أحمد كفافى - فوة... مدينة المساجد... من منكم يعرفها؟؟

رحلة قصيرة لمدينة فوة الصغيرة التى تقع على فرع رشيد تتركك بإنطباع واحد: هناك العشرات من الأماكن التاريخية فى مصر التى مازلنا لا نعرف عنها أى شىء. بالقطع فوة واحدة من تلك الأماكن التى بإعتراف عدد كبير من المصريين أنهم لم يسمعوا بها على الإطلاق! ربما فقط أهالى محافظة كفر الشيخ التى تتبعها المدينة إداريا وسكان مدينة رشيد وربما غيرها من القرى القريبة. لكنك قد تتعجب لو سألت عنها المصرى العادى الذى يعتقد أنها تتواجد فى بلد غير مصر.
أما عن واقعها فيبشر بمستقبل زاهر لو تم الأهتمام به إهتماما حقيقيا، فمدينة فوة الأثرية ــ وهى المدينة القديمةـــ لا تتعدى أن تكون بقعة صغيرة داخل مركز فوة الرئيسى الذى لا تتعدى مساحته 106 كيلومتر مربع، لكن من العجيب أنها تحتضن أكثر من 366 أثرا إسلاميا ما بين مساجد وبيوت عربية وتكايا وأضرحة وزوايا للصلاة ومصانع قديمة يرجع تاريخها إلى القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر.
تشتهر فوة بأنها مدينة المساجد حيث هناك خطة تبنتها منظمة اليونسكو لتضع المدينة كثالث أهم مركز للآثار الإسلامية فى مصر بعد القاهرة ورشيد، كما أنها رابع أهم مركز للآثار الإسلامية فى العالم!! تم مؤخرا الانتهاء من المرحلة الأولى لترميم آثار فوة بتكلفة ستة ملايين جنيها. كان ذلك أثناء زيارتى لها لأول مرة منذ عدة سنوات حيث كنت قد سمعت بها مرارا أثناء زياراتى المتعددة لمدينة رشيد، ولكنى لم أعلم أنها بهذا القدر من الزخم التاريخى والأثرى والإجتماعى إلا عندما قمت بزيارتها بنفسى.
أتفقت مع عربة أجرة بيضاء صاحبها رجل مسن من أهالى فوة على يأخذنى فى جولة حول آثار المدينة. كنت أظن أن الرحلة لن تستغرق سوى ساعة أوساعة ونصف على الأكثر، فإذا بها تمتد لأكثر من ثلاث ساعات لكن على طولها لم تف بتغطية كل المزارات، كان هناك بقية لم تسعفنى طاقتى على أن أكملها! وددت لو عدت مرة ثانية لأزور المدينة شبرا شبرا، فكل باب منزل أو ساحته تحفة فنية تستوقفك وتدعوك للتأمل.
تقع فوة على بعد 98 كيلو متر شرق الإسكندرية وهناك طريقان للوصول إليها:الأول من خلال عربات الميكروباص من موقف فوة بمحطة اتوبيسات الإسكندرية. أما الثانى فمن رشيد حيث تعبر النيل إلى البر الثانى و تستقل عربة أجرة إلى المدينة. والحق أن أول ما يلفت انتباهك إلى المدينة هو بشاشة وكرم أهلها وتقديرهم العميق لبلدتهم، فلديهم إعتقاد راسخ أن وجود تلك المساجد والأضرحة التى بنيت فوق رفات عدد كبير من المتصوفة كان له الفضل فى حماية المدينة من غزوات الصلبين ومن شرور نابليون بونابرت.
من مساجد فوة أذكر مسجد القرآنية، القنائى، أبا عيسى، الشيخ شعبان، سيدى موسى، النميرى، أبا النجا، أبا المكارم، ضائى الدار وغيره. من أشهر المنازل الأثرية منزل البوابين، القماح والدوبى. هذا ما تسجله مصلحة الآثار رسميا، لكن كلما توغلت فى أزقة المدينة وحواريها شاهدت مساجد ضخمة تقبع داخل ممرات ضيقة وأخرى بلا قباب وأضرحة مجهولة الأصحاب وزوايا للصلاة تم أنشاؤها من قبل عابرى السبيل!
زرت فوة فى أواخرعام 2012 بعد عامين تقريبا من إندلاع ثورة ينايروعجبت من قدر التفاؤل والسعادة اللتين إرتسمتا على الوجوه، فهم رغم المحن التى كانت تمر بها البلاد كانوا على أمل أن الأزمة فى طريقها إلى الإنفراج طالما هم محوطون بأولياء الله الصالحين.
عدد كبير منهم من حملة الشهادات الجامعية ـــ وسواء هم أو غيرهم من المزارعين والبسطاء ـــ يتحدثون عن مملكة (بوى) وهواسم فوة فى سجلات المصريين القدماء وحديثهم هذا ليس منقطعا عن الواقع، فعند كورنيش النيل فى المدينة يمكنك رؤية (جزيرة الدهب) التى يقول الأهالى إنها ترقد على كم هائل من الآثار الفرعوينة يعود لزمن مملكة (بوى) ــ (بوى) كما يقول البعض واحد من أبناء النبى يعقوب عليه السلام.
لكن ما هو السر الذى جعل فوة مستقرا لهذا العدد الكبير من المتصوفة عبر العصور؟ يقول علماء الآثار أنها كانت تقع فى مفترق الطرق التجارية وكانت محطة تجارية هامة...ما جذب إليها المتعبدين والنُسك والمتصوفة لأن أغلبهم كان يفضل العمل بالتجارة الحرةعلى الوظائف بالوكالات وعند أصحاب الأعمال لأن التجارة الحرة لم تكن مشروطة بساعات عمل فكان يمكنهم التعبد فى أى وقت يشاؤون.
بالرغم من أن الحملات الصليبية على مصر تركزت فى شرق الدلتا،إلا أن الغزاة حاولوا الإقتراب من الغرب عن طريق رشيد فداهموا فوة وعاثوا فيها فسادا وتخريبا. أما نابليون ورجاله فقد ضربوا فى فوة بينما هم يحاولون الإنسحاب إلى الإسكندرية عام 1799.
تغير الإقتصاد الزراعى فى فوة فقفز قفزة سريعة بعد حفر المماليك لم عُرف بــ ( خليج الإسكندرية) وهى قناة حملت مياه النيل إلى عروس البحر الأبيض، وتم أحياؤها لاحقا فعرفت بترعة المحمودية. حول خليج الإسكندرية مدينة فوة إلى مركز تجارى هام فأصبحت محطة مهمة للعديد من القوافل الآتية من إفريقيا السوداء، فبوقوعها على مفترق طرق سهلت فوة الرحلات التجارية بين القاهرة و الإسكندرية لقرون عديدة. فميناء فوة الممتد من مسجد أبى النجا إلى مسجد القنائى كان يسترشد بالأضواء التى علقت على منارات المسجدين والأسهم التى علقت على أهلتهما لتيبن إتجاه الريح.
تحولت طرق التجارة من فوة إلى رشيد بعد أن نال الإهمال من خليج الإسكندرية وظلت على هذا الحال إلى أن جاء محمد على فأحيا الخليج وأطلق عليه ترعة المحمودية تقربا للخليفة العثمانى محمود وأدخل عليها صناعات عدة كضرب الأرز وحلج القطن والأهم من هذه وتلك مصنع الطرابيش الذى أشتهرت به المدينة لسنوات طويلة إلى أن قامت ثورة 1952 فأغلقته بعد أن صدر قرارا بإلغائه كرمز من رموز البلاد.
رغم هذا الزخم التاريخى الأثرى الهائل وهذه الحقائق المدهشة ما تزال فوة مجهولة ومغيبة عن الخريطة السياحية...لم يسمع بها سوى القليل ممن على شاكلتى من محبى السفر والرحلات...إحياء فوة وخروجها إلى النور طريق يسير صعب. يسير لأنها تقع داخل منطقة ريفية يسهل الوصول إليها والتجوال داخلها...وصعب لأنها تقع فى منطقة بعيدة عن مركز الجذب السياحى ولا يهتم أهلها بدعوة غيرهم إليها. قد يكون الحال قد تغير قليلا بعد مضى خمس سنوات لكننى أرى أنها يجب أن تصبح ضمن حزام جذب سياحى يشمل الإسكندرية ورشيد وفوة. التغيرات فى رشيد على البر المقابل لها تبقى مدعاة للتفاؤل، فبها فندق سياحى كبير وموتيلات صغيرة ويمكن لزائر رشيد أن يعبر لزيارة فوة خلال يوم واحد، لكن الرجاء كل الرجاء فى أن تعمر بعربات التاكسى و المطاعم و الاستراحات، فهى السهلة الممتنعة، ويجب أن يتوقف الزائر عدة مرات فى تجوالها حولها ليلتقط أنفاسه الضائعة.



1.jpg 2.jpg 3.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى