أمين الزاوي - كتابة المحرمات.. حين لا يفرق القارئ بين شخصية الكاتب وشخوصه الروائية

فلسفياً، يجب ألا تقف أمام الكتابة أية حواجز، الكتابة توأم الحرية وهي أيضاً مجال للخيال وتوسيع أقاليم التحرر، لكن يجب أن تكون هذه الحرية مؤسسة على معرفة وقراءة وذكاء.
في كل الحضارات والثقافات وبكل لغات العالم، كان المبدع الحر الصادق في بحث دائم عن كسر القيود ورفع الغطاء عن الممنوع في معركة متواصلة ودائمة من أجل الكشف عن رغبات الفرد المخفية والمقموعة في مجتمعات تبدي وجهاً وتخفي وجهاً آخر، كل ذلك من خلال عملية إبداعية معقدة مجتهدة يسكنها التحدي ضد السلطات التي تمارس القمع الديني أو السياسي أو الاجتماعي.
من أبو عبدالله محمد بن محمد النفزاوي وجلال الدين السيوطي وأبو نواس وأبو حكيمة وأحمد بن يوسف التيفاشي وأبو عبدالله التيجاني (أحد أئمة المالكية) والإمام الغزالي وأبو الفرج الأصفهاني مروراً بالماركي دي ساد (صاحب كتاب الفلسفة في المخدع) وهنري ميلر وداني لافيريير وفيليب سولير وجورج باطاي وفلاديمير نابوكوف (صاحب رواية لوليتا) وجان جينيه ويوكيو ميشيما وأسماء كثيرة أخرى في أركان الأرض الأربعة، سجلت مرورها بتاريخ الآداب العالمية السردية أو الشعرية على لوح الخلود السردي أو الشعري، وكانت في كل نصوصها الخالدة مسكونة بالكشف وبالتعاطي الحر مع واقع الجسد من دون خوف ولا قناع.
ظلت كتب هذه الأسماء تقرأ جيلاً بعد جيل وذهب أعداؤهم وسجانوهم وقامعوهم إلى سلة المهملات، نسي الناس السلطة القامعة واحتفظوا بالنصوص المقموعة للقراءة ولتكون شهادة على تاريخ التهميش والمنع والتكميم.
حين نتأمل هذا التاريخ من الجرأة في الكتابة الأدبية الإنسانية وما قابله من معاناة وقمع ومنع وتهجير وتجويع وتكفير وتخوين، ندرك كم هو الأدب طريق سالك على رغم الصعوبات إلى الحرية والتحرر الفردي والجماعي.
تعلمنا هذه النصوص الكبيرة الخالدة التي ضربت عبر التاريخ الأدبي بالمنع والرقابة والسحل بأنه كلما وجد مجتمع ما يكثر فيه مثقفو السلطة القامعة و"أشباه الفهماء فيه" من الأحاديث المسترسلة وخطابات الفصاحة الشعبوية المنفوخة عن "الأخلاق"، الأخلاق كما يفهمونها، فاعلم بأنه مجتمع فقير من هذه الأخلاق.
كلما كثر الصراخ والنباح ضد كاتب يكتب خارج السرب من قبل مثقفي البلاط وسرايا الدفاع عن الأنظمة، ضد كاتب يعرّي المدفون حياً، فاعلم بأن هذا المجتمع يعاني خوف رؤية نفسه في المرآة الصافية الحقيقية.
تحتل الأخلاق مكانة قبل الديانات جميعها، الديانات تتصارع وتقوم لأجلها وباسمها الحروب، لكن الأخلاق السامية يجتمع عليها الجميع، الأخلاق هي روح الخير الطبيعية التي تسكن السلوك البشري الفردي والجماعي وهي إلى حد كبير تشبه العقد الاجتماعي غير المكتوب بين البشر بغض النظر عن دياناتهم ولغاتهم وثقافاتهم، عقد اجتماعي بين البشر أنفسهم وأيضاً بين البشر والطبيعة وبين البشر والحيوان.
حين نتأمل تضاريس محنة الكتّاب والكتابة في هذا العالم الذي نعيش فيه، نتذكر مقولة كثيراً ما تتردد في المجتمعات المغاربية والعربية تحيل على نفاق وتعارض السلوك مع القول في أوساط المثقفين الذين يكثرون من الإنشاءات الشفوية أو الكتابية عن الأخلاق ويهاجمون النصوص التي تكشف المستور بجرأة، هذه المقولة هي، "اسمع لأقوال الإمام ولا تقم بمثل سلوكه"، مما يعني في الوعي الجمعي بأن "الفقيه"، السلطة المعرفية والدينية والثقافية، يقول أشياء نظرية ربما تكون مهمة، لكنه لا يطبق ذلك على مستوى السلوك.
تعلمنا الكتابة المقموعة التي تتناول العلاقات الإنسانية في أدق تفاصيلها القيمية والجسدية بأننا كلما وجدنا مجتمعاً مهووساً بمسألة "إخفاء جسد المرأة" كمجتمعاتنا المغاربية والعربية والإسلامية، مبرراً ذلك بالنبش في مقبرة مقولات دينية عفا عليها الزمن، فاعلم بأنه مجتمع مهووس جنسياً، مقموع جسدياً على المستويين الفردي والجماعي.
قراءة هذا الأدب العالمي المغضوب عليه بذكاء، تعلمنا الدرس التالي، كلما ساد الخوف الهوسي على جسد المرأة في مجتمع ما، فاعلم بأن هذا المجتمع يختصر وجود المرأة الإنساني في شيء واحد ومركزي هو "الجسد"، الجسد وفقط، وهو لا يراه إلا عبارة عن بضاعة للاستهلاك السريري أو مصنعاً لإنتاج الأطفال الذين يرثون السلطة الأبوية.
كلما تأملنا سلسلة سلالات النصوص الأدبية الكبيرة الممنوعة في تاريخ الثقافات الإنسانية جميعها، نخرج بالنتيجة الفكرية التالية، كل تعامل مع جسد المرأة هو عمل سياسي بامتياز.
وفي كل هجوم على الكتابات الأدبية الجريئة التي تقرأ نيران الجسد وحضارته ورغباته التي هي أنفاسه، يتكئ حراس "الهوس الجنسي التبضيعي" لجسد المرأة على جملة من الخطابات الدينية والسياسية والطبقية والعولمية المتوحشة، قد تختلف هذه الخطابات في مفردات شعاراتها المرفوعة لكن غايتها واحدة هي الإبقاء على تسليع جسد المرأة، وفي الوقت نفسه هي التعبير الفاضح عن جوع جنسي مرضي معمم ومكتوم.
في العالم العربي والإسلامي حيث تسود ثقافة الهوس بجسد المرأة، هناك خلط ما بين القراءة الجمالية الفلسفية للنص للأدبي والرؤية الدينية التربوية؟
النص الأدبي المقموع لا يكشف عن أبعاده الأخلاقية من خلال المقاربة الدينية ولكننا نكتشفها من خلال المقاربة الجمالية والفلسفية والأنثروبولوجية العميقة.
علَّمنا التاريخ البشري أن المجتمعات المكبوتة تريد أن تعيش الجنس بجشع بضائعي لكن في الخفاء، تريد أن تستمتع بشهوات مشاهد أفلام "بورنو" الفظيعة القبيحة تحت حلكة الليل، لكنها تلعنها عند الصباح وتندد بها وتطالب بحظرها وتحريمها ومحاسبة ومعاقبة من يفكك هذه الظاهرة أو يتحدث عنها.
تعلمنا الكتابات الروائية والشعرية العالمية الحاملة لأبعاد فلسفية في باب تفكيك "الجسد" بأن "الجنس" لا يفهم ولا يحلل ولا يفكر فيه في "باب الأخلاق"، إنه مطلب وحاجة بيولوجية طبيعية.
الجسد مكسب والأخلاق مكتسبة.
ما أحاط بالجنس من ثقافات تسعى إلى تمليك جسد المرأة من جهة والخوف من الإرث واختلاط الدم الذي ساحته الجسد الأنثوي جعلا ثقافة وأيديولوجية الذكورة تعمل على الجز بمفهوم الجنس نحو منطقة الأخلاق.
وتبدأ عملية تصنيف الجنس في مربع السرديات الأخلاقية من خلال ضرب حصار مشدد مشكّل من سلسلة من الممنوعات والمسموحات المملاة على الأدب الذي يتناول هذه الحاجة الطبيعية الإنسانية والحيوانية.
للجسد ثقافة عريقة مكتوبة في تفاصيله المرئية الناطقة بوضوح وعلى الكاتب أن يكتشف ثراء حضارة الجسد الجمالية والتاريخية والرغباتية من دون خوف أو تردد.
تاريخ الجسد مرآة لتاريخ البشرية.
الكتابة عن الجنس، الكتابة الفاهمة والعالمة والصادقة لغوياً وأسلوبياً وشعورياً واجتماعياً ونفسياً، تثير الخوف لدى "حراس الأخلاق المهووسين" ويتشكل هذا الهلع العام من الحديث الإبداعي أو الثقافي أو الفلسفي عن "الجنس" في مجتمعاتنا المغاربية والعربية والإسلامية لأن التربية الجنسية في هذه المجتمعات غائبة في المدارس وفي الأسرة، وكل من يتحدث في هذا الموضوع يعتبر من "المفسدين في الأخلاق".
في المجتمعات التي تسودها الأخلاق العالية والثقافة وتتمتع بالتعليم لا يثير طرح إشكالية الجنس في النصوص الأدبية أو الفنية أي خوف أو توجس، ولا يعتبر القارئ ذلك من باب "سوء الأخلاق"، بل يصبح الأمر علاقة طبيعية وثقافية بين الناس، وسلوكاً جمالياً وحضارياً متوازناً مع الحاجات الأخرى.
في المجتمعات المتحضرة التي تكون فيها المرأة مالكة لجسدها ملكية مطلقة لا يثير الجنس قلقاً ولا يثير الزوابع كما هو عندنا.
في المجتمعات التي تنتشر فيها الثقافة الفنية والأدبية والمسرحية والفلسفية لا يمثل الجنس هوساً لدى العامة.
تخويف المجتمعات بوحش الجنس الذي تكتبه الأعمال الأدبية أو تصوره الأعمال الفنية العالية هو في الحقيقة بحث عن تكريس عبودية جسد المرأة وملكيته لغيرها.
الخوف من الجنس لا يكون إلا في المجتمعات التي تخاف من المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، المساواة في المواطنة، أي في الحقوق والواجبات، لا المساواة في الأجساد، بل العكس الاختلافات في الأجساد، الذكر والأنثى، هي من توازنات الطبيعة البشرية والحيوانية ومن جمالياتها.
والخطير في الأمر، ففي مجتمعاتنا المغاربية والعربية والإسلامية، ولمحاصرة وتهميش وتخويف الكاتب الذي يتجرأ على طرح موضوع "الجنس" في كتاباته يتم الربط مباشرة ما بين شخص الكاتب وشخوص العمل الروائي، بمثل هذا التلقي الفاسد يجد الكاتب نفسه متهماً في أدبه وفي سلوكه على حد سواء، فمنظومة الاستقبال، أي القراءة، لا تفرق بين العمل الأدبي كتخيل لواقع معين من جهة وسلوك صاحبه من جهة أخرى.


أمين الزاوي

Amin Zaoui : Écrire les tabous : quand le lecteur ne fait pas la différence entre la personnalité de l'écrivain et ses personnages romanesques
المقال الأسبوعي بأندبندت اللندنية، الخميس 8 مايو 2023
Le lien: https://www.independentarabia.com/.../كتا...)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى