أمل الكردفاني - بين الهروب والقرار

إنني أستطيع المشي لمسافات طويلة ليس لأنني رياضي، فكرشي مترهل، وعضلاتي واهنة، ولكنني أستطيع أن أمشي لمسافات طويلة لأنني أنشغل بالتفكير، ذلك التفكير الفوضوي، الذي يبدأ من ذبابة وينتهي بالنجوم. التفكير الذي يختلط فيه حب الحياة بالقنوط منها. وكلما اتسع الطريق أمامي كلما اتسع الفكر والخيال. وكلما كان الطريق مسفلتاً وخالياً، كلما زاد تبعثر الأفكار وانشطارها وتفككها ونشوتها، وكلما كان الوقت مساءً والطريق مظلماً كلما غاص عقلي في الفنتازيا. يبدو المشي أكثر أماناً من البقاء، يبدو الهروب تحرراً أكثر منه هروباً. وأتذكر أجدادي الذين هجروا القارات البعيدة وانتقلوا إلى قلب أفريقيا. ربما كانوا يحلمون مثلي كلما استغرقوا في الهروب الماشي. ولا تتبدد آمالهم وآمالي إلا حين أقر في مكان واحد. في المكان الذي فيه أشياء تدفعك دوما للقرار، كالعمل والمرتب، والثلاجة والبتوجاز والحمام والتكييف وغير ذلك من أثاث يربطك بفكرة الأمن الدائم. الفكرة الوهمية للأمن الدائم.
لكن الهروب له روعته، الهروب الذي يحتاج بدوره إلى تأمينات وضمانات لكي لا نسقط في فخ المجهول والضياع المؤلم. إذ أن الأحلام المجردة لا نعوَّل عليها نحن البشر حينما نشرع في الفعل.. في البداية.. في الإنجاز.. ولذلك فإننا إما أن نتحول ولكن ببطء، أو لا نتحول أبداً.. لذلك تبقى منازل الأجداد شاغرة بالأحفاد، بنفس حيطانها المهترئة، ونفس بيبانها ونوافذها القديمة، ونفس هوائها الذي هدهد البكاء والضحك فيها منذ عقود بعيدة.
إن هذا البقاء يمتص العمر، رغم قصر أعمارنا. أما الهروب فهو يطيل في أعمارنا، لأنه يجدد روحنا، يجدد الهواء الذي نتنفسه، يجعل ارتباطاتنا النفسية مع الأشياء واهنة، وبالتالي نتخلص من قيد الهوية. ويبدو العالم أكثر اتساعاً، وأكثر مقبولية بالنسبة لنا كلما زادت الاختلافات والتباينات. إن الهروب تحرر نسبي، لأننا نفلت من مؤسسات لنختبر سقوطاً آخر في مؤسسات جديدة. وتظل كلمات دولوز حول السينما الأمريكية التي تنزع إلى الهروب المستمر والسينما الفرنسية التي تنحو إلى العودة المستمرة تدق في أذني دائماً. تظل كلمات دولوز تسحرني بكل ما فيها من وضوح ورهبانية في الطريقين المتباينين. الهروب كرهبانية في نفي الذات، والعودة كرهبانية في تأكيد الهوية والإلتصاق. وإن حديث دولوز أشجاني لأنني تذكرت أفلام الهروب بقطارات البخار. الأفلام التي لا أتذكر منها سوى هرولة البطل الشاب ليلحق بقطار الشحن ويقفز متسللاً إلى إحدى المقطورات ليبقى بين الجوالات والبضائع وأحياناً الفحم. وهكذا أدرك بأن ما قاله دولوز قد لمس قلبي لأنه عبر عن حكمة الطفولة عندي. والمسارات التي ضاعت بحكمة الكبر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى