محمد بشكار - ريع ومثقفٌ للبيْع!

انتهى المُثقَّف الذي كان مُبْتدأ الأفكار، يُوقِظ في الأنفس الهِمَم، وفي الأعْيُن يُوقِد الغَضَب لِتنْدلع بالشَّرار، أصْبح المُثقَّف اليوم بين ليلى وضحى، ناعِماً يخْضَع لتصاريف خبر كان على إيقاع أغنية احْكِ يا شهرزاد، وما لنا نُكابرُ ولا نعْترِف وكل الوقائع التي حولنا تؤكد أنَّ وجود المُثقف كعَدمِه في المُجتمع، لم يعُد يتمتَّع بالكلمة المَسْمُوعة التي تتجاوز الأذن إلى القلب لتقُضَّ في سلطة المال والسياسة المضاجع، ربّما لأنَّه تخلَّى عن دوره الرِّيادي في التَّنْوير وقول الحقيقة ولَوْ انتهى إلى مصير اللِّسان المَقْطُوع، رُبّما لأنّه انْقلب ليكون ضِدَّ الجميع مع نفسه يُدلِّعُها باهْتِبال الفُرَص المادية، ومن أيْن للأفكار أن تُحافِظ على صلابتها وهي تتلقّى جرعات إغرائية قوية تجعل حتى الحجر رخواً، حقّاً إنَّ المُثقّف مسكين لا حَوْل لِجُيوبه النَّافرة، ولا قوّة لِشهْوة جَشعِه التي جعلتْهُ كالدُّب مُتَذبْذباً بِمواقف حائرة !
أفْظَع الظَّواهر وأقْبحها مما يتجسّد في بعض المحْسوبين تَسلُّلا على عشيرة مثقفين من معْدنٍ أصيل، هو التَّمرْكُز المَرَضي على الذَّات واعتبارها قُطْبَ الكون، وكل مَنْ بَعْدي مُجرَّد هامشٍ أو زَبدٍ كالذي يَعْقُب انْحِسار الطُّوفان، لم يَعُدْ المُثقّف مُثقَّفاً إلا بما يعرفه عن نفْسِه دون الآخرين، يكتب لذاته ويقرأ لها حتى لا أقول عليها .. ولو أنَّ هذه النَّفْس المُهَلْهَلة في حاجة لأن تسْمع ما تيسَّر ما دامت في عداد الموتى، ألمْ ترَ كيف اسْتَبدَّ بهذا المثقف الذي على بالِنا جميعاً الوهم، بل يحْسَبُ بِغُرورٍ كاذبٍ أنَّه تجاوز مرْحلة التَّعلُّم، وهو لا يعدو أن يكون بضاعةً قابلة للبيع ولكن بالطُّرق غيْر المَشْروعة للرّيع، أين ذلك الزّمن الذي لم نكُن نلْتفت فيه لأنفسنا ونسْتصْغِرُها مُطْرِقين نُنْصِتُ لِمنْ سَبقونا في العُمر أوْ على الورق بسَطْر، كُنّا حين نسمع أنّ شاعراً أو مفكراً أو روائياً مِمّن نُحب اسمه قارئين، قد أصدر جديداً، نَذْرع المكتبة جيئة وذهاب تَحسُّراً على يدٍ قصيرة في جيْب فارغ، ونَتمنّى لو تمْلك الطُّول الكافي لتخْترق الزجاج إلى الكتاب في الرُّفوف !
وما جدوى مُثقَّف غزير الإنتاج، يُصْدِر في كل شَهْر كتاباً، كأنَّه كسّابٌ يُراكم في حظيرة المكتبات النِّعاج، ما جدْواه ولا أجدُ مَقولةً تنفلتُ مُشرقة من بين الأسطر التي دبَّجها أميالاً طيلة العمر، تتناقلُها الألْسُن متباهية بعبقرية الفكرة وبلاغة الصورة وإيقاع جَرْسها الجميل، تماماً كما كنّا وما زلنا نحفظ عن ظهْر حُبٍّ بعض أقوال وأشْعار القدامى، لقد فقد المُثقَّف اليوم الصِّدْق في التعبير، يكتب شيئاً لا يعْنيه ولا يعْني أحداً مُستعْجلا تَسْويد صفحة أخيرة في كِتاب قادم، أصبح يكْتُب الكلمة فارغة من كل إحْسَاس على جهاز الكومبيوتر كأنّه يُلْقي بِفَضْلة في سلَّة المُهْمَلات، أووووف... يجب أن أنتهي من هذه الرواية أو هذا الديوان قبل الإعلان عن انطلاق الجائزة !
أصبح لدينا المُثقَّف المُمثِّل الميدياتيكي الذي يخْضَع لحصّة تجميل في الكواليس بالبُودْرة، قبل أن يخرج على المُشاهدين بإحْدى الشَّاشات التلفزيونية أو مواقع التواصل الاجتماعي، لِيُزيِّن القُبْح ويبيع الوهم بأبْخس الكلمات المَهْزوزة، كيْف لا وقَدْ اختار الجيب أقْصَر الطُّرُق ليُدافع عن أخْطاء أوْلِياء نِعْمته المُتدفِّقين بمنابع المال العام، وما أكْثَر نماذج هذا المُثقّف المَدْسُوسة بيننا لا تسْتحِقُّ الإحتذاء بَلِ الضَّرْب على الوجْه بالحِذاء، وما ذلك إلا لأنّها تخْدم في الخفاء أجندات سياسية مَسْمُومة، تُراوح بين طَمْس الهُويّة بِتكْريس الفرانكفونية البائدة والتَّطْبيع مع الكِيان الصّهْيوني، وتُسيِّد مِنْ أجْل مَصْلحة شَخْصِية ضيِّقة، التفاهة التي تُشوِّش على الأعْمال الأدبية الجادّة والأساسيّة، لتقْترف بهذا التَّزْييف المَكْشُوف في حقِّ الأنْقياء أكْبَر مذبحة !
لم يَعُد المُثقَّف يكتب للنَّاس أو حتّى لنفسه التي يجهل ماذا تريد، وحين يُواجَهُ ببعْض الأسئلة الحارقة بعيداً عن الصُّور الَّتي تُخادِعُهُ بالسَّراب، تجدهُ تارةً يُفخِّخ الكلمات، وأخرى يُفخِّمُها ليُعْطي الانْطِباع أنَّهُ عبْقريٌّ ويفُوق الإدْراك البشري، وأنه مَهْمُوم وغير مفهوم ومكانهُ في التّاريخ بين العِظَام سُبحان من يُحْييها وهي رميم، يا أخي قُلْ شيئاً يعْنِي النَّاس اليوم لِيتذكَّروكَ غدا، أمّا التاريخ فهو خلْفنا يُلقَّنُ في المدارس والجامعات لِتسْتخْلِص الأجيال مِنهُ العِبر !
أكْتُبُ هذه الكلمة على مسؤوليتي دون أن أخْتلط بالألوان، أوَ لَمْ تَروْ كيف أفْسَدوا جَمَاليّة قوْس قزح بعْد أنْ اتَّهمُوه بالشُّذُوذ، ولَستُ مَعْنياً بالغُبار الذي تَسْتثيره الحوافر لتضْليل العُيون عنِ الوِجْهة الصَّحيحة، ولكن بَقِي القوْل إنَّه من السَّهل تأجير سمْسارٍ يُغطِّي على قلمٍ وساقٍ كُلّ الدُّروب، ولكن الأصْعب في زمن الأنْصاف والأدْعياء، أن نجد المنْزل المنْشُود الذي لا يَسَع إلّا المُثقَّفين الشُّرفاء !

..................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم 15 يونيو 2023



محمد بشكار.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى