د. علي زين العابدين الحسيني - في حضرة رسول الله ﷺ

يا رب نظرة إلى مرقده الشريف ﷺ في هذه الأيام الفضيلة!
تبقى صورة المسجد النبوي باقية في النفوس ومخيلة في الأذهان قبل أن تراه؛ تلك الصورة التي ارتبطت بها القلوب، واشتاقت إليها النفوس.
كنت أدفع هذا الشوق الملح -وأنا صغير- بقراءة ما أستطيع من كتب الرحلات إلى الحجاز، ومشاهدة صور العائدين من هذه الأماكن المطهرة، فلا أعرف أحداً استطاع أن يصل إليها إلا أتيته في ذهابه وإيابه أستمع إلى حديثه، وأسأل وأستفسر عن مشاهداته.
لم يبق من التوق إلا الوقوف أمام الحجرة النبوية الشريفة والصلاة والسلام على صاحبها؛ لأرى الحقيقة ذاتها، وأقف على الجمال نفسه، فتشملني بركات المكان.
جاءت لحظة العمر بعد سنوات، أفضيت فور نزولي المدينة إلى أصحاب الرحلة برغبتي الملحة لزيارة النبي ﷺ وصحبه الكرام؛ فلم يعد في القلب طاقة لاحتمال أيّ راحة أو تضييع وقت؛ إننا هنا يا رفاق في المدينة، لكم أوقاتكم ولي وقتي، لا لقاء بيننا إلا يوم المغادرة، دعوني أنطلق إلى الراحة والطمأنينة.
أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ!
وما كان أحوج القلب يومئذٍ إلى هذا اللقاء، وإلى هذه الصلة الإيمانية!
توضأت وانطلقت، ثم سرت في شارع طويل لا أرى شيئاً أمامي إلا جمال القبة الخضراء، ها أنا قد وصلت باب السلام، صليت العصر ثم سرت في زحمة جمع من المحبين والعاشقين للجناب النبوي.
لم يكد المصلون يفرغون من صلاتهم حتى ابتدروا الباب يريدون الدخول، في وجوههم الشوق، وفي حركاتهم المودة.
يا لهيبة الموقف!
يا لجمال المشهد!
يا لنفحات الزمان والمكان!
أتريدون معرفة الطمأنينة؟ الطمأنينة هي في القرب منه صلى الله عليه وسلم.
أخذت قبل أن أبلغ مرقد رسول الله ﷺ تدور في ذهني عدة أفكار، ترى ما عسى أن يكون من أمري ساعة الوقوف أمامه ﷺ.
لم يبق بيني وبينه ﷺ سوى لحظات، عدت لأتذكر مظاهر العظمة والإجلال في حياته، جرى على لساني طرف من كلامه، وشيء من سيرته العطرة.
هنا كلام لا أفهمه، وهناك كلام لا أفهمه، وهنالك كلام لا أعيه.
كنت أسير في قوم من أشتات الناس والأجناس، بألسنة مختلفة، وملابس متعددة، وأشكال كثيرة، هنا يقر الكل بإظهار الحب والشوق في حضرته ﷺ، يا الله كيف اجتمعت هذه القلوب واختلفت تلك الألسن في هذا الشهد المهيب؟!
فإذا رأيت للواردين خشوعاً فهو الحبّ، أو رقة فسمها الشوق، أو دمعة فقل إنها التعلق، أو صمتاً فهو الهيبة!
تخطيت كلّ الحواجز ووقفت في زاوية متأملًا، هأنذا أمام قبره ﷺ، العين دامعة، والقلب وجل، والفكر في حالة ذهول، ها أنا قد حظيت بأعظم موقف وقفته في حياتي، لقد محا هذا الموقف كل الصور والتخيلات التي كانت في ذهني من قبل.
لقد صرتُ في حقيقة شهدتها عيناي!
حقاً لا تغني الصور مهما بلغت من الدقة عن الحقيقة أبداً.
انظر إلى كلّ هذا الجمال، وهذا البهاء، وهذا الإشراق، ألا ترى جنة الدنيا التي تحول القلوب إلى عالم آخر مليء بالمحبة والهيبة والرهبة؟
لم تكد العين تشاهد هذا الحسن والألق حتى سرى منها إلى قلبي سيَّال من الشعور المتّقد الذي حرّك لساني بالصلاة والسلام على سيدي رسول الله.
بات الخشوع يخيم على الجميع، والرهبة واضحة في حضرته ﷺ، القلوب مملوءة بحبه، والنفوس فياضة بالبشر والمسرة، لم يعكر صفو تلك اللحظات إلا صوت ذلك الرجل الذي لا يقدر للمكان هيبته، لقد استفزنا صوت المنادي؛ إذ لا يعرف مدى شوق المحرومين من تلك المشاعر، لقد قال بصوت بارد: أن انصرفوا وعجلوا بالخروج!
وهو حديد اللسان جريء القول!
صرت لا أعي ما يقوله، حتى رأيت مَن بجانبي تدمع عيناه، أحقا ما قاله هذا الرجل؟ وهل يحقّ لأحد أن يصرف المحبين عن حبيبهم؟!
وتبيَّن الأسى في وجه الزائرين!
وهل خلا الناس ممن يعرفون لهذه الأماكن قدسيتها؟!
همتْ نفسي أن أجادله، ويحك أيها الرجل أبعد كلّ هذا الجهد المبذول وفي حضرة هذا الجمال الآسر تأمرنا بالانصراف؟
ألا تعلم أنّ الأجساد لا يحركها إلا الرغبة؟
لقد باتت رغبتنا في الوقوف والتزود من تلك النفحات الربانية.
إنّك لو أبصرت حينئذٍ عيون هؤلاء المساكين لرأيتهم على زلزلةٍ من شدة الحرمان.
إنّها لحظة تشعر فيها بالاضطراب والخوف والقهر.
انصرفت مضطراً كما انصرف غيري، وآثار الحزن واضحة على الجميع، أبصرت شيخاً كبيراً لم يكترث لذلك، فلا جزع ولا تغير، بل قال لي: يا ولدي! هو أقل من أن يصرفنا عن غايتنا!
فلما سكن المكان رجعت مهرولًا إلى قبره الشريف ﷺ مرة ثانية؛ لأغترف من هذا الفيض الروحاني، سرت مع الجمع حيث ساروا، وفي تلك الأثناء تذكرت تلك المواقف التي غيرت حياة أهل المدينة بأكملها، واستعدت مواقف وصورة مشاهد من حياته ﷺ.
وإنّي لأستعيد تلك المشاهد الرهيبة بعد كل هذه السنوات فتمتلئ نفسي خشوعاً وهيبة.
بلغنا الحجرة النبوية، ووقفت أقرب ما أكون أمام المقصورة الجميلة، وتلوت بخشوعٍ: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أكرم الخلق أجمعين، السلام عليك يا سيدي، أشهد وأقر وأعترف أنّك رسول الله، قد بلغتَ الرسالة، وأديتَ الأمانة، ونصرتَ دينه عزّ وجل".
وقفت وقفة طويلة، شاخصاً إلى مرقده صلى الله عليه وسلم، متجهاً بقلبي وجميع جوارحي، لقد كنتُ في حيرة ماذا أفعل؟!
ماتت كلّ أفكاري إلا فكرة واحدة بقيت حية في قلبي، وهي: "كيف سأترك هذه الجنان بعد أيام؟".
هنا قطع الرجل حيرتي وصدني عن التأمل، فنادى بمثل قولته، لكني عدت كما عدت، وفي كل مرة أستلهم موقفاً من مواقف السيرة النبوية، قد مللت العدّ فما بين ذهاب وإياب لأتشبع بهذا الجمال، وأملأ وجداني بهذا النور، وما منعني من الوصول ورغبني في الانقطاع أخيراً -ولا ينبغي لصادق أن ينقطع مهما أوذي- إلا تلك النظرة التي تتوعدني في عيني الرجل.
وما أنقذني من الموقف إلا ذهابي إلى الروضة النبوية لأؤدي الصلاة فيها، وأجلس في حرمها وجمالها أردد ما فتح الله علي فيها من أذكار ودعوات.
وانحصرت نفسي فيها، وانفتح لي باب تفكر، وردت إليّ ما تفرق من عقلي!
أيتها الروضة! إنّما حياة القلوب بين جنباتك.
ثم أحسست أن فراغاً في نفسي قد أشبع ويريد أن يفيض، وأن راناً في قلبي قد ذاب ويهمّ أن يغادر، فبدأتُ أشعر بروحانية غريبة!
انظر إلى تلك الروضة، إلى الروضة الشريفة التي تعجز كلّ أماكن الأرض أن تشابهها!
وباقتراب الوافد من سفره يصبح في حال آخر، فتختلط عليه الحياة بالموت، ويعود في مثل حيرة الطفل حين يفقد أمه، فتعروه كآبة، وتصيبه حسرة شديدة يشعر بها كلما تذكر تلك الأوقات الشريفة.
لستُ أذكر أنّي ساورتني مثل هذه الحسرة في مكان إلا في المسجد النبوي الشريف.
الحياة ... أتريد أن تعرفها على حقيقتها؟ هي السكن في مدينته ﷺ.
أين المتاع بالحياة وجمالها إذا نحن ابتعدنا عن المدينة المنورة؟
ما أعظم السكن إلى جواره صلى الله عليه وسلم!
تبارك الذي جعل الصلاة والسلام عليه سبباً لتفريج الهموم وقضاء الحوائج!
لم تسعدني الأيام بإمتاع النظر في جمال روضته كثيراً!
رميتُ بنظري إلى قبره الشريف ﷺ ثم خرجت، أكاد لا أقوى على الانصراف.
إنّ الفؤاد حزين، والجسم عليل، يكاد يفري الأسى كبده لفراق رسول الله ﷺ.
يا لحسرة القلوب!
وإنّي لأرجو تكرار الزيارة!


د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري



د. علي.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى