكثرة قصائد الرثاء ، وكان هو نفسه بعد خروجه من الأرض المحتلة تحول إلى شاعر رثاء ، فإنه خاطب الشعراء بالآتي :
" يا أيها الشعراء لا تتكاثروا
ليست جراحي دفترا
يا أيها الزعماء .. لا تتكاثروا !
ليست عظامي منبرا " .
مات الشاعر في العام ٢٠٠٨ ، ومنذ وفاته تكاثر الشهداء والزعماء والشعراء والكتاب و ... وكثرت الكتابة عن القدس أيضا التي لم يخصها هو وأحمد دحبور بما خصا به مدينة حيفا .
ماذا لو امتد به العمر وقرأ القصائد التي تكتب في القدس والدراسات التي تناولتها وتناولت ما كتبه شخصيا عن المدينة المذكورة ؟
لست شخصيا ضد أن يكتب أي شاعر أو أي دارس عن القدس ، ولكني أتمنى من هؤلاء وهؤلاء أن ينظروا في نتاج من سبقوهم وأن يسائلوه وبعد ذلك يمكن أن يكتبوا - يعني أن يبنوا نتاجهم على النتاج السابق .
هل أحور في سطر محمود درويش بعد أن أورده أولا :
" يا أيها الشعراء الذين يكتبون قصائد قدس : لا تتكاثروا "
و
" يا أيها الدارسون لا تتكاثروا إلا إذا أضفتم للدراسات السابقة شيئا جديدا !"
أعتقد أنه ليس من حقي .
مساء الخير
خربشات عادل الاسطة

٢١ / ٢ / ٢٠٢٣ .

***

8- قراءة في قصيدة تميم البرغوثي "في القدس"

العنوان:
يتناص عنوان القصيدة تناصاً تطابقياً مع قصيدة لـمحمود درويش عنوانها "في القدس" وردت في ديوانه "لا تعتذر عما فعلت"، وقد كتبها الأخير على تفعيلة البحر الكامل مُتَفاعلن التي تتحول إلى مُتْفاعلن. أما قصيدة تميم التي زاوج فيها بين الشكلين: التقليدي والتفعيلة، فقد نظم العمودي منها على البحر الطويل: فعولن مفاعيلن، فيما كتب سطر التفعيلة على وزن البحر الكامل: متفاعلن. ومكون العنوان مكون مكاني، فالـمكان هو محور القصيدة وموضوعها، وعليه يتمحور هم الشاعر.
الـمناسبة: وسؤال السلالة
كتب درويش قصيدته بعد زيارة الـمدينة وعبّر فيها عن شعوره الذي انتابه، عن فرحه الكبير، عن نسيانه كل شيء، وأثار أسئلة عن الحروب التي يخوضها أصحاب الديانات من أجل حجر عتيق، وأتى في نهايتها على سؤال شرطية له: ألـم أقتلك؟ وكتب تميم قصيدته، أيضاً، إثر زيارة للـمدينة، فأتى فيها عما في القدس، على الناس وعلى الحجر والتاريخ، وعلى الشرطي أيضاً.
وتذكر قصيدة تميم قارئ أشعار أبيه مريد البرغوثي بقصائد عديدة له ــ أي للأب ــ منها، على سبيل الـمثال لا الحصر، قصيدة "طال الشتات" التي برز فيها، أيضاً، شكلا القصيدتين: العمودي والتفعيلة، وقد كتبها مريد بعد حرب العام 1982. هذا الشبل تميم ابن ذاك الأسد مريد، ويذكر هذا قارئ الشعر العربي القديم بزهير بن أبي سلـمى وابنه كعب.
بنية القصيدة:
لا أدري إن كان تميم هو الذي أبرز القصيدة شكلاً كما ظهرت في طبعة ديوانه "في القدس" الصادر العام الـماضي في رام الله دون ناشر ودون كتابة تاريخ الإصدار ومكانه، وإن أشار إلى أن الحقوق للـمؤلف، لا أدري إن كان تميم هو الذي أبرز القصيدة شكلاً كما ظهرت عليه.
كما ذكرت، ابتداء، فقد زاوج تميم بين الشكلين: التقليدي وقصيدة التفعيلة. الجزء الأول منها تقليدي، موزون ومقفى، فيما بقية الأجزاء تدرج ضمن قصيدة التفعيلة. وإذا ما حاول الـمرء تقسيم القصيدة اعتماداً على قراءة بصرية قسمها إلى خمسة عشر مقطعاً، ذلك أن صورتها في الديوان تقول هذا، فبين كل مقطع ومقطع فراغ بارز تختلف مساحته عن الفراغ بين سطر وسطر. هل قصد تميم هذا؟
وتتكرر شبه الجملة "في القدس" اثنتين وعشرين مرة، وغالباً ما يستخدمها في بداية كل مقطع، ولكن هذا ليس قاعدة، فقد يستخدمها في الـمقطع الواحد غير مرة، وقد يفتتح بعض الـمقاطع بكلـمات أخرى، ما يعني أننا لا نستطيع أن نقول إن استخدامه لها ــ أي لشبه الجملة يعد بداية مقطع جديد أو فكرة جديدة.
وبعد قراءات عديدة للقصيدة ارتأيت أنه يمكن تقسيمها إلى سبعة أجزاء، يتشكل أولها من الأسطر الستة الأولى (الأبيات) تقليدية الشكل، وثانيها من ستة عشر سطراً، وثالثها من اثني عشر سطراً، ورابعها من ستة أسطر، فيما خامسها من سبعة وستين سطراً، أما سادسها فمن أربعة أسطر وأما سابعها فمن خمسة عشر سطراً.
الجزء الأول: قانون العدو والحيلولة دون زيارة الشاعر:
يأتي الشاعر في الجزء الأول على مروره على الـمدينة "دار الحبيب" دون أن يتمكن من دخولها، لأن قانون الأعادي لا يسمح للفلسطيني من أبناء الضفة وأبناء الـمنفى بذلك. لا يغضب تميم، ويقنع نفسه، أو يحاول، بأن الـمنع نعمة فماذا سيرى في القدس حين يزورها. سيرى، إذا ما بدت من جانب الدور دور القدس، كل ما لا يستطيع احتماله. ويحاول أن يقنع نفسه والآخرين بهذا فيأتي بما يعزز هذا: ليس كل من يلقى حبيبه يسر، ولا كل من غاب عن الحبيب/ الـمدينة يضيره الغياب. إن سَرَّ لقاءُ الحبيب النفسَ قبل الفراق، فليس بمأمون عليها سرورُها.
ويختتم الشاعر هذا الجزء الأول ببيت تقريري يقول:
متى تبصر القدسَ العتيقة مرة فسوف تراها العين حيث تديرها
ــ أي إذا رأيت القدس القديمة مرة فســوف تظـل الـعين تراهـا
الجزء الثاني: من يوجد في القدس وماذا يوجد فيها:
يأتي الشاعر في هذا الجزء على روّاد الـمدينة ومن فيها وما فيها؟ في القدس بشر كثر من أشتات الأرض، بشر علـمانيون وآخرون متدينون، بيض وشقر وسود، يهود وسياح أجانب، سياح لا يرون الـمدينة، فما يروق لهم أكثر التقاط صورة مع امرأة فلسطينية تبيع الفجل. وفي القدس أسوار من الريحان ومتراس من الاسمنت. وحيث يمنع تميم من دخولها يصلي على الاسفلت، وتكون الـمفارقة أن القدس تتسع لكل من سبق إلا للشاعر الذي ينحدر من اصول فلسطينية:
"في القدس مَنْ في القدس إلا أنت"
الجزء الثالث: ما يقوله التاريخ للشاعر:
إذا كان الجزء الأول يوظف فيه الشـاعر ضمير الـمتكلـم: النحن والأنا (مررنا / فقلت) وخطاب الذات لذاتها: فماذا ترى، وفيه أيضاً يبرز عنصر الحوار، حوار الشاعر مع ذاته، وإذا كان الجزء الثاني يغلب عليه الوصف، وصف ما في القدس، فإن الجزء الثالث يغيب فيه صوت الشاعر ليحضر صوت التاريخ، وهو صوت سيحاوره الشاعر وسيبدي رأيه في رأيه. يبدأ هذا الجزء بعبارة سردية "وتلفت التاريخ لي متبسماً"، ولا ندري إن كانت ابتسامته ساخرة أم غير ساخرة، صفراء أو خالية من أي سوء، ونصغي إلى التاريخ يخاطب الشاعر، فماذا يقول له وما هي رؤيته لـما ألـم بالـمدينة؟
سيسأل التاريخ الشاعر الذي يزور القدس إن كان سيبصر غير الجورجي والبولوني والحبشي والسياح الافرنج، وسيقول له: ها هم أمامك. إنهم الـمتن وأنت الهامش. إنهم الأكثرية وأنت الأقلية، إنهم الأصل وأنت الفرع. هل كنت تظن أن زيارتك، يا بني، ستريك غير ما هو عليه الواقع. ستريك ما تتمنى أن تراه وتهواه؟ وسيتابع التاريخ قائلاً: في القدس يحضر الجميع إلا أنت. القدس غزالة حكم الزمان بفراقها، وأنت ما زلت تركض وراءها. ارفق بنفسك أيها الفتى، فأنا أراك ضعفت و"في القدس من في القدس إلا أنت". وهذا السطر ورد في الجزء الثاني على لسان الشاعر نفسه. هل غدت القدس مدينة غير عربية؟.
الجزء الرابع: رد الشاعر على التاريخ:
يصغي الشاعر إلى صوت التاريخ ومكره، ولكنه لا يأخذ به، وتكون له ــ أي للشاعر ــ رؤية أخرى لـما يجري.
دهر الـمدينة، كما يرى الشاعر، دهران؛ دهر غريب أجنبي لا يغير خطوه، وكأنه يمشي خلال النوم، مطمئن إلى ما يجري، ولعلنا نتذكر هنا عبارة الحكومات الإسرائيلية عن القدس: القدس العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل، وهي عبارة ليست لفظية فقط، إذ يعمل الإسرائيليون ليل نهار من أجل تحقيقها، فيصادرون الأرض ويهدمون البيوت العربية ويقيمون مبانيهم، ودهر كامن ملتئم يمشي بلا صوت حذار القوم. ماذا يرمي الشاعر بقوله هذا؟ لعله مطمئن أيضاً إلى أن هناك شيئاً خفيا لا صوت له يقول شيئاً آخر، وهذا ما سيفصح عنه الجزء الخامس. كأن الجزء الخامس هو الدهر الكامن الـملتئم الذي يمشي بلا صوت، وهو ما يقوله عموماً تاريخ الـمدينة وحاضرها وشواهدها وما فيها.
الجزء الخامس: ماذا تقول الـمدينة؟
كأنما يبصر الشاعر مستقبل الـمدينة من خلال ماضيها وما هي عليه. وما هي عليه الآن نتاج حقب ماضية كثيرة، إن القدس تعرف نفسها أكثر مما يعرفها غيرها. وإذا أردت أن تتأكد من هذا فاسأل الخلق هناك، وسيدلك الجميع، فكل شيء في القدس ذو لسان يفصح، حين تسأله. فما هي الدلالات على أن صوت الدهر الكامن الـملتئم هو الذي يقول شيئاً آخر، سيقوله لنا الشاعر في نهاية قصيدته، ويغاير ما يقوله الانطباع الأول لزائر الـمدينة وما يقوله التاريخ الـماكر؟

1 ــ 5 الهلال في القدس يزداد تقوساً حدبا على أشباهه فوق القباب. لقد تطورت بينهم، عبر السنين، علاقة تشبه علاقة الأب بالبنين. طبعاً نفترض هنا الجانب الإيجابي للعلاقة، حيث التواصل لا الانفصال. هنا ثمة ما يشير إلى قبة الصخرة.
2 ــ 5 الحجارة في القدس حجارة اقتبست عبارات من الإنجيل وآيات من القرآن، فمن يستطيع انتزاع الدلالات الدينية الـمسيحية والإسلامية عنها. ويعرف الجمال في القدس بأنه مثمن الأضلاع أزرق ــ هل يقصد تميم أبواب الـمدينة السبعة، يضاف إليها قبة الصخرة ذات اللون الأزرق، فكأنها تشكل الباب الثامن، ليغدو سور الـمدينة مثمن الأضلاع؟ ــ وفوق هذا الجمال مثمن الأضلاع قبة ذهبية هي في رأيه مثل مرآة محدبة يرى الناظر إليها فيها وجه السماء ملخصاً، والقبة تدلل السماء وتدنيها، وتوزعها، كما لو أنها أكياس معونة، أيام الحصار، على من يستحق الـمعونة لـمن يطلبها أيام الجمعة بعد خطبة الجمعة.
3 ــ 5 وارتباطاً بما سبق فإن السماء في القدس تفرقت في الناس تحميهم ويحمونها ويحملونها على أكتافهم إذا جار الزمان على أبنائها / أقمارها. هنا نتذكر لوحة الفنان التشكيلي سليمان منصور "جمل الـمحامل" وفيها يحمل الـمواطنُ الفلسطيني القدس على ظهره.
4 ــ 5 في القدس أعمدة داكنة، ونوافذ تعلو الـمساجد والكنائس تمسك بيد الصباح لتريه كيف يتم النقش بالألوان، وحين يبدي رأياً مغايراً ترد عليه متمسكة برأيها هي، حتى إذا ما طال الخلاف تقاسما وقبل بحل وسط، فهو حر خارج القدس، ولكن إن أراد دخولها فعليه أن يرضى بحكمها، فهي نوافذ الرحمن.
5 ــ 5 وفي القدس دليل آخر يفصح ويبين عن حقيقتها. إذا كان الدليل الأول أتى على الصخرة والهلال فوقها، والثاني على تزيين حجارتها باقتباسات من الإنجيل والقرآن والثالث بتضافر العلاقة بين الناس والسماء والرابع بقدسية أعمدتها ونوافذها، فإن الدليل الخامس يتمثل في الـمدارس التي بناها الـمماليك الذين جاؤوا إلى الـمدينة من وراء النهر. كان الـمملوك عبداً بيع بسوق النخاسة في أصفهان لتاجر بغدادي، فخاف أمير حلب من زرقة عين الـمملوك اليسرى، ما جعله يعطيه لقافلة ذاهبة إلى مصر، وهناك سيغدو هذا الـمملوك غلاب الـمغول وصاحب السلطان في مصر، وستبنى في القدس مدرسة تحمل اسمه. وهذا شاهد على تاريخ الـمدينة.
6 ــ 5 وثمة في القدس أشياء أخرى تتعاطف مع سكانها العرب ضد الـمغتصب. إنها رائحة البهارات في دكاكين العطارين بخان الزيت. وهذه الرائحة لها لغة إذا أصغى الشاعر لها سيفهمها، فهي تقول له حين يطلق الـمغتصبون قنابل الغاز الـمسيل للدموع على الـمتظاهرين، تقول له: لا تحفل بهم. وحين ينحسر الغاز تعود الرائحة لتخاطبه ثانية: أرأيت؟
7 ــ 5 في القدس تناقض غير مزعج. إنه يرتاح. وسكان الـمدينة يرون عجائب لا ينكرونها، وثمة معجزات هناك تلـمس باليدين. (إشارة إلى التعايش بين الطوائف وأهل الديانات: قديمها وجديدها).
8 ــ 5 وما يرتبط بما سبق أنك لو صافحت شيخاً في القدس أو لو لـمست بناية لوجدت على كفيك نص قصيدة نقشت، أو نص قصيدتين. كأنما القدس وأهلها ملهمون للإبداع الشعري.
9 ــ 5 وعلى الرغم من مصائب الـمدينة: احتلال فتحرير فاحتلال، وغزاة إثر غزاة وحرائق الـمساجد والكنائس، على الرغم من هذا ثمة براءة وثمة طفولة، ولذا ترى الحمام هناك يطير معلناً دولة في الريح بين رصاصتين. وهذا دليل آخر على ما تقوله الـمدينة عن ذاتها.
01 ــ 5وقبور الـمدينة تقول لك تاريخها. كأنها السطور والتراب الكتاب. القبور والتراب تقول لك: الكل مروا من هنا، فالـمدينة تقبل من أتاها كافراً أو مؤمنا: فيها الزنج والافرنج والقفجاق والصقلاب والبشناق والتاتار والأتراك، أهل الله والهلاك، والفقراء والـملاك، والفجار والنساك: "فيها كل من وطئ الثرى
كانوا الهوامش في الكتاب فأصبحوا نصّ الـمدينة قبلنا".
الجزء السادس: الشاعر يخاطب التاريخ وكاتبه:
بعد أن ساق الشاعر ما أفصح عنه لسان القدس، وما أبانه، داحضاً زعم دهر الـمدينة الأجنبي / داحضاً الرواية الصهيونية، يسأل الشاعر كاتب التاريخ السؤال التالي: ماذا جدّ فاستثنيتنا. هل رأيت الـمدينة تتسع لهؤلاء كلهم وتضيق علينا وحدنا ــ أي تضيق على فلسطينيي الضفة والـمنافي وغزة؟ ولا يقتنع الشاعر برواية كاتب التاريخ / برواية من تلفت مبتسماً قائلاً: انظر ماذا يقول لك واقع الـمدينة الراهن. ومن هنا يقترح الشاعر على كاتب التاريخ أن يعيد الكتابة وأن يقرأ الواقع ثانية، فالشاعر يرى كاتب التاريخ أخطأ في قراءته الأولى.
الجزء السابع: مغادرة الـمدينة بقدر من التفاؤل:
تغمض العين حتى لا ترى ما رأت، لكنها سرعان ما تعيد النظر. يصعد الشاعر سيارة ذات نمرة صفراء ــ أي سيارة إسرائيلية، ويميل السائق بالسيارة شمالاً، مبتعداً عن باب القدس، وهكذا تغدو الـمدينة خلف الركاب، لكن العين تبصرها بمرآة السيارة اليمين: تغيرت ألوانها في الشمس من قبل الغياب.
والشاعر فيما هو عليه، حيث يغادر الـمدينة، ولكنه ينظر إليها من خلال مرآة السيارة، تفجؤه نسمة لا يدري كيف تسللت للوجه، نسمة قالت له، وقد أمعن فيما أمعن فيه وهو يرى الـمدينة وما فيها ويستحضر تاريخها وكلام كاتب التاريخ له: "يا أيها الباكي وراء السور، أحمق أنت؟ أجننت؟" وتطلب منه، هو الـمنسي من متن كتاب القدس الآن، تطلب منه ألا يبكي، فهي تعلـمه
"أنه في القدس من في القدس، لكن
لا أرى في القدس إلا أنت".

وجاء السطر الأخير، على لسان النسمة، لينقض ما رآه الشاعر ابتداء، وما قاله له التاريخ: في القدس من في القدس إلا أنت.
طبعاً ثمة نزعة تفاؤلية ربما تعتمد الحس التاريخي ليس إلا. فالواقع الآن يقول لنا: في القدس من في القدس إلا نحن، ولكن تاريخ الـمدينة منذ 1400 سنة يقول لنا شيئاً آخر، يقول لنا: هناك من احتل الـمدينة ومكث فيها تسعين عاما، ويئس العرب والـمسلـمون من تحريرها، حتى جاء صلاح الدين وحررها وأعادها للعرب والـمسلـمين وغدوا متن الـمدينة وهامشها. ولعل قارئ أدبيات الحروب الصليبية يعرف أن ما يجري في القدس الآن ليس بالأمر الجديد، فقد تحولت الـمساجد إلى كنائس، وما يقوم به الإسرائيليون الآن من تهويد للـمدينة ليس بدعة جديدة. وما من شك في أن نهاية القصيدة ذات النزعة التفاؤلية لـم تأت من معطيات اللحظة الراهنة قدر ما جاءت من معطيات الفترات التاريخية التي شهدتها القدس ومرت بها.


2009-04-28
أ. د. عادل الأسطة

***

9- هل صارت القدس ناقة للأدباء أيضا؟

في قصيدته " سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا " من ديوانه " أحبك أو لا أحبك " يكتب محمود درويش عما تعنيه القدس للأنظمة العربية الآتي :
" وما القدس والمدن الضائعة
سوى ناقة تمتطيها البداوة
إلى السلطة الجائعة
وما القدس والمدن الضائعة
سوى منبر للخطابة
ومستودع للكآبة
وما القدس إلا زجاجة خمر وصندوق تبغ ..
... ولكنها وطني "
يبدو أن الحكام العرب نسوا القدس وألقوا مسؤوليتها على الشعراء والقصاصين والروائين والباحثين ومنظمي المؤتمرات ، وبدلا من تحريرها واقعيا يمكن تحريرها نظريا .
في العقود الثلاثة الأخيرة تضاعفت القصائد والقصص والروايات والدراسات والمؤتمرات عن القدس حتى طغت على المدن الفلسطينية الأخرى كلها ؛ المحتلة في الاحتلال الأول والمحتلة في الاحتلال الثاني.
رصد الدكتور محمد حور الدراسات المنجزة عن القدس وعرض لقسم منها وقد حفظ شيئا وغابت عنه أشياء وهذا هو ديدن الدراسات والدارسين غالبا .
صارت القصائد والدراسات والمقالات والمؤتمرات هي الحروف السمينة التي نطلع بها على الأعداء ، والتعبير لمحمود درويش أيضا ، ف " صاروا هباء وصاروا ردى " .
كم دراسة أنجزت عن قصيدة تميم البرغوثي " في القدس " التي مطلعها :
" وقفنا على دار الحبيب فردنا
عن الدار قانون الأعادي وسورها " .
كنت أتمنى لو أن الدكتور محمد حور توقف أمام الدراسات السابقة لهذه القصيدة وبين لنا اختلاف دراسة الدارس اللاحق عن دراسة الدارس السابق وأن يبين لنا بم اختلفت دراسته عنها ، ولكنه لم يفعل.
( من مراجعتي لكتاب الدكتور محمد حور " تجليات القدس في الشعر المعاصر " التي سألقيها في مؤتمر معهد القاسمي في باقة الغربية الشهر القادم ، علما بأن مقالي الأحد القادم لدفاتر الأيام الفلسطينية عن الكتاب ).
كم من شاعر أو قاص أو روائي أو باحث صار أيضا يفتعل الكتابة عن القدس افتعالا ؟!!
مساء الخير
خربشات عادل الاسطة

١٧ / ٢ / ٢٠٢٣ .

***

10- الكاتب والمكان: حول الكتابة عن القدس في الأدب

لم أقرأ كتاب (غاستون باشلار) الذي ترجمه غالب هلسا. قرأت الاقتباسات الكثيرة التي استقاها منه الدارسون وهم يخوضون في عنصر المكان، وقرأت ما كتبه عن الكتاب الناقد المغربي حسن نجمي في كتابه «شعرية الفضاء».
لم ترق ترجمة هلسا التي كانت عن لغة وسيطة هي الإنجليزية، لنجمي، ولغة الكتاب الأولى هي الفرنسية.
المكان الأليف والمكان المعادي والمكان المحايد والمكان المغلق والمكان المفتوح والمكان... والمكان... هي مصطلحات عديدة استخدمها الدارسون وهم يكتبون عن المكان في النص الأدبي. وقليلون منهم من ميز بين الفضاء والمكان اللذين ميز بينهما نجمي.
ربما أثرى (الن روب غرييه) في كتابه «نحو رواية جديدة» معلوماتي عن المكان والوصف في الرواية والفرق بين الأخير - أي الوصف - في الرواية الكلاسيكية التقليدية والوصف في الرواية الحديثة، بخاصة حين كتب عن الوصف الذي يجعل القارئ يرى تأثير الزمن على المكان والأشياء وعن الوصف الذي لا وظيفة له؛ الوصف الذي يكون لمجرد الوصف فقط.
وأنا أكتب عن القدس في الأدب الفلسطيني والعربي، وأيضاً في رواية (ثيودور هرتسل) «أرض قديمة - جديدة» توسعت في الكتابة عن علاقة الكاتب، وهو يكتب عن القدس، بالمدن الأخرى وتساءلت إن كان يكتب عنها كما رآها أو كما قرأ عنها في الكتب أو كما يتخيلها.
عندما قرأت قصيدة عز الدين المناصرة «القدس عاصمة السماء» كتبت عنها ولم أمدحها، فقد لاحظت أن الشاعر يفتعل الكتابة. لقد كتب عن القدس لأن الكتابة عنها منذ كتب تميم البرغوثي قصيدته التي ذاعت وانتشرت صارت موضة أو صارت جواز سفر للشهرة.
ثمة منهج يقرأ الجزء في ضوء علاقته بالكل، فلكي نعرف مكانة مدينة ما في نظر شاعر علينا أن ننظر في علاقته بالمدن الأخرى ومكانتها لديه. أهو المنهج الجشطالتي؟
لم تكن القدس المدينة الأولى لأي من الشعراء المذكورين، وحين كتب تميم كتب عن تجربة مر بها وقبله فعل الشيء نفسه محمود درويش.
ربما كانت القدس مدينة فوزي البكري الأولى والوحيدة وهي بالتأكيد مكانه الأليف كما لم تكن لغيره ممن زارها أو كتب عنها عن بعد، وحين كتب عنها لم يفتعل الكتابة ولم يكتب لأن المناسبة اقتضت ذلك. كان البكري يكتب حياته في القدس قبل أن تكثر الكتابة عنها وقبل أن تعقد المؤتمرات العربية والإسلامية لأجلها وقبل أن تعلن عاصمة للثقافة العربية، وظني أن أكثر القصائد التي كتبت عنها في بداية الألفية الثالثة كتبت عنها بدافع الخوف على ضياعها.
طبعاً ينبغي ألا ننسى أن بعض الأدباء والشعراء العرب ممن يقيمون في المنافي قد تربطهم علاقة روحية بالقدس فكتبوا عنها من هذا المنطلق، هنا أعني الأدباء والشعراء ذوي التوجه الديني، ومع ذلك فقد كان هؤلاء نادرين قبل ١٩٦٧.
وأنا أكتب عن حضور المدينة في الشعر الفلسطيني لاحظت أن شاعراً فلسطينياً هو المتوكل طه لم يكتب عنها قبل العام ٢٠٠٠ الكثير، ولكنه بعد هذا العام أفرط في الكتابة إفراطا لافتاً، علما بأنه كان يعمل فيها قبل العام ١٩٨٧ وتيسر له في حينه التجوال فيها بحرية، بخلاف الفترة التي تلت العام المشار إليه.
في العام ٢٠٠٩ مثلاً أصدر المتوكل كتاباً أنيق الإخراج عنوانه «نصوص إيلياء ويبوس»، وهو كتاب يجمع فيه نصوصاً نثرية وشعرية، ولكنه في حدود ما أعرف لم يتلقَ تلقي قصائد درويش وقصيدة تميم على مستويي الإصغاء إلى صوت الشاعر وكتابة دراسات نقدية حوله. لقد كتبت حول قصائد درويش وتميم دراسات عديدة. ومع ذلك لم يتوقف المتوكل في الكتابة عن القدس، إذ عاد وخصها بقصائد جديدة كلاسيكية البناء ومنها قصيدة «القدس اسم عاشقة» وقصيدة «القدس مطلع عيدنا»، ولكن عبثاً اشتهرتا اشتهار قصيدتي الشاعرين المذكورين وحظيتا بدراسات عديدة من دارسين مختلفين، علما بأن محمد حور قال عن المتوكل في كتابه «تجليات القدس في الشعر المعاصر» إنه كان في الأولى مختلفاً عن بقية الشعراء (صفحة ١١٨).
إن عدنا إلى كتاب عبدالله الخباص «القدس في الأدب العربي الحديث في فلسطين والأردن» (١٩٩٥) فسنقرأ إحصائية بأسماء عشرات الشعراء الذين ذكروا القدس في قصائدهم، وقد أضفت إليهم شعراء آخرين كتبوا بعد انتهاء الخباص من دراسته، وأضاف إلى الدراستين محمد حور في كتابه أسماء جديدة ذكرت القدس في قصائد كتبتها بعد ١٩٩٨.
صارت الكتابة عن القدس مفرطة لدرجة لا نلوم فيها من يكرر أسطر محمود درويش في العام ١٩٧٣:
«يا أيها الشعراء لا تتكاثروا
ليست جراحي منبراً».
لعلني مخطئ!!

عادل الأسطة
2023-02-26

***
===========

1- قالت لنا القدس
2- في القدس....مشيت الخطا ذاتها
3- حنين إلى القدس
4- القدس أم الطريق إلى القدس؟
5- في القدس:
6- القدس - هرتسيليا - يافا
7 - كتابة قصائد القدس
8- قراءة في قصيدة تميم البرغوثي "في القدس"
9- هل صارت القدس ناقة للأدباء أيضا؟
10- الكاتب والمكان: حول الكتابة عن القدس في الأدب
.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى