مارا أحمد - البيانولا..

اتخذت مقعدي بجوار باقي الأطفال، ولكني لم أحس بأي منهم، وضعت تلك الستارة السوداء، وكأني أضع حزام الأمان؛ لأحلق بطائرة خيالي إلى عالم أنشده؛ إلى الجنة المحرمة. نظرت في تلك العدسة، متمنية أن اجتاز زجاجها بجسدي قبل عيني؛ لأكون مع أبطال تلك الحكايات. ترى هل من الممكن أن تشفطني معها وتقذف بي إلى تلك العوالم في رحلة مدتها دقائق بعمر مرور الصور وسنوات بعمر متعتي؛ فألملم كل تلك القصص التي عشتها ودُست أرضها، أبتلعها كما كبسولات العلاج وأزفرها كلمات على السطر...؟!

كنت أعيش المشهد، بطلة إحدى القصص أو مشاركة البطولة في قصة أخرى، أو أحد المجاميع في قصص أخرى، حياتي كما سينما البيانولا؛ لقطات سريعة مع أفراد يظهرون فجأة، ويعلنون رحيلهم أيضا فجأة، لتتراكم تلك الصور في الذاكرة وأستدعيها في لحظات حنين ولحظات رفض لغيابهم، فحين يتوارون خلف الغيب يأخذون معهم جزءا من تاريخي وعمري، ويدفعون بي إلى الرحيل أيضا.

يدير رجل البيانولا العدسات، وتدور معها صور مازالت محتفظة بألوانها، ولكن صور أبطال قصتي باهتة.

أحيانا يتصدر المشهد أنف أحدهم، وأحيانا صوت آخر، وأحيانا شامة في وجه الحاضر. وكأن هناك من يعبث بعدسة السينما بداخلي. وهناك لحظات تتصدر المشهد في تكرارية غير مفهومة؛ حيث تم انتخاب تلك اللحظات، إما للتوبيخ أو للتحذير أو للعظة، أو ربما لأنها كانت لحظات استضافتني فيها السعادة.

لقد تم توثيق كل الأفعال وكل الاختيارات صوتا وصورة ورائحة؛ هناك من يسجلها كخير شاهد، والصور هنا رباعية الأبعاد وكثيرا ما تكون متعددة الأبعاد.

إنهم لا يغيبون إلا بأجسادهم، حاضرون في خلود، وبصماتهم مازالت منحوتة في اختياراتنا أو في إرثنا من وعي ومن قانون العيب أو من صفعة صدرت عن كف أحدهم غدرا؛ لتعلمنا درسا فحواه: " كن حريصا بلا تخوين مع من يدعون حبهم لك، ولا تأمن للقدر؛ فنحن نسكن كرة في حالة دوران دائم"، بل المجرة ذاتها في حالة دوران، وساعة الحائط في حالة تحرك دائب، ويتنقل بداخلها عقرب لا يكف عن النقر واللدغ؛ في محاولة منه لأن ينبهنا بأن نظل في حالة وعي دائم، بعقل حاضر وقلب خافق في ذكاء.

إنها ذاكرة بقوة الصلب وسماكة الكون لا تنتسب لذاكرة السمك، وذاكرتي تعاني التكدس والعمل الدؤوب؛ لا تنفك تقلب بين الصور والأصوات والمناسبات، وأنا أهرب تارة وأستسلم تارة، إلى أن يكف الدم عن الدوران وتتوقف النبضات عن التسارع؛ وتثبت الصور على الصفحات؛ والجمل فوق السطور؛ في شكل قصص أرويها بأنامل كفي بلا صوت بل منحوتات قائمة كما تماثيل المشاهير في الميادين الهامة، ربما يشهدها المهتمون ويعيرونها انتباههم.

بيانولتي كما سفينة نوح تحمل داخلها من كل ذي روح زوجين، ومن كل ذي عقل أفرادا، ومن كل النباتات ألوانها الخاطفة للعقول، غير أني لست نوحا.

يعاودني دوما سؤال: لم أبطال حكايات البيانولا شخصيات إما جميلة جدا أو قبيحة جدا أو شريرة جدا أو طيبة جدا؟! لا وسطية في شخصية أبطال الروايات أو أفلام السينما أو التاريخ.

إن البطل يستمد بطولته حينما يحدث تغييرا، سواء أكان تغييرا للأفضل أو للأسوأ، لذا كانوا مخلدين في التاريخ والذاكرة.

البيانولا غنية بمثل هذه الشخصيات لتمر السنون وتندثر البيانولا ولكنها ظلت في وعيينا قائمة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى