د. طارق الزيات - أحذية بالية

لم يُلق أبداً حذاءً قديما، جداله الدائم مع زوجته حول كوم الأحذية التي تلِفت و تنقرت نعالها و تآكل جلدها، كانت الغرفة الصغيرة التي يسكناها لا تتسع إلا لسرير و دولاب متهالك و طاولة عليها بوتاجاز مسطح و بعض الآنية معلقة بمسامير فوقها .
احتل هو أسفل الطاولة بأحذيته، كنزه الثمين كما يقول و زوجته تخبط على صدرها كل مرة و تتهمه بالجنون ، لم يكن يلتفت إليها، و لا إلى تعليقاتها اللاذعة، كان احتفاظه بأحذيته القديمة هو الموقف الوحيد الذي تبناه في حياته، أكل افقر عظامه، و أهلك جسده الضعيف التجول في أنحاء المدينة المتوحشة بعربته الخشبية و هو ينادي بيكيا، يجمع القليل و يعود كل ليلة ليرتمي على ملاءة في أرضية الغرفة و يترك السرير لزوجته و ابنتاه و ينظر إلى سقف الغرفة المقشر من كل ناحية ، لقد حفظ كل سنتيمتر في هذا السقف، عرف أين تكون الشروخ و لكنه غير قادر على إصلاحها، لقد كان سقف الغرفة صديقاً جيدا.
خرجت البنات إلى منازل الأزواج، أزواج فقراء كما كان حاله، يعانون كما عانت الأم ، و لكن هل سيرحمهم الأزواج كما فعل مع زوجته و تركها تظن أنها تقود العالم بقمعه و إخضاعه، لقد فكر كثيراً أن يواجهها و لكن ماذا لو بكت المسكينة أو غٌلبت على أمرها و قد خدشت الدنيا قلبها و روحها بقسوتها، فقط أراد أن يحتفظ بالأحذية ، أربعة أحذية ارتداهم منذ زواجه بها قبل ثلاثون عاما، لقد قضوا معه أوقاتاً أكثر من تلك التي قضاها مع عائلته، لقد تفحصهم مراراً و تكراراً حتى يعالج أي قطع فيهم ، لقد ركب لهم أنصاف النعال مرات مرات حتى لم تعد تفلح معهم، نعم هذا هو ما خرج به من هذه الدنيا .. أربعة أحذية بالية، و صوت أمرأته المجلجل كل يوم تتهمه بالجنون، و لولا هذه الأحذية لمات الحديث بينهم.

دكتور طارق الزيات


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى