عزيز معيفي - شغف.. ـ جولة في عرصة اليوسفي القصصية ـ

أعادتني قراءة نصوص اليوسفي القصصية إلى المتعة التي كنت أستشعرها، وأنا أقرأ في السجن خلال السنوات التي أمضيتها هناك كمعتقل رأي.

كانت الروايات والقصص، تعيد صلتي بالحياة المجتمعية التي انقطعت عنها. لم أعد أرى الناس.. أصبحت بعيدا عما يجري، وعن المصائر المختلفة.. وكأن فراغا مهولا خلقته الجدران والأقفال والأبواب الموصدة دون جداول الحياة.

الروايات والقصص أصبحت توفر لي متعة زائدة، وتعيد لي ارتباطي بذاتي وبالآخر.. غير أن لهذا الارتباط بعدا ثقافيا، لأنه نابع من مخيال قصاص، أو روائي.. ارتباط يتيح لي متعة مشاركة الكتاب آرائهم ومشاعرهم وعوالهم، ويحفزني على التمسك بالقيم والقناعات التي أومن بها..

المعاناة الإنسانية التي تابعتها عبر هذه الأعمال، عمقت إحساسي بقيمة الحرية والكرامة الإنسانية. ولذلك حين اطلعت على نصوص اليوسفي القصصية، أحسست وكأني أعود إلى السنوات الطويلة التي أمضيتها كسجين سياسي، ولكن سجين يقرأ، ويحب أن يقرأ، ويجب أن يقرأ الأعمال القصصية والروائية من مختلف الاتجاهات والمشارب.

فيما بعد غادرت السجن الصغير، وابتلعني السجن الكبير بطلاسمه. ولم أعد أقرأ بنفس الوثيرة السابقة.. وانقطع حبل السرة الذي كان يربطني بقمم الاستمتاع الأدبي والثقافي.

غير أن أعمال اليوسفي، أيقظت الكائن الخرافي الغارق في سباته بداخلي، وجعلته يحفزني على السعي في براري الإبداع بحثا عن الجميل والإبداعي قراءة ونقدا.

وكما يقول ماريو بارغاس يوسا: "الأدب هو أفضل ما تم اختراعه من أجل الوقاية من التعاسة"*، فاليوسفي بنى تجربته القصصية على البحث المستمر عما يمكن تسميته بالتجربة البيوقصصية. وهي تشبه "الجنان" حيث تتجاور مختلف أنواع المزروعات والأشجار. فبعض النصوص تشبه أشجار الجوز في قوتها وضخامتها، وبعضها تشبه النخيل في رشاقتها. إلا أنها تتميز في الأعم بطاقة دلالية تجذب القارئ، لأن القصاص "الفلاح" الذي أنتجها يعيش في نصوصه، كما يتنفس الفلاح الحقيقي عبق عرصته. فكيف تنشأ القصص عنده؟

اليوسفي عاش في مدينة مراكش، مراكش الشعبية البسيطة المضيافة. نشأ وهو يتطلع إلى أشعة الشمس من ظلال الحياة الشعبية بما تحمله من أفراح وأحزان ومعاناة.. الشمس التي ينشدها هي شمس الوطن للجميع. ومن حق الجميع أن ينعم بدفئها.. ولذلك فشخوصه لا يستسلمون دائما للمعاناة.. يكابدون من أجل العيش، وهم بذلك يجعلوه مقتنعا بأن تجربته القصصية تخصهم هم أيضا.. إنهم بمصائرهم جزء منه..

هذه التجربة تحولت إلى دودة شريطية حسب تعبير ماريو بارغاس يوسا، تسكن أحشاءه وتجعله يعيش من أجلها.. فإذا حدث وانقطع عن تغذيته، آلمته واضطرته للاستمرار.. ولا نكاد نعثر على الخط الفاصل بين ما يقنعنا به من حياة مبتكرة، وتفاصيل الحياة الواقعية.

فلنأخذ نص "حبة شعير" من المجموعة القصصية "هزّك الماء"، ونتفحص مليا مساحته الفنية، وما يقدمه من صور نابضة بالحياة في البادية المغربية، وكيف تتصرف أم مع ابنها بعد أن لاحظت ما أصاب جفنه من التهاب. فرغم اقتناعها بضرورة الالتجاء إلى المستوصف مع أخذ ما يُقدم كرشوة للممرض، فإن ظروف عمل زوجها منعتها من ذلك. عندها التجأت الى المعتقد السحري، ويتمثل في وضع حبة شعير تحت سبع أحجار، وانتظار من يسقطها لينتقل إليه المرض، وينجو منه ابنها المصاب..

هذا النص يتميز بتحقيق انشداد سردي عجيب إليه، كما أنه يجعل المتلقي غير مدرك تماما لمآل المسار السردي. فبمفهوم كمال أبو ديب في كتابه جدلية الخفاء والتجلي، تحدث المفاجأة، بحيث يصبح والد الطفل هو الضحية بعد أسقط الحجرات دون وعي منه.

وحسب باروني في كتابه شعرية الرواية ، تلعب الخدعة الفنية دورا هائلا في تحويل النص السردي إلى لوحة جذابة عن طريق الخدعة الفنية.

القارئ من جهته ينتظر تحقق الحل السحري، وانتقال المرض إلى طرف آخر، فإذا بالسحر ينقلب على الساحر، ويصبح ضحية له.

وتبقى الرسالة القيمية من النص، هي أن الطب هو الكفيل بحل مشاكل المريض، وليس الشعوذة والسحر. وكم نستلذ عودة اليوسفي إلى هذا المعتقد لمحاربة التصورات السحرية المختلفة في وعي المتلقي.

يشبه ملريو بارغاس يوسا عمل القصاص والروائي بما تقوم به(المحترفة) التي تخلع ملابسها أمام الجميع لإظهار جسدها عاريا. وهو مثال يبدو عاديا في التجمعات الفرجوية الغربية. إلا أن عمل القصاص ـ إذا كان ناجحا ـ يعتمد آلية عكسية، فهو ينطلق من نقطة بدء، من بؤرة سردية يبدأ بها نصه، ثم يخفي هذه النقطة تدريجيا باستعمال مكونات الخطاب الفني القصصي( خلفيات زمانية ومكانية/ شخصيات/ حبكة/ حوار/ وصف إلخ.. ). وفي النهاية يقدم لنا صورة من الحياة مخترعة، ولكنها مقنعة.

نص آخر سكن اليوسفي قبل ولادته، وخرج إلى الوجود حاملا عنوان "المسخ"، وهو موسوم بردود أفعال كاتبه بامتياز.

في بدايته وبحركة مسرحية تتقدم شخصية هامة و"خطيرة" حسب وصفها. لا تحمل اسما، ولكنها تحمل صفات تدل عليها حركاتها. هنا يتدخل وبدقة كبيرة، وصف الحركة، فيُسفر عن عرافة تُرقّص الحجر، ويخفنها النساء.

التعاقد الذي تجريه معها زهرة هو كسر شوكة زوجها العربي، والحد من تسلطه، ومن قهرها عن طريق مسخه، وتحويله إلى جرو..

جسد القصة مليء بالتفاصيل التي تمزج بن حركات زهرة وهواجسها، واقتناعها بالواقع الجديد: أي تحول زوجها إلى جرو..

لإنضاج الترقب تدخل زهرة في مونولوغ يعبر عن خوفها من تصرفات ستصدر عنها بعد تحول زوجها.. تقتنع بقوة السحر حتى يكاد المتلقي ينساق معها.. ثم فجأة تستفيق من حلمها، وتفحص زوجها فتجده لم يتحول مطلقا..

النص في حد ذاته انقشع كالفقاعة، وكشف عن واقع مرير، يتمثل في عجز المرأة عن حلول واقعية لما تتعرض له من مآسي، ولذلك تلجأ إلى الحلول السحرية رغم عدم قابليتها للتحقق.

نصوص جميلة ترصع تجربة اليوسفي القصصية التي تُحوّل صورا من الحياة إلى قطع أدبية شيقة ، يبقى الحديث حولها ، وكأنه خيط له بداية وليست له نهاية.


- عزيز معيفي: ناقد وشاعر وصحفي


الهامش :
* ماريو بارغاس يوسا : رسائل إلى روائي شاب ص 17

مراكش31 ماي 2023





1.jpg

2.jpg

4.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى